بالنسبة إلى الكورسيكيين، الذين وضع لهم في عمله «المشروع الدستوري» دستورا لبلدهم، أوصى روسو بتعزيز اقتصادهم القائم على الزراعة بشكل أساسي لأجل تحقيق الاكتفاء الذاتي وليس تحقيق فائض، ومشاركة أراضيهم ومحاصيلهم فيما بينهم والتمتع بهما بالتساوي وباقتصاد قدر الإمكان، وجمع ضرائبها العامة المستحقة بشكل عيني أو عملي بدلا من الشكل النقدي. وبالنسبة للبولنديين الذين أثنى روسو على عشقهم للحرية، أوصى بخطة للتربية تشمل الألعاب والمنح الدراسية الوطنية، والاكتفاء بالمربين البولنديين؛ من أجل جعل الطلاب «أبناء الدولة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، إضافة إلى خطة للتشريع تتبنى وجود التزام شديد من جانب أعضاء المجلس النيابي الوطني الواحد تجاه ناخبيهم. يشير كل نص من النصين أو يلمح إلى أفكار سبق أن أعرب عنها روسو في «العقد الاجتماعي»، وعمله «حكومة بولندا» يعرض تحديدا مقابلات عديدة بين المجلسين النيابيين البولندي والإنجليزي، وهي التي تأتي دائما في غير صالح مجلس العموم الإنجليزي الذي أثبت إقصاؤه عام 1764 حتى لشخص مثل جون ويلكس، كما هو موضح هنا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مرة أخرى مدى السيطرة المحدودة التي كان يمارسها الشعب الإنجليزي على برلمانه.
شكل 4-3: صفحة العنوان لكتاب «حكومة بولندا» (1782).
لم ينشر أي من هذين العملين أو ينتشران على نطاق واسع في حياة روسو؛ ولذا لم يكن من الممكن إلقاء اللوم عليه بأي حال لاستحواذ فرنسا الكارثي على كورسيكا (في عام 1769، وهو العام الذي ولد فيه نابليون في أجاكسيو) أو التقسيم الأول لبولندا (في 1772)، في كلتا الحالتين مباشرة بعد أن شرع في الدفاع الدستوري عن حريات مواطني الدولتين. ولا يمكن أن يكون هناك سبب وجيه لمشاركته الهاجس، الذي استحوذ عليه في لحظة من لحظات جنون الاضطهاد الشديدة، بأن الهدف من غزو كورسيكا النيل منه. لكن لعله وبعض أنصاره المعاصرين له، أخطئوا؛ إذ افترضوا أن أفكاره السياسية كمشرع للدول الجديدة لم يكن ليصبح لها أي تداعيات ثورية. وعلى فرض أن البشر يجب التعاطي معهم دوما كما هم، حاج روسو رغم ذلك في «العقد الاجتماعي»، كما فعل من قبل بالضبط في «خطاب عن اللامساواة»، بأن الطبيعة البشرية يمكن أن تتغير. في الفصل الذي يتناول فيه المشرع (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل السابع)، ذكر روسو أن مهمة مثل هذا الشخص المميز، الذي يعد المؤسس الحقيقي للأمة أو الدين، تتلخص في تحويل الأشخاص المنعزلين إلى أجزاء من كيان أكبر منهم بكثير يستقي منه المواطنون بعدئذ حياتهم ووجودهم. واقترح روسو أن ليكرجوس من بين القدماء، وكالفين من بين المعاصرين ينطبق عليهما توصيف المشرع، مضيفا إليهما النبي موسى بين اليهود ونوما بين الرومان وذلك في الفصل الثاني من عمله «حكومة بولندا». شغل كل من هؤلاء الرموز مكانة استثنائية في الدولة، على ما يبدو بوازع من وحي رباني، مثل الملك الفيلسوف من وجهة نظر أفلاطون أو الأفراد التاريخيين العالميين بحسب هيجل، ووجهوا الجهال والحيارى نحو فجر جديد لم يكن باستطاعتهم تخيله دون عون خارجي. وفور وصولهم إلى الأرض الموعودة سياسيا، لم يضطلع المشرعون بأي جزء آخر من شئونها، كما لمح روسو بالفعل في «خطاب عن فضيلة البطولية» عام 1751 (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، الذي خطه متأثرا بأفكار استلهمها من كتاب «المنافع» لشيشرون في محاولة للحصول على جائزة أدبية أخرى تقدمها أكاديمية كورسيكا، لكنه تخلى عنه لاحقا. لم تكن وظيفة المشرعين ممارسة الحكم، بل تعزيز تمجيد كل من العقل والعمل للمصلحة العامة بين المواطنين بشكل من أشكال الإغواء السامي، بحسب زعم روسو. إنهم يتظاهرون بأنهم مفسرون للكلمة الإلهية، ويحثون دون إقناع. وهم لا ينتمون للحكومة ولا لصاحب السيادة. لكن شأنهم شأن بروميثيوس؛ إذ أهدى البشرية النار، فهم يجعلون التحول الأخلاقي للبشر ممكنا. إن مثل هذا المجاز، الذي أعاد نيتشه الكاره لروسو صياغته، سيأخذ ليس شكل التوجيه وحسب، بل الطاقة والقوة الإبداعيتين؛ حيث سينتقل إلى مجال يتجاوز معايير الخير والشر المبتذلة للحضارة.
في «العقد الاجتماعي»، قدر لروسو نفسه أن يلهم المشرعين المستقبليين في أواخر القرن الثامن عشر. ففي الفصل الخامس عشر من الكتاب الثالث، لاحظ روسو أن ثمة مؤسستين: المؤسسة المالية والمؤسسة النيابية، كانتا مجهولتين للبشر البدائيين الذين لم تكن لديهم حتى اصطلاحات للتعبير عن مثل هذه الأفكار. ولقد أدت الأولى، التي سماها «كلمة العبودية» وشجبها أيضا باعتبارها بدعة حديثة في كل من عمليه «دستور كورسيكا» و«حكومة بولندا»، إلى نشأة الإلزام بدفع بعض أموالهم - تلك الآفة المهيمنة الناجمة عن المجتمع التجاري، والتي انتقدها بالمثل في «مقالة عن أصل اللغات» - الذي يحث المواطنين على سداد الضرائب، حتى يمكن تعيين الجنود والنواب ليتسنى للمواطنين أنفسهم البقاء بالبيت. أما الثانية التي تمخضت عن فكرة الحكومة الإقطاعية عبر مفهومها الخاص بالسلطة المفوضة كما تتحقق في الأوامر المختلفة الصادرة من مجلس الطبقات العام، ومن بعد ذلك عبر الصلات التعاقدية التي وضع جروشيوس وتلامذته أفكارهم المتعلقة بالسيادة بناء عليها، تبعد بالقدر نفسه الأفراد في العالم الحديث عن واجباتهم العامة كأعضاء بالدولة، حيث إن ذاتها المشتركة أو هويتها المؤسسية تتخذ شكل «هيئة معنوية» لا تعدو كونها المواطنين أنفسهم يعملون بشكل جمعي، وذلك بحسب زعمه في الفصل السادس من الكتاب الأول، والفصل الرابع من الكتاب الثاني. إن الحرية المدنية، التي تقيدها وحسب الإرادة العامة، والحرية الأخلاقية، بحسب تجليها في استقلال المواطنين أو إذعانهم للقوانين التي يلزمون أنفسهم بها، في المقابل مبادئ عتيقة؛ فالأولى مبدأ روماني والثاني مبدأ يوناني، استبعد تعريفهما الذي أورده روسو في الفصل الثامن من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي» كلا من المؤسستين المالية والنيابية.
رغم سعي المشرعين القدماء إلى إقامة صلات من شأنها ربط المواطنين بدولتهم وبعضهم ببعض، فقوانين الأمم الحديثة تسعى فقط لإخضاع المواطنين للسلطة، وبذلك فإنها تقصي سعينا وراء الحرية من النطاق العام وتزج به في النطاق الخاص. تساءل روسو في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» أين اليوم «التوافق بين المواطنين»؟ أين «الإخاء العام» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح)؟ في «حكومة بولندا» بالمثل، دعا روسو الشباب البولنديين لإعادة إذكاء «روح المؤسسات القديمة» (الذي هو عنوان الفصل الثاني لهذا العمل) كي يعتادوا على «المساواة» و«الإخاء» (الفصل الرابع: الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، كمواطنين بدولة حرة حقا. وبينما كانت الحرية مرتبطة قبل ذلك بالمساواة والإخاء، دمرت المؤسسة النيابية الإخاء، وأهدرت المؤسسة المالية المساواة، بحسب ظن روسو، بحيث إنها أمست فعليا في العالم الحديث، بعد انقطاعها عن صلاتها القديمة، لا تعني شيئا أكثر من السعي وراء المنافع الشخصية.
وبالربط بهذه الطريقة بين أفكار الحرية والمساواة والإخاء، قد يبدو أن روسو بشر بثورة فرنسية مرتقبة، حتى وإن كان يتحدث عن عالم بائد. ويرجع جانب كبير من تقديره للحرية الجمهورية القديمة إلى مؤلف مكيافيللي «نقاشات»، لكن في أعماله أشعل هذا التقدير حماسا جديدا من جانبه، بما أنه على النقيض من مكيافيللي افترض أن الطبيعة البشرية كانت عرضة دائما للتغيير، وبينما تعرضت للفساد، كان بالإمكان رغم ذلك تحسينها، على الأقل نظريا. «لنستخلص من الشر نفسه الدواء الذي ينبغي أن يداويها»، هكذا صرح روسو في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «مخطوطة جنيف» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مضيفا بعدها ببضع سنوات في الكتاب الثالث من «إميل» أننا «شارفنا على حالة الأزمة ودنونا من عصر الثورات.» وقال أيضا: «أعتقد أنه من المستحيل أن تصمد الممالك العظيمة لأوروبا لفترة أطول» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لم يكن من المقصود الإعراب عن أي تحذير سياسي في هذا الزعم الذي أعلن عنه بقوة مماثلة غيره من رموز عصره الذين تمنوا عدم حدوث ثورات في العالم المتحضر. لكن، إذا كان روسو نفسه قد تاق لمستقبل سياسي متغير بالكامل للبشرية، وفي الوقت نفسه لم يعلق آمالا عريضة على ذلك، فإن مبادئ «العقد الاجتماعي» لاقت تقديرا عظيما خلال مسار الثورة الفرنسية وكأنها شكلت الوصايا العشر لجمهورية فرنسا الجديدة.
ولقد أقر بذلك لوي سباستيان ميرسييه الذي يرجع عمله «روسو، كأحد أوائل كتاب الثورة» إلى عام 1791، وكذلك بيرك الذي أدان في عمله «رسالة إلى عضو بالمجلس الوطني» في العام نفسه «سقراط المجنون» الذي ألهم إحياء مدمرا بالمرة لأخلاق البشر، والذي كان حينئذ مثالو باريس يصوغون تماثيلهم تخليدا لذكراه «بقدور الفقراء وأجراس الكنائس». إن النقاشات الثورية التي أفضت إلى تأسيس المجلس الوطني الفرنسي في يونيو 1789 دارت بقدر كبير حول مسائل المساءلة العامة التي أصر عليها روسو في «حكومة بولندا» لضمان شعور نواب البرلمان البولندي بالالتزام تجاه تفويض ناخبيهم لهم بالتعبير عن إرادة الشعب (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبينما فرض الأب سيياس وغيره من أنصار التمثيل النيابي غير المقيد رأيهم على النواب الذين وافقوا على وجهات النظر هذه، كانت جاذبية مبادئ روسو بشكل عام قوية للغاية طوال مسار الثورة الفرنسية لدرجة أنه في عام 1801، وبعد 12 عاما من التحولات السياسية الكبرى على الإطلاق في العالم الحديث، نشرت مجلة جازيت دي فرانس أن «العقد الاجتماعي» كان كتاب الحياة الذي أدى إلى وقوع هذه الأحداث وأنار لها الطريق. حتى صعود نجم نابليون بونابرت، الذي لم يخف عليه إشادة روسو بكورسيكا في ذلك النص، ألهم إصدار طبعة جديدة من ذلك العمل مهداة إلى الرجل الذي أمسى أبرز مواطني فرنسا، وكأن إشاراته المرجعية للإرادة العامة كان يراد بها في واقع الأمر إرادة الجنرال. لم يكن هناك أي مفكر سياسي آخر، قديما كان أو حديثا، في تلك الفترة يحظى بتوقير كذلك الذي حظي به روسو، وفي عام 1794، بعد فترة الإرهاب الثوري، أخرج رفاته من قبره بجزيرة بوبلرز بإيرمنوفيل، ونقلت إلى مقبرة العظماء بباريس حيث توج وسط احتفالات مهيبة بطلا للأمة التي كره سياستها وثقافتها ودينها أكثر من أي شيء، والأدهى من ذلك ، تأبيدا لعذابه، أنه دفن قبالة فولتير.
ولكن في عام 1762، لم يكن روسو ليتوقع حدوث مثل ذلك التقدير. فعندما ظهر «العقد الاجتماعي» إلى النور، تسبب في فضيحة فورية، وحظر توزيعه في فرنسا، واضطر روسو إلى الفرار من البلد خشية أن يزج به في السجن، ليجد الطريق أمامه مسدودا إلى جنيف نظرا للغضب العام المماثل الذي ماجت به المدينة. ورغم ذلك، لم تكن أفكاره عن الحرية أو السيادة هي التي أثارت القلاقل الحقيقية آنذاك. فقد نظر إليه أنه خطر على النظام المدني خاصة لأن الفصل قبل الأخير من «العقد الاجتماعي» الذي تناول الدين المدني، إضافة إلى أفكار شبيهة في كتاب «إميل» الذي نشر تقريبا في الفترة نفسها، عدت تجديفا، فاعتبر نظامه السياسي بناء على ذلك مجرما ومحرضا على الفتنة والشقاق فقط بسبب إساءته للمسيحية.
شكل 4-4: قبر روسو بجزيرة بوبلرز، من نقش لمورو الأصغر.
الفصل الخامس
نامعلوم صفحہ