وعلى الفور ينتقل صلاح جاهين إلى الأرض ليشير إلى رموز الجمال والفتنة والرقة وقد أصبحت مغشيا عليها أو هي بسبيلها إلى الفناء، كأنما نحن نطالع تراثا كاملا من الشعراء الإنجليز في القرن السابع عشر الذين احتفلوا بالحياة عن طريق تأمل الموت، وذلك من خلال ما يسمى بثيمة عش يومك
CARPE DIEM
أي اقتطف لحظة الزمان السانحة فهي مثل الزهور تورق وتخضئل ثم تذوي ويبتلعها خضم الفناء! «المقاطف» هي أدوات إهالة التراب و«التراب» الذي يربطنا بالتربة سيصبح زهورا لكي يؤدي بنا إلى صورة أساسية في الشعر الإنجليزي الحديث أيضا وهي «الخوف الكامن في حفنة من التراب» (
FEAR IN A HANDFUL OF DUST ) - وهي الصورة التي يشير بها ت. س. إليوت إلى أسطورة سيبيل اليونانية التي تمنت أن تعيش طويلا فوعدتها الآلهة بعدد من السنوات يساوي عدد حبات الرمل أو التراب التي تستطيع أن تقبض عليها بيدها! فعاشت دهورا وأخذت تنكمش حتى أصبحت في حجم الطائر الصغير فوضعها الناس في قفص وكان التلاميذ يمرون عليها في طريقهم إلى المدرسة وإذا سألوها ماذا تريدين يا سيبيل؟ قالت لهم أريد أن أموت!
وأرجو ألا يتصور القارئ أنني من أتباع المدرسة التفكيكية
DECON-STRUCTION
الذين يرون في النص أكثر مما به من معان أو ينادون بتغير معناه من قارئ إلى قارئ، بل أنا من دعاة الالتزام بالنص وحسب، وهو هنا - ودون مجاراة - نص ذو نغمة خاصة تتطلب قراءة خاصة! ف «المقطف»، في العامية المصرية لا يملأ إلا ترابا، وحين يملأ خبزا (مثلا) يصبح فردا (فرد عيش/فرد سرس ... إلخ) بترقيق الراء لا تفخيمها ، فإذا تصورنا هذا المقطف الذي يرتبط بالأرض مثل هذا الارتباط، وقد امتلأ بزهور مغمى عليها أو في سكرات الموت - بمعنى الغياب عن الوعي أو الوقوف على مشارف العالم الآخر (شأنها شأن جميع الأحياء الذين لا تقاس أعمارهم إلا باللحظات العابرة) وتصورنا ما سيفعله صاحبنا (المخاطب أو المتحدث) من تحويل هذه المثل العليا للجمال والرقة إلى عطر «طيار» هو حلقة الوصل بين الوجود والعدم (فهو رائحة أي روح والعلاقة بين الروح والريح والروح والرواح أكثر من اشتقاقية!) وإذا تصورنا بعد هذا كله أن «عبير العبر»، لن يفلح في إيصال «العبرة» بل سيتجمد في صورة هي أقسى صور الانشغال بالأرض وكنوزها؛ صورة «الذهب». (وليس من قبيل الصدفة أن يختار الشاعر هذه الصورة ليربط الثراء «حي الغناي» بالمرض «العليل» والموت «الترب» من خلال الذهب الذي يتحول - كما يعرف كل دارس لتاريخنا المصري - إلى تابوت: «بل إن دود القبر يحيا في توابيت الذهب!» (تاجر البندقية، لشيكسبير).) أقول إذا تصورنا ذلك كله فسوف نعرف أن رنة الجد خادعة وأنها تخفي مفارقة تجعل الشاعر أشد سخرية مما قد يتبادر إلى ذهن القارئ المتعجل، فهو يسخر في آن واحد من الأحياء والأموات، وهو يضفي معاني جديدة على البيت التالي (وتدهس على العضم وتقول كلام فلسفة/ وتملأ كتب!) إذ يفرغ الفلسفة من معناها أمام الموت، ويجعل الكتب مجرد أوراق خاوية، خصوصا عند تحويل هذا الدرس القاسي إلى فوائد مادية زائفة خادعة تعكس تماما (أي تأتي بعكس أو نقيض) ما يقوله في ختام قصيدته «فمنها عبادة ومنها استفادة ومنها أدب!» فالعبادة ليست مجرد الحصول على «الثواب» (الأجر)، والفائدة المادية - كما سبق القول - خادعة، والأدب مجرد كلام يطير في الهواء مثل الرائحة (الروح) وإن كان في الحقيقة أي في معناه الحقيقي ذا وجود أبدي مثل الروح نفسها!
ولو لم تكن هذه النغمات المتفاوتة ما استطاع الشاعر أن يصل بنا إلى ذروة المرارة في محاولته التمسك بالحياة عند إعلانه الحب للأحياء في بيوتهم أكثر من حبه للمقابر! ولم ينس صلاح جاهين أن يذكرنا هنا أنه يحاول ذلك بعقله لا بقلبه، فهو نوع من الحب الذي يمليه منطق الأحياء، إذ نشتم هذا المعنى من تركيبة «بعقلي الرزين» التي قد تعني «متوسلا بعقلي لا بقلبي» وقد تعني «لأن لي عقلا منطقيا غير عاطفي»، وهو يؤكد هذه المفارقة حين يقدم «البيوت» (التي هي أحجار ميتة بل ومآلها الهدم) على الأحياء الذين لا نسمع عنهم بل ولا نجد لهم ذكرا في أي مكان في تلك القصيدة العجيبة!
إن التنويع الشديد في «النغمة» يمكن الشاعر من أن ينتقل بنا من حالة نفسية إلى نقيضها، ولا يخفى على دارس الشعر والترجمة مغزى الانتقال من ضمير المتكلم (باحب) إلى ضمير المخاطب (تمشي تسمع - مافيش غيرك أنت) ثم العودة إلى ضمير المتكلم في الأبيات الأربعة الأخيرة، فإلى جانب توالي التقابل بين المتكلم والمخاطب نجد أن التقابل يتوهج أيضا بين الحياة والموت، حين تختلف «نغمات» أفكار الحياة لتكتسي مذاق «الفناء»، وتختلف نغمات أفكار «الفناء» لتصبح الحياة الحقيقية؛ أي الحياة فيما بعد الموت!
3
نامعلوم صفحہ