الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)
الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)
اصناف
ومن ذلك اليوم ابتدأت أن أعلم أنه يريد أن يتخذني خليلة له لا حليلة، فأصبت بحمى ضعضعت حواسي أياما طويلة، ثم نقهت من دائي فذهبت من يوم برئي إلى كاهن، واعترفت له بجميع ما كان، فأملني بعفو الله عني، وأمرني أن أغادر هذا الرجل وأن أعود إلى أبي، فخرجت من حضرته وقد عزمت على أن أمتثل لأمره، وذهبت إلى منزله فأخبرته باعترافي إلى الكاهن، وبعزمي على الرحيل، فلم يحفل بطلبي وقال لي ببرود: إلى أين؟
فأنست من سؤاله عدم الاهتمام، وثارت بي الأنفة والأبوة، فقلت بعظمة وكبرياء: إني سأذهب إلى بيت أبي.
فتصنع الاضطراب وقال: أبوك؟
قلت: نعم أبي، وهو سيصفح عني ويغفر لي ذنبي لا ريب متى علم كيف كان خداعك لي.
فتنهد وقال بصوت الحزين الآسف: وا أسفاه! إني أكتم عنك من زمن طويل أمرا لم أكن أجسر على إطلاعك عليه لرقة عواطفك، ولخوفي عليك من تأثير الأحزان، ولكني لا أجد الآن بدا من إيقافك على ما كنت أكره أن أوقفك عليه؛ لأنك عزمت عزما ثابتا على فراقي.
ثم أخذ من جيبه كتابا عليه إطار أسود وقدمه لي، فأغمي علي بعد أن اطلعت عليه، وكان هذا الكتاب - وا أسفاه - ينعي أبي الذي مات من الحزن لأجلي، والذي لم يقتله سواي.
قالت هذا واتكأت على صدر أرمان تبكي بكاء مؤلما، فجعل يعزيها ويلاطفها إلى أن هدأت ثورة أحزانها، فعادت إلى تتمة حديثها فقالت: قلت لك إن أبي قد مات ولم يكن لي سواه في هذا العالم، فمذ رأيتني فريدة شريدة لا ملجأ لي ولا نصير غير أندريا الذي كان حبه لا يزال متمكنا من قلبي، رجعت عن سابق عزمي، وعولت على البقاء معه، وأنا أرجو أن يرق لمصابي ويفي بوعوده لي، فصرفت الشهور الأولى من حدادي وهو يتودد إلي ويعاملني بلطف وحنان، ولكنه لم يلبث بعد حين أن غلبه الطبع وعاد إلى معاملتي كخليلة، فقطعت كل رجاء، وعلمت أني كتبت أمالي على صفحات الماء.
وربما كان يحبني، ولكن حبه لي كان أشبه بحبه لكلبه أو لحصانه أو لمتاع يملكه، ثم أدركه الملل فجعل حبه يتلاشى شيئا فشيئا إلى أن زال تماما، وقام مقامه الجفاء والقسوة.
ولا بد أنك تستغرب بقائي على حبه بعد ما ظهر لي من قسوته، وبعد ما تيقنته من جفائه، فإني كنت معه على حد قول الشاعر:
أدعوه إلى هجرة قلبي فيتبعني
نامعلوم صفحہ