وأيضًا فإن القوى المنفعلة فيها، أعني الرطوبة واليبوسة لما كانت كالهيولى للقوى الفاعلة، أعني الحرارة والبرودة والفاعلة لها كالصورة، كان من الواجب أن تكون هذه القوى تدركها معًا. ولو كان إدراك الحرارة والبرودة بقوة واحدة والرطوبة واليبوسة بقوة أخرى لم تدرك ولا واحدة منها هذه المتضادات على كنهها، وليس كذلك الأمر في السمع والبصر. فإن حاسة البصر إنما تدرك تضادًا واحدًا وهو الأبيض والأسود من جهة أنه ليس يقترن بذلك تضاد آخر وكذلك الحال في إدراك السمع الثقيل والخفيف، وقد تدرك غير هذه الحاسة أكثر من تضاد واحد، وهو المتضادات الموضوعة لمحسوسها الأول كإدراك السمع الخشن والأملس الذي هو موضوع الصوت، ومثال إدراك البصر البراق ولا براق اللذين موضوعهما الأبيض والأسود.
وبهذه ينحل الشك الذي يظن به أن هذه القوة أكثر من قوة واحدة أن كانت تدرك أكثر من تضاد واحد.
وقد يظهر ذلك أيضًا إذا تبين أن آلة هذه القوة واحدة وذلك أن أحد ما تتعدد به هذه القوى هي آلتها، إذ كنا نرى ضرورة أن القوة الواحدة لها آلة واحدة وأن هذا منعكس. ولذلك ما ينبغي أن نفحص أولًا ما هذه الآلة وهل هي واحد أو كثير، فإنه ليس الأمر في ذلك بينًا كبيانه في الحواس الأخر وإن كان هذا الفحص أليق بكتاب الحيوان.
فنقول إنه مما تبين في ذلك الكتاب أن الأعضاء آلة للنفس وإنها إنما اختلفت خلقها لاختلاف أفعال النفس، حتى تكون العين مثلًا إنما وجدت مركبة من ماء وهواء من أجل الإبصار، وهذا بين في الأعضاء المركبة وهي التي لعس تشبه أجزاؤها بعضها بعضًا.
وأما الأعضاء البسيطة وهي التي أَجزاؤها لشبه بعضها بعضًا فيظهر في كثير منها إنما كونت من أجل المركبة كاليد التي تأتلف من عظام وأوتار وغير ذلك، وقد يظهر أيضًا في بعضها أنها إنما وجب أن تنقسم إلى بسيط ومركب من اجل انقسام قوى النفس، وذلك أن القوى الأربع التي تقدم ذكرها إنما توجد في أعضاء آلية.
وأما حس اللمس فلما كان شائعًا في جميع الجسد ومشتركًا لجميع الأعضاء وجب ضرِورة أن يكون العضو الذي يخصه مشتركًا بسيطا غير آلي. ولما كانت أيضًا هذه القوة ليس يخلو منها حيوان لزم ضرورة أن لا يخلو حيوان من هذا العضو، وليس في الحيوان شيء يرى أنه بهذه الصفة غير اللحم، وذلك انه العضو الذي يرى أنا إذا غمز ناعليه أحسسنا مع أنه مشترك لجميع الحيوان.
ومن هنا ينحل الشك الذي نظن به أن اللحم لعلة ليس بآلة هذه القوة، وأن منزلته منزلة المتوسط، كما يظهر ذلك من قول ثامسطيوس وأرسطر في كتابه في النفس بخلاف قوله في كتاب الحيوان. فإنه كما قيل ليس في وجود اللحم يحس بالأشياء التي تلقاه كفاية في أنه آلة هذا الإدراك، بل لعل الآلة تكون من داخله ويكون هو كالمتوسط. فإنا لو لبسنا الحيوان جلدًا ثم غمزنا عليه وجدناه يحس.
وذلك انه إذا تحفظ بما تبين في كتاب الحيوان وما قلناه أيضًا من أن آلة هذه القوة يجب أن تكون بسيطة ومشتركة لجميع الحيوان، وأضيف إلى هذا ما يظفر بالتشريح، وهو أنه ليس يوجد في جسد الحيوان عضو بهذه الصفة يرى أنه يحس غير اللحم تبين باضطرار أن آلة هذا الحس هي اللحم.
فأما الأعصاب التي يرى جالينوس أنها آلة الحس فهي إذا كانت ذات شكل وتجويف محسوس في بعضها، كالحال في العروق، فهي أقرب أن يكون إليه منها أن تكون بسيطة كاللحم. وأيضًا فليست مشتركة لجميع الجسد، ولو كان الأمر كما ظن لما كان يحس بجميع أجزاء اللحم الحيوان، لكن إذا تؤمل الأمر فيها وجد لها مدخل في وجود الحس بوجه ما، وذلك أنا إذا وضعنا ما يظهر بالتشريح من أن كثيرًا من الأعضاء إذا اعتل العصب الذي يأتيها أو انقطع عسر حسها.
وأضفنا إلى هذه أن الطبيعة لا تفعل شيئًا باطلًا وإن كان هذه الأعصاب لمكان فعل ما أو انفعال، أعني من أفعال النفس أو انفعالاتها ظهر من مجموع هذا أن العصب له مدخل ما في وجود الحس، وذلك أن استعمال طريقة الارتفاع مجردة في استنباط أفعال هذه الأعضاء. قد تبين في علم المنطق اختلاله على ما من عادة جالينوس أن يستعمل ذلك، وكثير ممن سلف من المشرحين، لكن أن كان ولا بد للعصب "من" مدخل في وجود الحس فعلى أي جهة ليت شعري يكون ذلك.
1 / 13