تقديم سماحة الرئيس العام لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم سماحة الرئيس العام لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد/ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين. والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله ودعا بدعوته ونصر سنته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه رسالة موجزة يقدمها للقراء صاحب السمو الملكي الأمير المكرم بندر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود ضاعف الله مثوبته ونصر به الحق وهي من مؤلفات عم جده الثالث تركي ابن عبد الله الإمام العلامة ناصر السنة وقامع البدعة عبد العزيز بن محمد بن سعود أمير المؤمنين في عصره وحامل لواء الجهاد في زمانه في البلاد النجدية وملحقاتها تولى الإمامة بعد أبيه محمد بن سعود ﵀ وبايعه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمراء والأجناد والمسلمون بعد وفاة أبيه ﵀ عام ١١٧٩هـ. وقام بالإمامة والدعوة إلى الله سبحانه والجهاد في سبيله أحسن قيام واستمر في ذلك مجاهدًا في سبيل
1 / 3
الله ناصرًا للسنة وقامعًا للبدعة وناشرًا لعلوم الشريعة ومناصرًا للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ ولأنصاره والداعين إلى سبيل الله بسيفه وسنانه وقلمه ولسانه حتى وافته المنية في عام ١٢١٨هـ. ﵀ رحمة واسعة ورفع درجاته في المهديين وضاعف له المثوبة وجزاه عما قدمه للمسلمين من نصر وجهاد ودعوة وتعليم وعناية بشئونهم ومواساة لفقرائهم أحسن الجزاء وأفضله وبارك في أسرته أسرة آل سعود وأسرة آل الشيخ محمد ونصر بهم الحق كما نصره بأولهم وجعلهم من الهداة المهتدين انه جواد كريم. وهذه الرسالة التي يقدمها سمو الأمير بندر كتبها الإمام عبد العزيز ﵀ إلى العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وإلى غيرهم من علماء المشرق والمغرب أبان فيها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي الحنبلي ﵀ وبين أنها هي الدعوة التي دعت إليها الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد ﷺ وبارك عليه وعليهم أجمعين وأوضح فيها ﵀ حقيقة العبادة التي خلق الله من أجلها الثقلين وأرسل بها الرسل وأنزل بها الكتب وحقيقة الشرك الذي أنذرت منه الرسل وحذرت منه أممها وبين ﵀ الأمور التي أنكرها الناس على أصحاب هذه الدعوة المباركة وأضح أدلتها وكشف الشبه التي تعلق بها عباد الأنبياء والأولياء فجاءت
1 / 4
بحمد الله رسالة كافية شافية في بيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأقام الله عليه سبحانه الأدلة والبراهين في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين. كما جاءت كافية شافية في بيان الشرك الوخيم الذي حذر الله منه عباده وأنكرته الرسل على أممهم وحكم الله على أهله بالخلود في النار وحرمانهم من دخول الجنة دار الأبرار كما قال ﷿: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ (١) وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (٢) وقال ﷿: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (٣) ولعظم شأن هذه الرسالة وكثرة فوائدها رأيت أن أقدم لها هذه المقدمة الموجزة تأييدًا لما تضمنته من الحق وبيانًا لشيء من ترجمة مؤلفها وعلمه وفضله وما قام به من النصرة لدين الله
_________
(١) سورة المائدة آية ٧٢.
(٢) سورة النساء آية ١١٦، ٤٨.
(٣) سورة الزمر آية ٦٥.
1 / 5
والجهاد في سبيله بسيفه وسنانه وقلمه ولسانه ومناصرته دعاة الحق وقمعه دعاة البدعة والشرك ﵀ وأكرم مثواه وأسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يضاعف الأجر لكاتبها وأن يجزيه أحسن جزاء وأفضله عما قام به من النصر لدين الله والدعوة إلى سبيله والجهاد لأعدائه وأن يوفق سمو الأمير بندر لكل خير وأن يضاعف مثوبته وأن يجعلنا وإياه وجميع أسرته وإخوانه وجميع أسرة آل الشيخ محمد ﵀ من أنصار الحق والهدى وأن يعيذ الجميع من مظلات الفتن انه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
حرر في ١٥/٦/١٤٠٧هـ
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن الله بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، يبشرون الموحد المتبع سبيلهم، وينذرون المشرك المخالف طريقهم، وإن دين الإسلام الذي بعث الرسل جميعًا به دين التوحيد هو الغاية من خلق الإنس والجن، فما خلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (١) وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٢) فالعبادة الخالصة خلق من أجل تحقيقها الثقلان، وما
_________
(١) سورة الأنبياء آية ٢٥.
(٢) سورة الذاريات آية ٥٦.
1 / 7
أسماها من غاية، وما أعظمها من تشريف.
وإن الرسل صلوات الله عليهم إذا بلغوا ثم رحلوا خلف من بعدهم خلوف، غيروا طريقهم وتنكبوا سبيلهم، متبعين السبل المتفرقة، يقودهم الشياطين، شياطين الإنس والجن، ويحثهم داعيًا الشهوة والشبهة، ولهما في القلوب شر مستطير، وتأثير كبير خطير.
وإن رسولنا محمدًا صلى الله وعليه وسلم تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، أبان التوحيد وحمى حماه وأوضح سبيل المشركين بالبلاغ والبيان، ﷺ وجزاه الله عن أمته خير ما جزى به نبيًا عن أمته، فما توفاه الله إلا والتوحيد الخالص قد عم الأرض الطيبة، وتربى عليه صحابته الكرام، الذين كتب الله على أيديهم النصر، وإرساء الدين، دين الإسلام، دين التوحيد والبراءة من الشرك، في أكثر أقطار الأرض والحمد لله رب العالمين.
وبعد هذا الخير العظيم، وبعد انقضاء القرون المفضلة، ظهرت في الناس دعوات شركية، ظاهرها -للمغرور- الإسلام، وباطنها-للمتبصر- الإلحاد، منها الدعوات الإسماعيلية الباطنية التي أنتجت دولة العبيديين.
وهذه الدولة انتشر في زمانها بتنشيط دعاتها، ودعمهم وتقويتهم البدع والشركيات العظيمة، حتى تربى عليه
1 / 8
الصغار، وأصبح كالمعروف بعد أجيال. ولا غرو، فإن التربية التي يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير إذا كانت من ذي سلطان وقوة فلها آثار سيئة على الدين والشريعة، فالإنكار يقل والراغب يكثر، والنفوذ والتقرير للبدع والشرك في ازدياد، وغير ذلك.
ومع إحداث هؤلاء بعض ما وصفناه وكثيرًا طويناه لم يعدم المسلمون من ينبه على هذه البدع والشركيات منذ ظهورها إلى يومنا هذا.
ثم إن هذه الشركيات مع تطاول الزمان، وتتابع القرون، أصبحت كالشيء المعروف غير المنكر، المحبوب غير المكروه، لا يحوم خاطر على أنه شرك وجاهلية إلا من سلم له دينه وتوحيده، وقليل ماهم.
وكان من قدر الله الذي شرف به بعض عباده أن هيئ لنصرة التوحيد رجلًا أقض مضجعه وأسهر ليله حال المسلمين، الذين بعدوا عن التوحيد، وانساقوا مع الغواية والجاهلية، فمضى يدرس أحوالهم سنين متطاولة، وزمانًا مديدًا، يدرس واقعهم بالدلائل الشرعية الصحيحة الصريحة، ويدرس السبيل إلى النهوض بهم، وهدايتهم إلى دين الإسلام الذي بعث به رسول الله محمدٌ ﷺ.
فوفقه إلى ما أراد، فنصر التوحيد قولًا وعملًا، فأبدل
1 / 9
الله مواقع وبلدان الشرك في الجزيرة، ببلدان التوحيد والإيمان والاتباع الخالص، فكانت بلادهم في وقته وبعد ذلك ما شاء الله - أقرب ما تكون إلى حياة الصحابة ﵃.
ذلك الرجل هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، المولود سنة ١١١٥هـ، والمتوفى سنة ١٢٠٦هـ.
وما من شك في أن صاحب الدعوة والفكرة لا بد له من سيف يناصره، ويدٍ تعضده، وإلا فما حيلته!
فكان من قضاء الله أن شرف بيت "آل سعود" بنصرة هذه الدعوة، دعوة تجديد دين الإسلام، ويا له من شرف يفوق كل شرف، وعز فوق كل عز، لو عقل ذلك، ووزن، فنصر الأمير محمد بن سعود ﵀ الشيخ نصرًا مؤزرًا، فاتسعت رقعة البلاد في عهده، ما شاء الله أن يكون من ذلك.
ثم أتى بعد الإمام محمد بن سعود ولده العالم الصالح المجاهد عبد العزيز بن محمد بن سعود ﵀ رحمة واسعة، فتولى الإمامة بعد أبيه بمبايعة الإمام محمد بن عبد الوهاب له سنة ١١٧٩هـ.
وعبد العزيز كان تلميذًا وطالبًا للعلم على الشيخ محمد بن
1 / 10
عبد الوهاب، فرباه أحسن تربية علمية، ونماه بعلوم الشرع، كما نماه والده بعلوم الجهاد والإمارة. فاجتمعت فيه الخصلتان الغاليتان العلم والقوة.
وما أحسن وأبلغ اجتماع تلك الخصلتين في رجل ولي أمور المسلين، إنه نتاج تربية العلماء والأمراء، أولئك يربون على العلم والدين، وهؤلاء يربون على الحكم والقوة. فأعظم بها طريقة، ثم أعظم بأثرها، وما عداها فطريقة يلحقها من النقص بقدر ما بعدت عن ذلك.
في عهد عبد العزيز بن محمد بن سعود ﵀ رحمة واسعة، توسع الموحدون في غزواتهم وخاضوا الحروب بالسنان واللسان، وبلغت الدعوة للقاصي والداني، والقريب والنائي، وكانت الدعوة في أشدها، وعلومها في أوجها.
ومن ذلك الجهاد اللساني، الذي لم يتركه الإمام عبد العزيز للعلماء غيره في هذه الرسالة التي قلت صفحاتها ولكنها هي المرتكز لكل المناقشات والردود على أهل الضلال، إذ فيها تركيز وتحقيق، يقر بها من طالعها.
وإن مثل هذا الجهاد لواجب على دعاة التوحيد، وأنصار الدعوة، وما التخلف عنه بمحمود، بل هو مذموم عند أهل العقول والحجى، وللتخلف آثاره الدامية الماحية. وما أطيب
1 / 11
وأحسن وأوسع للصدر أن يعيد طبعة هذه الرسالة حفيد أخي كاتبها سمو الأمير المفضال بندر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن حفظه الله، ووفقه لكل خير، فإن في ذلك أبعد الأثر لها، وأقر للعيون بها.
فعسى الله أن ينفع بها هذا اليوم، كما نفع بها ذلك اليوم، وأن يرجع للتوحيد قوته ونفوذه، ويكثر أنصاره والدعاة إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوى أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.
الرياض في ٢٠/١٢/١٤٠٦هـ.
1 / 12
نص الرسالة
مدخل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
"من عبد العزيز بن محمد بن سعود"
إلى من يراه من العلماء، والقضاة، في الحرمين، والشام، ومصر، والعراق، وسائر علماء المشرق، والمغرب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد، فإن الله ﷿ شأنه، وتعالى سلطانه لم يخلق الخلق عبثًا، ولا تركهم سدى وإنما خلقهم لعبادته، فأمرهم بطاعته وحذرهم مخالفته، وأخبرهم تعالى أن الجزاء واقع لا محالة، أما في ناره بعدله، أو في جنته بفضله ورحمته، قد أخبر ﷿ بذلك في كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل رسول أرسله، كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، وأخبرتنا به الأحاديث النبوية.
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (١)
وقال سبحانه:
_________
(١) سورة الذاريات آية ٥٦.
1 / 13
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ (١)
فالعبادة اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، مختصة بجلاله وعظمته، فهي الغاية المحبوبة له والمرضية عنده، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب، وغيرهم من الرسل كل قال لقومه ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٢)
وذلك أن الآله يطلق على كل معبود بحق أو بباطل.
والآله الحق هو الله.
قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (٣)
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (٤)
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (٥)
_________
(١) سورة الإسراء آية ٢٣.
(٢) سورة الأعراف من آية ٥٩ إلى آية ٨٥.
(٣) سورة محمد آية ١٩.
(٤) سورة النحل آية ٣٦.
(٥) سورة الأنبياء آية ٢٥.
1 / 14
فصل: معنى لا إله إلا الله
...
فصل
فنحن لما علمنا وفهمنا من كلام الله وسنة رسوله وكلام الأئمة الأعلام ﵃ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم من أئمة السلف.
أن "لا إله إلا الله" معناها ترك كل معبود سوى الله واخلاص الالهية له تعالى وحده.
وأن توحيد العبادة هو افراد العباد ربهم بأفعالهم التي أمرهم بها في كتابه، وعلى لسان رسوله فإذا جعلت لغيره تعالى صار ذلك تأليهًا للغير مع الله. وإن لم يعتقد الفاعل ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى وليس التوحيد خاصًا بافراد الله بأفعاله تعالى وتقدس، كخلقه السموات والأرض والليل والنهار، ورزق العباد وتدبيره أمورهم، لأن هذا قد أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام ويسمى توحيد الربوبية.
"العبادة لغة وشرعًا"
معناها: لغة الذل والخضوع.
وشرعًا: ما أمر به من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي من أفعال العباد وأقوالهم المختصة بجلال الله وعظمته، كدعائه تعالى بما لا يقدر عليه إلا هو من جلب نفع أو دفع ضر أو رجائه فيه والتوكل عليه، وذبح النسك والنذر والإنابة
1 / 15
والخضوع كل ذلك مختص بجلال الله كالسجود والتسبيح والتهليل، فكل ذلك مما قدمناه هو معنى قول "لا إله إلا الله".
ولا يغني أحد التوحيدين عن الآخر، بل صحة احدهما مرتبطة بوجود الآخر.
لما فهمنا ذلك وعلمنا به قام علينا أهل الأهواء فخرجونا وبدعونا وجعلوا اليهود والنصارى أخف منا شرًا ومن اتباعنا، ولم ننازع المخالف في سائر المعاصي بأنواعها ولا المسائل الاجتهادية، ولم يجر الاختلاف بيننا وبينهم في ذلك، بل في العبادة بأنواعها، والشرك بأنواعه.
فصل فنحن نقول ليس للخلق من دون الله ولي ولا نصير وجميع الشفعاء سيدهم وأفضلهم محمد ﷺ فمن دونه -لا يشفعون لأحد إلا بإذنه ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ (١) ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾ (٢) ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (٣) _________ (١) سورة البقرة آية ٢٥٥. (٢) سورة الكهف آية ١٠٢. (٣) سورة الأنبياء آية٢٨.
فصل فنحن نقول ليس للخلق من دون الله ولي ولا نصير وجميع الشفعاء سيدهم وأفضلهم محمد ﷺ فمن دونه -لا يشفعون لأحد إلا بإذنه ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ (١) ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾ (٢) ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (٣) _________ (١) سورة البقرة آية ٢٥٥. (٢) سورة الكهف آية ١٠٢. (٣) سورة الأنبياء آية٢٨.
1 / 16
﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ (١) ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾ (٢)
وإذا كان كذلك فحقيقة الشفاعة كلها لله، ولا تسأل في هذه الدار إلا منه ﷾.
فجميع الأنبياء والأولياء لا يجعلون وسائل ولا وسائط بين الله وبين الخلق لجلب الخير أو دفع الشر، ولا يجعل لهم من حقه شيء، لأن حقه تعالى وتقدس غير جنس حقهم.
فإن حقه عبادته بأنواعها بما شرع في كتابه، وعلى لسان رسوله وحق أنبيائه ﵈ الإيمان بهم وبما جاؤوا به، وموالاتهم، وتوقيرهم، واتباع النور الذي أنزل معهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين والناس أجمعين.
وعلامة الصدق في ذلك اتباع هديهم والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (٣)
والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمدًا صلى الله خاتمهم وأفضلهم، واثبات شفاعتهم التي أثبتها الله في كتابه، وهي من بعد اذنه
_________
(١) سورة الزمر آية ٤٤.
(٢) سورة النجم آية٢٦.
(٣) سورة آل عمران آية ٣١.
1 / 17
لمن رضي عنه من أهل التوحيد.
وأما المقام المحمود الذي ذكر الله في كتابه وعظم شأنه فهو لنبينا محمد صلى عليه وسلم. وكذلك حق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكراماتهم، لا دعاؤهم ليجلبوا لمن دعاهم خيرًا لا يقدر على جلبه إلا الله تعالى، أو ليدفعوا عنهم سوءً لا يقدر على دفعه إلا هو ﷿، فإن ذلك عبادة مختصة بجلاله تعالى وتقدس.
هذا إذا تحققت الولاية رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة، وعمل بتقوى في جميع أحواله، وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان من أطال سبحته، ووسع كمه، وأسبل ازاره، ومد يده للتقبيل، وليس شكلًا مخصوصًا، وجمع الطبول والبيارق، وأكل أموال عباد الله ظلمًا وادعاءًا ورغب عن سنة المصطفى وأحكام شرعه. فنحن إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه الكفاية لمن اعتبر وتدبر وبعين بصيرته نظر وفكر، فإنه حجة الله وعهده، ووعده، ووعيده، فمن اتبعه عاملًا بما فيه جد جده، وبان سعده، ومن خالفه واتبع هواه فقد ضل ضلالًا مبينًا.
والتوحيد ليس هو محل الاجتهاد، فلا تقليد فيه ولا عناد. ولا نكفر إلا من أنكر أمرنا هذا ونهينا، فلم يعمل بما أنزل الله من التوحيد، بل عمل بضده الذي هو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، كما سنذكر أنواعه، وجعله
1 / 18
دينًا، وسماه وسيلة عنادًا وبغيًا، ووالى أهله وظاهرهم علينا، ولم يقم باركان الدين وامتنع من قبول دعوتنا، وأمر بقتالنا وارجاعنا عن دين الله الحق إلى ما هم عليه من الشرك، والعمل بسائر مالا يرضي رب العباد، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعًا ووسيلة. ونحن نقول أن هؤلاء الداعين الهاتفين بذكر الأموات والأحياء الغائبين يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم وإبراء مريضهم، ومعافاة سقيمهم، وتكثير رزقهم وإيجاده من العدم، ونصرهم على عدوهم برًا وبحرًا، ولم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة /وحقيقة قولنا أن الشفاعة وإن كانت حقًا في الآخرة، فلها أنواع مذكورة في محلها.
ويجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته صلي الله وعليه وسلم بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص ماعدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون. فالوصف من مات لايشرك بالله شيئًا.
كما في البخاري من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي صلي الله وعليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، واني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا".
1 / 19
وحديث أنس بن مالك الذي في الشفاعة بطوله. وحديث الذراع الذي رواه أبو هريرة المتفق عليه.
وإذا كانت بالوصف فرجاؤه أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب.
1 / 20
فصل
فالمتعين على كل مسلم صرف همته وعزائم أمره إلى ربه ﵎، بالإقبال إليه والإتكال عليه، والقيام بحق العبودية لله ﷿، فإذا مات موحدًا شفع الله فيه نبيه.
بخلاف من أهمل ذلك وتركه، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله، والالتجاء إلى ذلك الغير، مقبلًا على شفاعته متوكلًا عليها، طالبًا لها من النبي ﷺ أو غيره، راغبًا إليه فيها، تاركًا ما هو المطلوب المتعين عليه، من اخلاص للعبادة لله وطلب الشفاعة منه، فهذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم، ولم تنشأ فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد.
ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذنه وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما، لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولاسيما ان كانت من غير اذنه، فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قائل: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾
1 / 21
وقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ (١) فمن طلبها من غير الله، فقد زعم أنها مشروعة بغير إذن الله ورضاه عن المشفوع له.
والله يقول: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (٣) والعبرة في النصوص بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع ملاحظته وعدم الاقتصار عليه-
_________
(١) سورة الأنعام آية ٩٤.
(٢) سورة السجدة آية ٤.
(٣) سورة الأنعام آية ٥١.
1 / 22