وليقارن بعد ذلك الترتيب الذي اتبعه إرميا والطرق التي نهجها لكتابة نبوته ضد أدوم (الإصحاح 49) مع ترتيب وطرق عوبديا،
33
وليقارن أشعيا (40: 19-20، 44: 8 وما بعدها) مع هوشع (8: 6، 13: 2)
34
وهكذا الحال مع الباقين. وسيبين الفحص الدقيق بسهولة أن الله في خطابه لم يكن له أسلوب يتميز به، بل كان الأسلوب يتوقف على بلاغته وإيجازه وقوته وخشونته وإطنابه وغموضه على ثقافة الأنبياء وقدراتهم.
وتختلف تمثلات الأنبياء وتهيؤاتهم الغامضة فيما بينها مع أن لها الدلالة نفسها، فقد تمثل أشعيا عظمة الله وهو يهجر المعبد على غير ما تمثله حزقيال. على أن الأحبار يريدون التوحيد بين هذين التمثلين، مع فرق يسير هو أن حزقيال قد دهش لجلافته دهشة فائقة؛ ولذلك روى كل ملابسات رؤيته. على أنه إذا لم يكن لدى الأحبار رواية مؤكدة في هذا الموضوع، وهذا ما لا أعتقده، فإن أقوالهم هذه لا بد أن تكون اختلافا منهم؛ لأن أشعيا رأى مجموعة من السرافين بأجنحة ستة في حين رأى حزقيال وحوشا بأجنحة أربعة.
35
ورأى أشعيا الله متلحفا جالسا على عرش ملكي، ورآه حزقيال نارا، ولا شك أن كليهما قد تمثله كما اعتاد أن يتخيله. وكذلك تختلف التمثلات فيما بينها، لا في طبيعتها فحسب، بل أيضا في وضوحها ، فقد كانت تمثلات زكريا غامضة إلى حد أنه لم يستطع هو ذاته أن يفهمها دون شرح، كما يحكي في روايته. أما تمثلات دانيال فإن النبي نفسه لم يستطع فهمها حتى بعد شرحها، ولم يحدث ذلك لصعوبة الشيء الموحى به (إذ إن ذلك الوحي لم يكن إلا أمرا من الأمور الإنسانية التي لا تتجاوز حدود القدرة البشرية إلا من حيث إخبارها بالمستقبل)، بل لأن خيال دانيال لم يكن يتمتع بالقوة النبوية نفسها في يقظته وفي نومه. ويتضح ذلك من فزعه منذ بداية الوحي حتى أوشك أن يفقد الأمل في قدراته، فتمثل الأشياء في غموض شديد لضعف خياله ونقص قواه، ولم يستطع أن يكون عنها فكرة واضحة حتى بعد شرحها له. ويجب أن نذكر هنا أن الكلمات التي سمعها دانيال كانت من صنع الخيال فقط (كما بينا من قبل)، فلا عجب إذن وهو في لحظة اضطرابه هذه أن يتخيل هذه الكلمات بغموض واضطراب بلغا من الشدة حدا لم يستطع معه أن يكون عنها فكرة واضحة. أما من يقولون: إن الله لم يشأ أن يقدم إلى دانيال وحيا واضحا بهذا الأمر، فإنهم فيما يبدو لم يقرءوا كلمات الملاك الذي يقول صراحة (انظر 10: 14): «ثم أتيت لأبين لك ما يحدث لشعبك في الأيام الأخيرة». وهكذا ظلت هذه الأشياء غامضة لأن أحدا في ذلك الوقت لم تكن له من قوة الخيال ما يسمح بأن تتكشف له هذه الأشياء بوضوح. وأخيرا، فإن الأنبياء الذين أوحي إليهم أن الله قد رفع إيليا، أرادوا إقناع أليشاع بأن إيليا قد نقل إلى مكان آخر يمكنهم العثور عليه فيه، وهذا يدل بوضوح على أنهم لم يفهموا جيدا وحي الله. ولا نحتاج هنا إلى الإسهاب في ذلك، والحق أنه، لو كان هناك شيء واضح في الكتاب، لكان ذلك دليلا على أن الله قد أعطى من نعمة النبوة هذا النبي أكثر مما أعطاه ذاك، ولكني سأثبت على العكس من ذلك تماما، وبمزيد من العناية والإسهاب، أن النبوات أو التمثلات كانت تختلف باختلاف آراء الأنبياء، وكذلك سأثبت أن آراء الأنبياء فيما بينهم كانت تختلف، بل وتتعارض، وكذلك الحال في أحكامهم المسبقة (ويحدث ذلك في الأمور النظرية فحسب، أما بالنسبة إلى الأمانة وحسن الأخلاق فلا بد من الحكم على الأمر بطريقة أخرى). وإنني لأصر على ما أقول لاعتقادي بالأهمية البالغة لهذا الموضوع. وسأنتهي من ذلك، إلى أن النبوة لم تجعل الأنبياء أكثر علما، بل تركتهم على آرائهم التي كونوها سلفا، ومن ثم نكون في حل من تصديقهم فيما يتعلق بالأمور النظرية الخالصة.
لقد تسرع الجميع بصورة تدعو إلى الدهشة في الاقتناع بأن الأنبياء قد عرفوا كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يحيط به، ومع أن بعض نصوص الكتاب تخبرنا بوضوح تام بأن بعض الأنبياء قد جهلوا بعض الأشياء، فإن الناس يفضلون أن يصرحوا بأنهم لا يفهمون هذه النصوص، على أن يسلموا بأن الأنبياء قد جهلوا شيئا ما، أو هم يتعسفون في تأويل نص الكتاب لكي يخرجوا منه بما لم يقله النص صراحة. ولا شك أن استباحة مثل هذه الحرية تعني القضاء على الكتاب المقدس قضاء مبرما. فلن ينجح أحد في البرهنة على شيء بالكتاب إذا ما سمح لنفسه بوضع النصوص الواضحة في عداد الأشياء الغامضة التي تستعصي على الفهم أو بتفسيرها حسب هواه. فمثلا، ليس في الكتاب ما هو أوضح من هذه الواقعة: اعتقد يشوع، وربما اعتقد معه أيضا كاتب قصته بدوران الشمس حول الأرض، وبثبات الأرض، وبتوقف الشمس بعض الوقت. ومع ذلك فنظرا إلى أن كثيرا من الناس لا يريدون التسليم بوقوع أي تغير في السموات والأرض، فإنهم يفسرون النص بحيث يبدو وكأنه لم يشر مطلقا إلى مثل هذا المعنى. وهناك آخرون، وهم الذين تعودوا على التفلسف بطريقة أصح، يعلمون أن الأرض تتحرك، وأن الشمس ثابتة، وهؤلاء يبذلون جهودا يائسة من أجل استخلاص هذه الحقيقة من الكتاب بالرغم من وضوح معانيه. والحق إني لمعجب بهم!
36
نامعلوم صفحہ