أما ابن ميمون فهو أول الفريسيين الذي أراد توفيق الكتاب طبقا للعقل، ولا يفيض سبينوزا في عرض منهج ابن ميمون لأنه في النهاية منهج سبينوزا نفسه، ودون أن يتبناه صراحة. لقد أفاض سبينوزا في عرض منهج البكار وتفنيده لأن سبينوزا يرفضه صراحة في حين أنه يوحي بأنه يرفض منهج ابن ميمون مع أنه يقبله ضمنا ويقصره على الفيلسوف دون العامة.
94
ينتهي سبينوزا إلى رفض المنهجين، فليس اللاهوت خادما للعقل وليس العقل خادما للاهوت، بل لكل منهما ميدانه الخاص، فميدان العقل الحكمة، وميدان اللاهوت الإيمان الصادق والطاعة. ليس من شأن العقل أن يقرر حصول الناس على السعادة بالطاعة، وليس من شأن الإيمان الصادق أن يقلل من العقل، أو أن يعظم من شأنه.
ومع ذلك يستطيع العقل أن يفهم العقائد من حيث صحتها أو كذبها فهو النور الفطري الذي يحمي الذهن من الوقوع في الخطأ والأوهام والأحلام، وبهذا المعنى يكون الوحي متفقا مع العقل في موضوعه، وهو الحقيقة، وفي غايته وهي السعادة. وعلى هذا النحو، يمكن للاهوت مخاطبة البشر جميعا باعتباره علما شاملا.
ولا تخضع هذه العقيدة اللاهوتية، خلاص البشر بالطاعة، إلى النور الفطري كما لم يبرهن عليها أحد بالأدلة؛ وذلك لأن الوحي يتصف بالضرورة المطلقة، والبرهان الوحيد عليها هو اليقين الخلقي، وهو يقين الأنبياء أنفسهم القائم على الأسس الثلاثية: الخيال الخصب، إجراء المعجزات، ميلهم الطبيعي للعدل والخير. يقين النبي يقوم على الأساس الأول وهو الخيال الخصيب، ويقين سائر البشر يقوم على الأساسين الآخرين.
95
وتتفق التعاليم الخلقية بطبيعتها مع العقل؛ لأننا نسمع صوت الله وكلامه فينا، والدعوة الخلقية ليست موضوع تحريف أو تبديل، فمن يظن أن هناك تعارضا أساسيا بين الفلسفة واللاهوت، وأنه يجب إفساح أحدهما مجالا للآخر، فإنه يريد برهانا رياضيا للاهوت، وينتهي إلى إنكار يقين العقل نفسه؛ لأنه يزعزع الثقة بالعقل، ويضعف إيمانه بالكتاب.
وهناك فريق آخر يلجأ إلى شهادة الباطنية للروح القدس، ويدعي أنها كافية، وتغني عن استخدام العقل؛ لأن العقل لا يستخدم إلا في الجدل من أجل إقناع الملحدين، كما فعل بسكال في الخطرات. ويخطئ هذا الفريق لأن الروح القدس لا تعطي إلا الأفعال الخيرة، ولا تعطي أي يقين عقلي أو نظري خالص، فتلك مهمة العقل وحده.
96
رابع عشر: حق المواطن وحق السلطة
نامعلوم صفحہ