لا يقع التبديل إذن إلا في الوحي المكتوب لا في الوحي المطبوع، ولا يقع التحريف إلا في الألفاظ لا في المعاني. فقد تتغير الألفاظ وتتبدل النصوص، ولكن يبقى المعنى واحدا من حيث هو دعوة للطاعة وللخلاص، وبذلك لا تنقص ألوهية الكتاب ولا تزيد بتغيير الكلمات أو تبديلها. وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إن الكتاب قد وصل إلينا بلا تحريف أو تبديل، وهو الذي يمكن تلخيصه في «أحب جارك كما تحب نفسك.» فهذا هو أساس الدين كله الذي لا يقع فيه الخطأ، كذلك وجود الله وعنايته الشاملة وقدرته وصدور الخير والشر منه، والفضل الإلهي، كل ذلك يدعو له الكتاب في كل موضع منه بوضوح ، كذلك الحقائق الخلقية، مثل العدل والإحسان، فالقانون الشامل الذي دعا إليه الكتاب قد وصل إلينا بلا تحريف أو تبديل. أما أسباب الشقاق والاختلاف فهي المعجزات، التي يشقى فيها الفلاسفة، والموضوعات النظرية التي يمكن لكل فرد أن يبتدع فيها كما يشاء، وهي موضوعات لا تهم في شيء؛ سواء كانت صحيحة أم باطلة.
وفرق ثان:
بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع، فالأول لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي، أي بالراوية والنبوة، في حين أن الثاني يمكن إدراكه بالنور الفطري. الأول يمكن إدراكه من الخارج، والثاني من الداخل. الأول عن طريق الحواس، السمع أو البصر، والثاني عن طريق العقل.
86
وفرق ثالث:
وهو أن الوحي المكتوب يتضمن الشريعة، أي تنظيم أعمال الجوارح، في حين أن الوحي المطبوع لا يتضمن إلا التقوى والفضيلة أي تنظيم أعمال النفس؛ لذلك كان العهد القديم متضمنا للشريعة، والعهد الجديد حاويا للحب وشريعة القلب.
87
وفرق رابع:
هو أن الوحي المكتوب أتى لأمة معينة، وهي الأمة العبرانية، في زمان معين ومكان معين، في حين أن الوحي المطبوع أتى للناس جميعا في كل زمان ومكان. لقد أعطى الله العبرانيين العهد في صورة مكتوبة، لأنهم كانوا في مرحلة الطفولة، وما إن بلغوا مرحلة النضج حتى أخبرهم موسى بأن العهد مطبوع في قلوبهم، وإذا كان الميثاق المكتوب قد ضاع وانقضى بعد حنث اليهود له، فإن الميثاق الشامل الذي يربط الإنسانية كلها بالله ما زال قائما، والميثاق مسطور في القلب وفي الفكر لا في المصاحف، والعهد ليس هو تابوت العهد بل الميثاق الأبدي. قد يضيع التابوت، ولكن يبقى الميثاق في قلوب الأتقياء، وقد ينهدم المعبد ولكن تبقى التقوى في قلوب الأصفياء، فالله لا يوجد إلا للأتقياء والأصفياء. وإذا كان الميثاق المكتوب قد أعطي مرة من جانب الله، فإن الميثاق الحي معطى كإمكانية محضة، يستطيع كل تقي أن يدخل فيه، فإذا راعى الإنسان الميثاق وحافظ عليه راعاه الله من جانبه واصطفاه.
88
نامعلوم صفحہ