70 (3)
القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلب إقامة الشعائر والطقوس أي مجرد حركات، وأعمال للجوارح لا تكون خيرة إلا بالنسبة لنظام معين.
71
لا يتطلب القانون الإلهي أفعالا يتجاوز تبريرها حدود العقل الإنساني، فالخير الحقيقي يدركه النور الفطري، أما الخير التابع لنظام أو قانون فليس إلا وهما. فإذا كان القانون الإلهي شاملا محظورا في النفس، فقد وضعت الشعائر والطقوس في العهد القديم للعبرانيين وحدهم، وتكيفت حسب دولتهم، ولا يقوم بها الأفراد كل على حدة، بل تقوم بها الجماعة ، ولا شأن لهذه الطقوس بالقانون الإلهي، أو بالسعادة والفضيلة، بل تتعلق باختيار العبرانيين من حيث النعيم الدنيوي، وسلامة الدولة، لأن هذه الشعائر لا تقام إلا في الدولة، وقد نسبت إلى الله فقط؛ لأنها صادرة عن الوحي.
ولكن كيف استطاعت هذه الشعائر المحافظة على الدولة، وما السبب في ذلك، مع أن القانون الإلهي هو هذا القانون الشامل الذي هو القاعدة للحياة الحقيقية، لا هذه الطقوس؟ ليس غرض الشعائر الحصول على السعادة بل النعيم الدنيوي للدولة كالثروة والنصر أو للجماعة كالصحة واللذات الدنيوية، بل إن التعاليم الخلقية لم تعط في الأسفار الخمسة كقانون شامل، بل كوصايا تكيفت مع عقلية العبرانيين وحدهم، ولمصلحة دولتهم. وقد حرم موسى القتل والسرقة كما يحرمها الفقيه أو النبي أو المشرع أو الأمير، ولم يقبل الاستدلال في هذه الأحكام أو فهمها، بل علق عليها الثواب والعقاب نتيجة لما يصيب الفرد والدولة من نفع أو ضرر، فالزنا ضار بالدولة، لأنه خلط للأنساب، وضياع للأمن، ولو أراد موسى الجانب الخلقي لأدان أيضا زنا القلب، أو زنا النفس، أي رضاء النفس وموافقتها الباطنية على فعل الرذيلة، كما أدانه المسيح من أجل إقامة قانون شامل، ولو أنه وعد أيضا بجزاء روحي لا بدني؛ لذلك لم ينسخ المسيح الشريعة القديمة، ولم يشأ وضع شريعة جديدة بل أعطى تعاليم خلقية، وميزها عن قوانين الدولة؛ لذلك يخطئ الفريسيون عندما يريدون الحصول على السعادة عن طريق القواعد القانونية، أي شريعة موسى، لأن هذه القوانين لا تبغي إلا مصلحة الدولة، أما العهد الجديد فقد احتوى على تعاليم خلقية، ويعد من يراعيها بملكوت السموات، وقد ترك الحواريون أنفسهم الشعائر بعد التبشير بالإنجيل عند شعوب الدول الأخرى. أما التزام الفريسيين بالشعائر بعد القضاء على الدولة، فإنه يكشف عن عدائهم للمسيحيين، لا عن رغبتهم في إرضاء الله؛ وذلك لأنهم تركوا الشعائر في سبي بابل، وتركوا شريعة موسى، وخضعوا لشعائر الدولة الجديدة، لم يكن على اليهود الالتزام بالشريعة بعد انهيار الدولة أو قبل قيامها، فلم تكن لهم قبل خروجهم من مصر شريعة خاصة، بل كانوا خاضعين لقانون الطبيعة أو لقوانين الدولة التي عاشوا فيها، حيث إنها لا تعارض القانون الإلهي الطبيعي، ولم يضح البطارقة بالقرابين تنفيذا لأمر الله الشامل، بل لبث روح التقوى في نفوسهم، وكانوا قد تعودوا على ذلك منذ القدم.
ولكن كيف تساعد الشعائر على المحافظة على الدولة؟ الشعائر هي السبيل الوحيد للأفراد في جماعة حتى تستطيع الوقوف أمام العدو ساعة الخطر، كما أنها تساعد على الترابط الاجتماعي من الداخل، وتقوم الجماعة على تقسيم العمل، ويحتاج تقسيم العمل إلى تنظيم قانوني، دون أن يخضع البعض للبعض الآخر؛ لأنه ليس هناك أقسى من سلب الناس حرياتهم بعد حصولهم عليها.
72
لذلك وجب تنظيم المجتمع وإقامة قانون يطيعه الجميع، سواء كان ممثلا في شخص أم في جماعة تكون لها الكلمة العليا أمام العامة، وتكون هذه القوانين في دولة ترى فيها الجماعة تحقيقا لرغبتها لا خوفا منها، ثم يطيع الجميع هذه القوانين التي ارتضاها الجميع بحرية تامة، وبذلك لا تفقد الجماعة حريتها، ويقوم كل فرد بعمله عن رضا وبحماس بالغ.
وهذا ما حدث للعبرانيين تماما، فعندما خرجوا من مصر لم تكن لهم أية قوانين، وكان باستطاعتهم وضع قوانين جديدة على هواهم، وإقامة دولة، واحتلال أرض، ولكنهم فضلوا الالتزام بقوانين الجماعة، وظلت السلطة في يد فرد واحد له وحده الحق في تفسيرها. واستطاع موسى أن يكون ذلك الفرد لما يتمتع به من فضائل إلهية، وحاول إقناع الشعب بالقوانين عن طريق الاقتناع والرضا، لا بالخوف والتهديد؛ وذلك لسببين: الأول، عصيان الشعب الطبيعي المعروف في تاريخ الأنبياء، والثاني، خطر الحرب الذي يحتم إقناع الجند، وحثهم على الدفاع عن طوع لا عن كراهية. ولهذا السبب أدخل موسى الدين في الدولة، حتى يؤدي الشعب واجبه بدافع التقوى، لا بدافع الخوف، كما ربط موسى الشعب بالوعود المادية والمنافع الدنيوية.
كان الغرض من الشعائر والطقوس أن يقوم العبرانيون بأنفسهم بالأعمال التي تطلبها الدولة منهم، ولكنهم كانوا دائما يقومون بها تنفيذا لأوامر الآخرين، وبالتالي لم تؤد الطقوس والشعائر إلى أية سعادة حتى الشعائر والطقوس المسيحية، خاصة أنها من وضع الحواريين وليس من وضع المسيح أو من وضع الكنيسة، كعلامة لها، لا كطريق للسعادة. لم يكن لها غرض سياسي، بل كانت من أجل المجتمع كله، ومن يعيش وحده ليس عليه الالتزام بها، ومن يعيش في دولة غير مسيحية عليه أن يكف عن إقامة الشعائر حتى يمكنه أن يعيش سعيدا، مثل المسيحيين الذين يعيشون في اليابان. (4)
نامعلوم صفحہ