بل إن الإيمان بالحقائق الدينية ليس فعلا للعقل بل فعل للإرادة؛
8
لذلك لا يطبق عليه مقاييس الوضوح والتميز، أكثر من ذلك أن كل الحقائق الدينية تتعدى حدود العقل، ولا يمكن الإنسان التصديق بها إلا بمعونة من السماء، وبفضل من الله؛ أي أن ديكارت يبدو هنا هادما للعقل، ومعطلا لوظائفه في فهم الحقائق الدينية.
9
ومع أن ديكارت معروف في العصور الحديثة بأنه أحد مؤسسي العلم الحديث، إلا أننا نجد أن الله هو الضامن لصدق الحقائق، وأن ديكارت بهذا المعنى يقيم العلم على وجود الله وصدقه، وأن الله هو محور مذهبه، خاصة إذا علمنا أنه الواقعة الأولى بعد الكوجيتو، وأنه هو الضامن لوجود العالم، وأن العالم لديه حركة وامتداد، أي مقولتان رياضيتان وليس عالما للفعل والسلوك.
10
أما سبينوزا، فهو الذي طبق منهج الأفكار الواضحة والمتميزة في ميدان الدين والعقائد،
11
فليس العقل فقط هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بل هو أيضا أفضل شيء في وجودنا ويكون في كماله خيرنا الأقصى. وإذا كانت الأفكار الواضحة والمتميزة هي المثل الأعلى لليقين فإن سبينوزا يحلل النبوة ويخرجها من نطاق الأفكار الواضحة والتصورات الغامضة، كما يرفض وضع الآيات الواضحة مع الأشياء الغامضة، ثم تفسير الآيات الواضحة تفسيرا خياليا حسب هوى المفسر، كما يستعمل الوضوح والتميز كجدل في براهينه العقلية، فما دام كل ما تعلمه بوضوح وتميز إما أن يكون معروفا بذاته، أو بغيره تعلمه بوضوح وتميز، فإن المعجزة لا تستطيع أن تدلنا على وجود الله، أو على ماهيته وطبيعته؛ لأننا لا نعلمها بوضوح وتميز. أما الله فإنه فكرة واضحة ومتميزة، ولا تحتاج إلى برهان. وإذا كان ديكارت، في مثل سلة التفاح المشهور، يري تنقية الأفكار الواضحة المتميزة من الأفكار الغامضة، فإن سبينوزا بتطبيقه هذا المنهج أيضا في النقد التاريخي للكتاب المقدس يفصل الآيات الصحيحة عن الآيات المكذوبة أو المشكوك فيها.
وسبينوزا أيضا هو الوحيد من الديكارتيين الذي طبق منهج ديكارت في السياسة، فدرس أنظمة الحكم، وقارن بينها، ونقد الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق، وانتهى إلى أن النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقا مع العقل ومع الطبيعة؛ فنحن نعلم أن ديكارت قد استثنى من الشك أيضا النظم السياسية، والتشريعات الوطنية، وعادات البلد؛ أي أنه أخرج الجانب الاجتماعي كله من الشك وقصره على الفكر.
نامعلوم صفحہ