لأن العدالة، كما تعرف عادة، هي إرادة ثابتة ودائمة لإعطاء كل ذي حق حقه. ويقول سليمان في المعنى نفسه (الأمثال، 21: 15):
5
وقت الحساب يفرح العادل ويرتعد الظالمون. وإذن فلما كان القانون قاعد للحياة يفرضها الناس على أنفسهم أو على الآخرين لتحقيق غاية ما، فيجدر بنا الآن أن نقسم القانون إلى قانون إنساني وقانون إلهي، وأعني بالقانون الإنساني قاعدة للحياة مهمتها الوحيدة هي المحافظة على سلامة الحياة والدولة، أما القانون الإلهي فأعني به قاعدة لا تهدف إلا للخير الأقصى، أي إلى المعرفة الحقة وإلى حب الله. ويرجع السبب في تسميتي هذا القانون إلهيا إلى طبيعة الخير الأقصى، الذي سأعرض له ها هنا في كلمات موجزة وبقدر ما أستطيع من وضوح.
لما كان الذهن أفضل ما في وجودنا، فلا شك أننا إذا أردنا حقيقة البحث عما هو نافع، فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نحاول الارتقاء بذهننا بقدر الإمكان؛ لأن خيرنا الأقصى يتحقق في هذا الارتقاء. وفضلا عن ذلك، فإن معرفتنا كلها، وكذلك اليقين - الذي يقضي بالفعل على كل شك - يتوقف على معرفة الله وحدها؛ لأن الشيء لا يمكن أن يوجد أو يتصور بدون الله
6
ولأن في إمكاننا أن نشك في كل شيء طالما ليست لدينا عن الله فكرة واضحة ومتميزة،
7
وينتج عن ذلك، أن خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله وحدها ... إلخ. فضلا عن ذلك، فلما كان يستحيل وجود شيء أو تصوره بدون الله، فمن المؤكد أن كل موجودات الطبيعة تحتوي على فكرة الله وتعبر عنها حسب درجتها في الماهية والكمال. ومن ذلك يتضح أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء في الطبيعة
8
كانت المعرفة التي نحصل عليها بالله أعظم وأكمل. وبعبارة أخرى «لأن معرفة المعلول عن طريق العلة ليست إلا معرفة لخاصية معينة للعلة.» فكلما عرفنا أشياء أكثر في الطبيعة كانت معرفتنا لماهية الله وهو (علة الأشياء جميعها) أكمل. وهكذا لا تعتمد كل معرفتنا - أي خيرنا الأقصى - على معرفة الله فسحب، بل تنحصر فيها كلية. وهذا ينشأ أيضا من أن كمال الإنسان يكون بنسبة طبيعة وكمال الشيء الذي يحبه فوق كل شيء آخر، والعكس صحيح أيضا؛ وعلى ذلك، فإن من يفضل المعرفة العقلية لله أي للموجود المطلق الكمال على كل شيء، ومن تزيد نشوته بها يكون بالضرورة هو الأكمل، ويشارك في السعادة القصوى، ففي هذا إذن، أعني في معرفة الله وحبه، يكون خيرنا الأقصى وسعادتنا. ويترتب على ذلك أن الوسائل التي تؤدي بنا إلى هذه الغاية من جميع الأفعال الإنسانية، أعني الله نفسه من حيث وجوده فينا كفكرة، يمكن أن تسمى أوامر الله، لأن الله نفسه هو، على نحو ما، مصدرها بقدر ما يوجد في أنفسنا. ومن هنا، فإن لنا كل الحق في أن نسمي قاعدة الحياة التي تستهدف هذه الغاية قانونا إلهيا. والآن، فما هذه الوسائل، وما قاعدة الحياة التي تفرضها هذه الغاية؟ وكيف يمكننا أن نوجه نحو هذه الغاية المبادئ التي تقوم عليها أفضل نظم الحكم، وأن تنظم علاقات الناس فيما بينهم طبقا لها؟ إن علم الأخلاق الشامل هو الذي يجيب عن هذه الأسئلة، أما هنا فلن أستمر في الحديث إلا عن القانون الإلهي على وجه العموم.
نامعلوم صفحہ