الكتابة العربية المنقحة
الكتابة العربية المنقحة
رسالة في الكتابة العربية المنقحة
رسالة في الكتابة العربية المنقحة
تأليف
أنستاس ماري الكرملي
الكتابة العربية المنقحة
(1) لمحة في تغير الحروف
لم تكن الكتابة العربية بهذه الصورة التي نعرفها بها اليوم، في كل وقت من حياتها؛ بل مرت بأطوار مختلفة، تنقلت فيها من حالة إلى حالة أرقى منها، على حد ما نرى نشوء ابن آدم منذ تصوره في بطن أمه إلى أن يدب، ويشب، ويكهل، فيكمل.
كان في ديار العرب قبل الإسلام قلمان شائعان رئيسان، يختلف أحدهما عن الآخر كل الاختلاف، وذلك بنحو سبعمائة سنة. وكان الأول معروفا في الجهة الشمالية من الجزيرة، والثاني في الربوع الجنوبية منها. ويسمى الأول ب «الخط النبطي»؛ لأنه كان مبثوثا في الديار التي كان فيها النبط؛ أولئك النبط الذين كان لسانهم عربيا أو قريبا كثيرا من العربية، لا نبط العراق أو البطائح.
ويسمى الثاني ب «المسند»؛ لأنه كثيرا ما كان يزبر على الصخر أو الحجر، فكأنه كان يسند إليه، على ما روى لنا هذه الرواية أصحاب بعض التواريخ والأخبار.
ثم انتقل الخط النبطي من صورة إلى صورة أحسن منها، وأجلى للعين وأظهر، حتى صار إلى الحالة التي نراه فيها. وقد بلغ التحقيق بالمستشرقين إلى القول بأن الخط الذي نسميه اليوم بالنسخي غير مشتق من الكوفي، على ما كان يزعمه بعض الأقدمين.
وأما «المسند» فقد زال من عالم الكتابة شيئا فشيئا عند ظهور راية الإسلام، واقتبس العرب الخلص حروفهم وترتيبها من عرب الأنباط، وهؤلاء من الآرميين، وهؤلاء من الفنيقيين. وكانوا من أصحاب التجارات، ويحسنون الكتابة والقراءة. وكان للسلف حروف وحركات غير ما نعرفها لهم اليوم من هذا القبيل؛ لأنهم كانوا قبائل شتى، واختلطوا بأمم مختلفة، فكانوا ينطقون بأنواع الحروف والحركات على ما وصلت إليهم من أجدادهم، أو على ما اقتبسوا بعضا منها من محالفيهم.
ولما اقتبس العرب حروفهم أو كتابتهم من الآرميين أو الفنيقيين، الذين كانوا قد اضطروا إلى اتخاذ الكتابة لتجارتهم ومعاملاتهم للغير؛ اتخذوا ما عندهم من الحروف ، وعلى ترتيب ما كانت مستعملة عند أولئك الناس، ثم زادوا عليها أحرفا كانت تميز لغتهم عن سائر اللغات، ففازوا بالفتح المبين الذي تاقت نفوسهم إليه، لكنهم - لسوء الحظ - لم يقيدوا جميع ما كان عندهم من الحروف الجارية على ألسنتهم يومئذ، ولا كل ما كان عندهم من الحركات المختلفة؛ فكانوا يصورون الحروف التي لا صور لها بحروف تقاربها صوتا. وكذلك فعلوا بالحركات. واعتمدوا على التلقين والرواية والسماع لمعرفتها معرفة صحيحة، فضاع من اللفظ العربي الصحيح شيء كثير، لا سيما من لفظ أولئك الذين ما كانوا يتلقون النطق بالحروف من الشيوخ الأئمة أو الرواة الصادقي العلم، بل من أجانب لم تكن حلوقهم مخلوقة للأصوات العربية أو السامية، أو الجامعة بين الحروف السامية واليافثية، أو السامية الحامية معا.
أما العوام، فقد حافظوا على تلك الحروف وتلك الحركات، فهم ينطقون بها إلى هذا اليوم؛ كل قوم بموجب الديار التي وجدوا فيها أو نزلوها، أو بموجب القبيلة التي ينتسبون إليها، أو يدعون الانتماء إليها. (2) قصور الحروف العربية الحالية عن تأدية اللفظ حق التأدية
إن عجز الحروف والحركات العربية الحالية عن تصوير الكلم القديمة التي نقلت عن السلف نزع من لغة عدنان محاسنها القديمة، ودقائق النطق بها على ما هي، حتى صرنا إلى هذه الأيام، فزاد اختلاط أبنائنا بأبناء الغرب لتعلم صنائعهم وعلومهم وفنونهم ولغاتهم، فشعرنا بنقص عظيم، وامتنع على فريق منا النطق ببعض الأحرف الإفرنجية التي كانت - بلا أدنى شك - في لغات السلف منا، أو لا أقل من أن بعضها كان شائعا عندهم، فأماتها عدم الاستعمال لها؛ حتى إنه ليصعب اليوم على اللبنانيين مثلا أن يلفظوا الپاء المثلثة التحتية التي تقابل الحرف
الإفرنجي، وكذلك الڤاء المثلثة الفوقية التي تقابل
V
الإفرنجية، ومنهم من لا يستطيع أن يتبين الجيم المعطشة الشامية (وهي التي اتفق الترك على رسمها بصورة «ژ»؛ أي راء فوقها ثلاث نقط، وتقابل
J
الفرنسية) من الجيم الشجرية (وهي العراقية أو النجدية) من الجيم النطعية التي يرسمها الترك والفرس بصورة « » عليها ثلاث نقط (وهي التي تقابل
G
الفرنسية )، وهي جيم أهل القاهرة لا جميع ديار مصر.
وقد وجد أبناؤنا صعوبة أخرى هي التلفظ بحروف عليلة غير مصورة في حروف هجائنا؛ كحرف
U
الفرنسي، وكان موجودا سابقا في لغة السلف كما في «قيل» و«مد» المجهولين، فإن لفظ القاف هو بين الواو والياء؛ أي
Qula ، وكذلك في مجهول «مد»، فإنه يلفظ
Mudda
وليس
Moudda . وليس عندنا ما يصور الألف المفخمة كما في «الله، والصلاة، والزكاة»؛ فإن الألف فيها كالحرف الإفرنجي
O ، وليس لنا ما يصور لنا
E
الفرنسية، التي تختم بعض ألفاظهم؛ مثل
Le
و
Mise ، وهي عندنا، ولكنها لا تصور وتعرف بالإشمام. (3) النقص العظيم في كتابتنا
وفي لغتنا عيب عظيم عيرنا به جميع الغربيين، وهو الذي يجعل تعلم لغتنا من أصعب الأمور، وأبعدها منالا عن العرب أنفسهم. وهذا العيب هو عدم وضع علامات الضبط والحركات على حروفنا، فتحتمل الكلمة الواحدة قراءات مختلفة، أو أوجها كثيرة، فإذا كانت الكلمة الواحدة مركبة من حرفين لا غير، فقد تقرأ على واحد وعشرين وجها؛ مثال ذلك «رب»، فإنها تقرأ بتثليث الراء، وإسكان الباء (فهذه ثلاثة أوجه)، وبتثليث الراء وشد الباء المضمومة (وهذه ثلاثة أوجه أخر)، وبتثليث الراء وشد الباء المفتوحة (وهذه ثلاثة أوجه أخر)، وبتثليث الراء وكسر الباء المشددة (وهذه ثلاثة أخر)، وبتثليث الراء وضم الآخر المخفف، وبتثليث الراء وفتح الآخر المخفف، وبتثليث الراء وكسر الآخر المخفف؛ فهذه أحد وعشرون وجها، والكلمة على حرفين فقط، فما القول لو كانت الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف؛ مثل «ربط»؟ قلنا: فإنها تقرأ على 273 وجها لا أقل ولا أزيد، فكيف يسعى المتعلم بعد ذلك ليتعلم لساننا، الذي سمعه منذ صغره؟ فلقد يقضي عمره كله في دراسته فلا يتقنه مع ذلك، كما يتقن لغة أجنبية يدرسها مدة خمس سنوات؛ فلهذا قال أكابر الأدباء في بلادنا: يدرس العربي أحكام اللغة العربية ليتعلم القراءة، ويقرأ الأجانب ليتعلموا العلوم. هذا الفرق بيننا وبينهم؛ ولهذا وجب وضع حروف مرتبة ترتيبا يغنينا عن مطالعة القواعد، ويعيننا على القراءة قراءة صحيحة من غير إعمال النظر في كيفية النطق بالكلمة المصورة .
وقد لاحظ البيروني في مقدمة كتابه «الصيدنة في الطب»، ص14، قال:
إن للكتابة العربية آفة عظيمة هي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها، واضطرارها في التمايز إلى نقط العجم، وعلامات الإعراب التي إذا تركت استبهم المفهوم منها.» ا.ه. قلنا: «ولهذا وجب علينا وضع علامات الإعراب، بل ضبط الكلمة بجميع حروفها؛ لإثباتها على صورة واحدة، وإقرارها عليها، وإبعادها عن كل ما يوهم القارئ أو يوقعه في مهامه الخطأ والخطل، فيصل إلى غايته من غير إعنات ولا إرهاق في النظر والفكر. (4) الحروف اللاتينية
أما الحروف اللاتينية فإنك إذا كتبتها فإنك لا تقرؤها إلا بالصورة التي صورت. هذا بوجه الإجمال، وإن كان هناك شواذ لا يحتفل بها؛ إنما الكلام على الطريقة الشائعة؛ لأنك إذا رسمت الكلمة رسمت معها الحروف المصوتة أو العليلة، فالغربي يشرع في القراءة، قراءة حسنة، حينما يحسن تهجئة الكلم. أما العربي فيقضي السنين الطوال الغوالي ليتعلم كيف ينطق بالكلمة الفلانية، إذا صورت بالصورة التي رسمت. وهكذا يضيع وقته ابن المتعلم اللغة الضادية، من غير أن يبلغ مبلغ الإفرنجي أو الغربي الذي يصل إلى مبتغاه بزمن وجيز.
وقد رأيت كثيرا من أبناء الشرق العربي يتعلمون عدة لغات في وقت وجيز، ولا يتقنون العربية في حقبة مديدة من السنين، ولاحظت في بغداد رجالا قضوا أعمارهم كلها في محاولة إتقان اللغة العربية وحدها، فلم ينالوا منها ما ناله غيرهم من أبناء وطنهم من لغات عديدة، في زمن أوجز من الزمن الذي قضاه أولئك في تعلم اللغة العدنانية. هذا فضلا عن أني عرفت علماء أفاضل لا يستطيعون أن يقرءوا العبارة الواحدة الدقيقة المعنى ما لم ينعموا النظر فيها مرارا؛ ليتفهموها وليقرءوها. وهذا لا تجده فيمن يعالج تعلم اللغات المكتوبة بالحرف اللاتيني.
وقد ادعى كثيرون أني غير صادق فيما أقول؛ وللحال عرضت عليهم هذه الكلمات الخمس غير منقوطة الآخر، فما استطاعوا أن يقرءوها البتة، وهي هذه كما يكتبها المصريون:
على على على كل على.
فهي تقرأ على أوجه منها: علي علي على كل علي؛ أي إن عليا فوق كل من تسمى بعلي.
وتقرأ: على علي على كل على؛ أي على علي فوق كل على.
وتقرأ: على علي على كل علي؛ أي على (لغة في علا) علي على كل علي.
وفيه قراءة أخرى؛ وهي: علي علي علي كل علي؛ أي ارتقى علي علو (علي) كل موضع مرتفع (علي).
ويجوز لك أن تقرأها قراءة خامسة؛ وهي:
علي علي على كل علي.
أي فاق علي شرفا كل شريف.
إلى غير هذه القراءات. وكل ذلك من إهمال رسم النقط والشكلات؛ فلو نقطت الياء في محل تنقيطها لما حار القارئ كل تلك الحيرة؛ ولهذا وجب اتخاذ وسائط تحول دون هذا التردد في القراءة، ودون إضاعة الوقت في معالجتها. زد على ذلك أن بعد تلك المعالجة الصعبة لا يعرف القارئ المعنى الذي أراده الكاتب من تلك الكلم؛ لأنها إن نقطت بقيت مسألة الضبط، وهذا أيضا يحتاج إلى وضع آخر، فتزدحم الشكلات والحروف، فيتركب أو ينشأ من هذا الأمر سطر ثان في نظر الذي يتذوق محاسن سحر الجمال.
أفلا ترى بعد وقوفك على هذا المراس أن أسلوب الكتابة عندنا ناقص خداج يحتاج إلى إصلاح؛ ليتمكن كل عارف للحروف الهجائية من القراءة السديدة من غير تردد وتوقف وتلجلج؟
ألا ترى أن الترك أصابوا في ترك الهجاء العربي لنقصه، فاتخذوا الحرف اللاتيني لسد هذه الثغرة المضنية المهلكة؟ وكانوا قد حاولوا قبل الحرب تدارك الأمر، توصلا إلى القراءة بسرعة، فقطعوا حروف الكلمة حرفا حرفا؛ اجتنابا لصور الحرف الواحد بثلاثة أشكال، ومع ذلك لم يفلحوا؟ ثم اصطلحوا على وضع علامات لضبط الكلمة بها، فلم يعد على عملهم هذا نفع يذكر، فاضطروا في الآخر، وبعد الحرب، إلى اتخاذ الحرف اللاتيني، فاطمأنوا بالا، وكلفهم هذا الأمر مبالغ لا تحصى، وسوف يكلفهم أتعابا ينوء تحت عبئها أعظم الأمم شجاعة وجلادة ومقاومة للنائبات.
والآن يحاول الفرس مجاراة الترك في نبذهم الحروف العربية للأسباب المذكورة، ولا سيما لأن حروفنا لا تصور الأصوات التي تميز لسانهم عن سائر الألسنة السامية، فضلا عن أنها ناقصة في مجموعها، ويعوزها أحرف وحركات هي غير موجودة في العربية. نعم، إنهم رسموا لتلك الأحرف رسوما تبينها، لكنهم لم يجدوا ما يؤدي إلى النطق بالحركات الخاصة بلسانهم. وهم الآن يترددون بين المحافظة على تلك الكتابة وبين اتخاذ كتابتهم القديمة أو الخط الروماني. وهذا الأمر بلية أخرى لمؤلفاتهم المصنفة بعد الإسلام، وهي ليست بقليلة. دع عنك ما يكلفهم من بذل المال، ومعاناة الأتعاب والمشقات، في سبيل تحقيق هذه الفكرة الغريبة، فيندفع وراءهم سائر الأمم غير العربية إلى اتخاذ حروف أجنبية، في حين أنه يمكنهم أن يبقوا محافظين على هذا القلم العربي؛ بإدخال ما يحتاج إليه من الإصلاح في عصر عم فيه هذا الأمر، وفي جميع الشئون. (5) المقابلة بين محاسن الحروف العربية ومساوئها ومحاسن الحروف اللاتينية ومساوئها
لا ينكر أن في الحروف العربية محاسن جليلة عديدة؛ منها: (1)
سرعة الكتابة، وقلة أحرفها؛ فهي من قبيل الاختزال، أو بعض الاختزال، فإذا حاولت أن تصور تلك الكلمة المرسومة بالعربية بأحرف إفرنجية أو رومانية، فإنها تتطلب وقتا أكثر.
على أن ما يكسب في سرعة الرسم يفقد في قراءته؛ إذ تتحمل تلك الكلمة قراءات متعددة، بينما أن الكلمة الإفرنجية لا تقرأ إلا على وجه واحد، فضرره - من هذا القبيل - أعظم من نفعه. وكفى بذلك تجنبا لاتخاذه، أو إهمالا له بعد اتخاذه. (2)
إن الذي يمنع هذا التشويش والارتباك في قراءة الكلمة هو ضبطها، أو تشكيلها بالحركات وسائر العلامات، لكننا إذا استعملناها لم تبق لها تلك المزية؛ مزية السرعة في الكتابة، ونشأ عندنا زيادة على ذلك سطران في الوقت الواحد، فلزم لنا وقت أطول، وأصبح الرسم بالحرف الإفرنجي أسرع وأوكد وسيلة للتعبير عن كلامنا. (3)
مما يثبط عزم المتعلم للكتابة العربية رسم الحرف الواحد بثلاث صور، وربما بأربع صور؛ فللباء في الأول رسم، وللوسط رسم، وللآخر رسم، ولبقائها بنفسها منفردة رسم آخر.
أما الكتابة اللاتينية فليس للحرف الواحد من حروفها سوى رسم واحد أو رسمين في الأكثر. وهذه أيضا مزية لا يمكن السكوت عنها، ونحن نرضى بكل ذلك ، لولا نشوء سطرين اثنين عند ضبط الكلمة الواحدة، فلو وجدت طريقة ترسم الحركات والحروف في وقت واحد لزالت تلك العقبات، وسهل الطريق وعبد، وهان على كل امرئ السير فيه بأمن وراحة وطمأنينة. (6) رد اعتراضات
يعترض بعضهم علينا أن هذا الاصطلاح الجديد في الكتابة يخالف الأصول التي جرى عليها الأقدمون في رسم الكتب، ولا سيما رسم آيات القرآن والأحاديث النبوية.
قلنا: كان القرآن يكتب في أول الأمر بالحروف الكوفية، ولما اتخذت حروف النسخ لم ينهض بين علماء المسلمين من قاوم الكتابة الجديدة، أو القلم الحديث الدخول. زد على ذلك أننا لا نقول بتغيير كتابة القرآن، ولا كتابة الأحاديث النبوية؛ إنما هذه كلها تبقى على حالها إلى أن يتدرج القارئ في أسلوبه الجديد، فيهون عليه بعد ذلك مطالعة الكتب القديمة من دون أن يشعر بعناء في انتقاله من قراءة إلى قراءة. (7) مميزات الحروف الجديدة
لما اقتبس العرب حروفهم عن الأمة الآرمية التي تقدمتها في الخط والكتابة، لم يجدوا في ذلك اللسان أحرفا تصور ما عند العرب هذه الأحرف؛ وهي: «ث، خ، ذ، ض، ظ، غ»، فاضطروا إلى أن يزيدوا على ما اقتبسوه من ذلك القوم تلك الأحرف التي أشرنا إليها. واليوم نرانا في حاجة ماسة إلى إدخال أحرف أخرى جديدة؛ وهي الموجودة في لغات الغرب؛ لنصور بها أعلامهم وكلم لغاتهم؛ لنتمكن من أن نستغني بها عن اتخاذ قلمهم وكتابتهم، وإلا فإن كنا نبقى على ما نحن عليه منذ مئات من السنين، بل منذ زمن الجاهلية؛ فإن أولادنا يضطرون بحكم الحال إلى اتخاذ الحروف الإفرنجية. وهناك الطامة الكبرى! أبعدها الله عنا. (8) محدثات حروفنا وحركاتنا
إن صور الحروف التي استعملناها هي الصور التي أدخلها الفرس، والترك، والكرد، والهنود، في رسم كلم ألسنتهم، ولم نضع رسم حرف واحد من عندنا؛ لأن حروفهم تلك عمت عالم الأدب كله، ووقف عليها القاصي والداني، فلم يبق في صدرنا حاجة إلى إحداث شيء جديد؛ وهي: (1)
پ: وهي باء بثلاث نقط تحتها، وتلفظ كما تلفظ
الإفرنجية. (2)
چ: وهي جيم بثلاث نقط، وتلفظ كما تلفظ
CH
الإنكليزية في
Charles ، ويصورها المستشرقون اليوم بحرف
C
عليه علامة
فوقها؛ أي
Č . (3)
ژ: وهي راء تعلوها ثلاث نقط، وهي كحرف
J
الفرنسي في قولك:
Jour . (4)
ڤ: وهي فاء تعلوها ثلاث نقط، وتلفظ كالحرف الإفرنجي
V . (5)
ك: وهي كاف تعلوها ثلاث نقط، وتلفظ كالجيم المصرية، التي ينطق بها أهل القاهرة من ديار وادي النيل، أو كما تقول
Girl
في الإنكليزية، ومنهم من يكتبها «گ»؛ أي كاف عليها شرطة طويلة.
أما الذي أحدثناه فهو تصوير الأحرف العليلة غير الموجودة عندنا، وإدماجها في سياق الكلمة نفسها، وتكتب بعد الحرف الصحيح؛ لأن الحركة فرع، والفرع يأتي بعد الأصل، ولا تكتب فوقها ولا تحتها، حتى إذا رآها القارئ بالصورة التي قيدت بها رسما لا ينطلق لسانه، أو فكره، أو ذهنه، إلى قراءتها بغير ما رسمت، وهو الأمر الذي تعوزنا معرفته؛ لكي نستطيع أن نؤدي به جميع أنواع الأصوات، التي هي بين الضم والفتح، وبين الكسر والفتح، وبين الضم والكسر، وبين الحركة والسكون. وقد أبقينا الحركات الثلاث الأصلية على حالتها، وصورناها بأحرف، فوضعنا للضمة علامة تشبه رسم السبعة العربية، وطرفاها متجهان نحو يسار الكاتب؛ أي هكذا « »، وهي تكاد تكون بهيئة الضمة الأصلية، ورسمنا لعلامة الفتحة ما يشبه رسم السبعة أيضا، لكن طرفيها متجهان إلى فوق؛ أي هكذا « »، ورسمنا للكسرة مثل الثمانية، وطرفاها متجهان إلى أسفل؛ أي هكذا « ». وجميع هذه الرسوم الثلاثة قد ألفتها عين العربي، فلا يؤذيها شكلها أذية تذكر.
وأما الحركات الأجنبية، فاتخذنا لها صورا تسهل لنا الاهتداء إلى النطق بها؛ فالواو المقلوب طرفها الدقيق إلى فوق؛ أي « »، يمثل لنا
O
الفرنسية، وهو الألف المفخمة كما في الله، والصلاة، والزكاة، أو مثل الفرنسية
Son ، فتكتب: «ص
ن». وهذه العلامة سماها بعضهم: «الضمة الثقيلة المبسوطة»، وآخرون: «الضم غير المشبع»، وفريق: «التفخيم».
وصورنا الحرف
أو الصوت
الذي بين الواو والياء بواو مقلوبة وطرفها الدقيق ذاهبا إلى تحت؛ أي « »، فتقول: « » وأنت تريد:
Fur ، وهي في اللغة العربية في قولهم: «قيل ومد» بصيغة المجهول، فتكتبان: « » و« »، وسماها بعضهم: «الضمة المخففة المقبوضة».
وأما ألف
أو همزة الإمالة، فصورناها بصورة ألف تحتها نقطتان؛ للدلالة على أن تلك الألف هي بين الهمزة المفتوحة والمكسورة؛ أي هكذا « »، وسماها بعضهم الإمالة، أو «ألف الإمالة»، أو «همزة الإمالة»، وآخرون: «الفتحة المقبوضة»، وتنظر إلى
É
الفرنسية.
وهناك حركة قصيرة تكاد تكون سكونا لقلة جرسها وخفائها على السامع، وهي المسماة بالفرنسية ب
E muet (أي الخرساء)، وهي «الإشمام» بلغتنا، وصورناها بنصف سكون متجه قرناه إلى يمين الكاتب هكذا « »، أو هو صورة الرقم سبعة وطرفاه متجهان نحو يمين الكاتب؛ أي « »؛ أي إن ذلك الحرف أو تلك الحركة بين الحركة والسكون، فإذا أردت أن تكتب
Le
الفرنسية تصورها هكذا ↲ .
وكل ذلك لا يستوجب إدخال أحرف جديدة في الكتابة ولا في المطابع، بل يكتفي بقلب وجهة الواو، أو بقلب وجهة الرقم العربي الذي يشار به إلى السبعة، أو بكسر السكون نصفين وتغيير توجيه طرفيه، أو بزيادة نقطتين تحت الألف. (9) ملاحظات
كل حرف يعتبر في حد نفسه ساكنا، كما في حروف الهجاء الإفرنجية، ثم ينطق به أو يحرك بما يتقدمه من الأحرف العليلة، أو بما يليه منها، فإذا كتبت مثلا: «منا»، قرأتها بإسكان الميم وفتح النون وبعدها ألف؛ أي منا، وبالحرف الإفرنجي
Mna . والتنوين على أنواعه الثلاثة يكتب بالأحرف؛ إذ ليس في الكتابة الجديدة حركات أو شكلات فوق الحرف أو تحته، فتكتب زيد مثلا هكذا: « »، وزيدا: « »، وزيد: « » إلى آخر ما هناك.
والشدة لا ترسم، بل يكرر رسم الحرف، والمدة والهمزة تبقيان على حالهما، وتعقب الهمزة بالحركة اللازمة، بخلاف المدة المفتوحة فتبقى على حالها. (10) رسم كلام عربي
والآن نكتب لك بيتا من الشعر ونرسمه لك بالمصطلح الجديد حتى ينجلي لك الأمر كل الانجلاء. فدونك مثلا هذا البيت:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أسباب السماء بسلم (11) رسم كلام فرنسي وكل لغة أجنبية
إذا أردت أن تكتب مثلا هذه العبارة الفرنسية:
Je Ne Voudrais Faire De La Peine à Personne.
ترسمها هكذا:
وكنت في سنة 1914 إلى سنة 1916 في قيصري (هي قيسارية كبادوكية)، وحاولت أن أدرس اللغة الأرمنية وأكتبها بحروف عربية، فقال معلمي وآخرون كثيرون: يستحيل عليك أن ترسم الألفاظ الأرمنية بقلم عربي ، فقلت لهم : إني وضعت بعض علامات تمكنني من أن أصور كل لفظ أجنبي بالخط العربي. وحينئذ أملى علي أحد الواقفين كلاما طويلا في اللغة الأرمنية، واتخذ لذلك أغرب الكلم ليجعل علي قراءتها أمرا مستحيلا، أو لا أقل من أن يجعله علي صعبا شاقا. وبعد ذلك قال لي: اقرأ ما أمليته عليك - وكان يظن أني لا أعيد من كلامه كلمة واحدة صحيحة اللفظ - فأعدته جميعه من غير أن أخل بكلمة واحدة، فتعجب الجميع وقالوا: إن العربية لغة عجيبة، وحروفها أعجب من حروف لغات الدنيا كلها. (12) اللغة الصابئية
اللغة الصابئية فرع من اللغات السامية، ولها حروف خاصة بها، تشبه بعض الشبه حروف اللغة العبرية أو الآرمية، لكنها خالية من النقط والحركات، أو الشكلات، وتكتب الحركات بأحرفهم العليلة، وهكذا ترى الصابئة ينفردون بقلم لا يضاهي أقلام سائر اللغات المعروفة على الأرض. أما كتابتنا الجديدة فتكون ككتابتهم من قبيل الاستغناء عن سطر يملأ شكلات، فيصبح السطر الواحد سطرين، وإذا لم تضبط الكلم تعسرت قراءتها. فالصابئة سبقونا إلى تسهيل الكتابة والقراءة، وذلك بمئات من السنين، فلا يضرنا الآن مجاراتهم في هذا الموضوع؛ إذ لا بد من المصير إليه، إن أردنا أن نحافظ على قلمنا العربي، وعلى تسهيل قراءته على من يريد أن يتعلمه، إن كان من أبنائنا أو من الأجانب. (13) الخلاصة
صرنا في عصر اضطررنا إلى أن نأخذ بشيئين في حروفنا لنجاري الأمم الراقية في خطها وكتابتها وآدابها؛ وهذان الشيئان لا بد منهما إن أردنا أن نحافظ على قلمنا؛ وهما: الأول: إدخال حروف جديدة من ساكنة وصائتة (أي من صحيحة وعليلة)، وهي التي ذكرناها في هذه الرسالة. والثاني: جعل حركات الضبط والنطق التام في أثناء الكلمة لا خارجا عنها من فوق أو من تحت. وقد يصطلح على غير الصور التي اصطلحنا عليها هنا، لكن لا يسهل إدخالها في المطابع، ويصعب علينا رسمها وأن نعرف صحتها. وكل ذلك لا بد لنا منه لإتقان النطق بما وضعه الكاتب، وإلا دفعتنا الضرورات إلى اتخاذ الحرف الغربي. وهذا أعظم بلاء على هذه اللغة وعلى آدابها. لا حقق الله تلك الأماني التي يدفعنا إليها بعض أعداء اللغة، ونجانا من نتائجها وعواقبها الوخيمة، وحقق أمانينا الخالية من كل غرض. إنه معين كريم.
خط هذه الرسالة عبد الرزاق بن محمد الحاج فليح البغدادي على النسخة الأصلية في 8 تشرين الثاني من سنة 1935.
نامعلوم صفحہ