السؤال :
وذلك أنهم إذا اختلفوا في المجادلة وأجهدوا أنفسهم في المناظرة ، قالوا لمن عارضهم : من أجل وأفضل وأورع وأفقه وأعلم ؟ مالك أو أبو حنيفة أو الشافعي أو أحمد أو داود ؟
فقام عندهم هذا السؤال الساقط مقام ما لا جواب له ولا اعتراض عليه ، وظنوا أنهم ليس ها هنا إلا التسليم لظنهم وغلطهم ، والإذعان لسؤالهم الساقط ، سالكين في ذلك مسلك الحمية ، ولا بسين ثوب العصبية ، وسائرين بسيرة أهل الجاهلية ، من التفاخر والمغالبة ، والتنازع والمجاذبة ، والميل إلى ما لا يغني من الحق شيئا ، ولا ينيله من حسناته حسنة ، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة ، ولا يرجو منه في غد شفاعة ، ومن هو مشغول عنه يوم القيامة بنفسه !
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولهذا السؤال أجوبة نذكرها إن شاء الله ، كل واحد منها كاف في بيان هجرية هذا السؤال ، ورادع لهم عن العودة له إن شاء الله .
الجواب الأول :
فأول ذلك أن يقال لمن سأل هذا السؤال : أن من جملة سؤالكم عن حكم ألفاظ لا تدرون معناها ، ولا تقيمون موضوعها ولا تفهمون حقيقتها ، ولا تعلمون ما المراد بها ، ولا تعقلون تفسيرها ، في أصل كمن يحكم فيما لا يدري ما هو ! ويقضي بلفظ هو جاهل بمعناه ، وكل من رأينا منهم فإنهم لا يدرون معنى قول القائل : فلان أعلم من فلان ، ولا ما المراد بقول القائل : فلان أفقه من فلان ، ولا ما الغرض من قول القائل : فلان أجل من فلان ، ولا ما المقصود من قول القائل : فلان أفضل من فلان !
فكان الأولى على من سأل هذا السؤال أن يبحث عن معنى هذه الألفاظ ، وعن هذه الصفات التي إذا وجدت في إنسان أتم منها في غيره قضي بأنه أعلم منه وأفقه منه وأجل منه وأفضل منه ، فلو فعلوا هذا أو عرفوا معاني الألفاظ لكفوا أنفسهم مؤونة هذا السؤال ، ولعرفوا من المستوجب للبسوق في التسمية بهذه الأسماء .
الجواب الثاني :
والجواب الثاني : أن يقال لهم : لا اختلاف بين جميع أهل الأديان عامة ، فكيف أهل الإيمان خاصة ، في أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود ، وأعلم ، وأبجل ، وأولى عند الله تعالى وعند الناس بكل فضل وخير ، وقد ذكرهم الله تعالى عز وجل فقال : { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ()، وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } البقرة آية 140-141 .
فإذا كان الأنبياء عليه السلام لم نكلف معرفة أعمالهم ، ولا حملنا دراية ما كسبوا ، وأخبرنا الله عز وجل أننا لا نسأل عما كانوا يعملون ، فحق بلا شك فيمن دونهم أولى بسقوط معرفة أعمالهم ودراية أحوالهم عنا ، فصح بهذا أن السؤال عمن كان أعلم : مالك أو أبو حنيفة أو الشافعي أو أحمد أو داود ، فضول من القول ، وغث من السؤال ، واشتغال بما لا يغني ، وتهمم بما لا فائدة فيه ، وهذه حال لا يتهبل بها عاقل .
فإذا كان ذلك كذلك ، فلولا ما فشا من ضلالة من ضل بهذا السؤال الفاسد لكان الإعراض عن الكلام فيه واجبا ، والإقبال على سؤال ما يلزم المرء أولى ، ولكن فرض النصيحة للمسلمين واجب ، فلزمنا بيان ما سألوا عنه من ذلك لوجهين :
أحدهما : تبيين أن هذا السؤال الذي موهوا به ، وإنكار هذا المنكر الذي شغبوا به ، قال الله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف } سورة آل عمران آية 104 .
والوجه الثاني : تحذير من عسى أن يجوز عليه هذا الباطل ، فلعله ينجو من ضلالته وحيرته ، قال رسول الله ص : ( الدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) أو كما قال عليه السلام .
الجواب الثالث :
والجواب الثالث أن يقال لهم : هبكم أن من قلدتموه بدينكم ضلالة وجهالة ، وجعلتموه دون الله تعالى ودون رسوله ص وليجة ، فحرمتم ما حرم ، وحللتم ما حلل ، وأوجبتم ما أوجب ، وأنزلتموه حيث أخبر الله تعالى عن نفسه دون غيره ، إذ يقول جل ذكره : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } سورة الأنبياء آية 23 ، فهبكم أنه كان أعلم من سائر من قدرتم تغليبه عليهم ، وأنه كان أفضل منهم وأجل وأورع وأفقه ، فهل عندكم أو عند أحد من أهل الأرض كافة شك في أن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم كانوا أفقه وأعلم وأفضل وأجل وأورع وأحفظ وأولى بكل خير من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود ؟ فلا بد لهم من الجواب بأنه لا شك عندهم في ذلك .
فإذ لا شك في ذلك ولا مرية ، وظن هؤلاء الجهال أن كون من جعلوا دينهم قلادة في عنقه ورفضوا له حكم القرآن وكلام رسول الله ص متقدما في العلم والورع والفقه والجلالة لمن قلده غيرهم دينهم أيضا موجب لهم اسم الصواب وصفة الإحسان ، فتقليدهم واتباعهم ما ورد عن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم كان أولى بهم ، إذ إنما جعلوا علتهم في اتباعهم من اتبعوه إنما هي تقدمه في العلم والفقه والفضل والجلالة والورع ، فواجب على هذا ترك من قلدوه دينهم وأن يتبعوا من ذكرنا من الصحابة ؛ لأنهم بلا شك أفضل من صاحبهم وأعلم وأفقه وأجل .
الرابع :
والجواب الرابع أن يقال لهم : قال الله عز وجل : { كل حرب بما لديهم فرحون } الروم آية 32 .
وليت شعري ! أيشك هذا الجاهل الذي سأل هذا السؤال في أن كل طائفة قلدت رجلا من هؤلاء المذكورين فإنهم لولا أنه عندهم أفقه من سائرهم وأعلم وأفضل وأجل وأورع لما قلدوه دينهم ، فقد كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعرفوا أن غيرهم بصاحبه كالذي يجدونه هم بصاحبهم ولا فرق ، وكل فتاة بأبيها معجبة ، ولكل أناس في جميلهم خبر ، فإن كانوا لا يعرفون هذا ، فقد جمعوا مع العماوة الجنون ، ومع قوة الجهل ضعف الحس ، وقد رويت عن كل طائفة في صاحبهم شنع منها خفيف ومنها فظيع .
صفحہ 4