وقبل أن يستطيع التفكير فيما حدث، قال تاد كولين: «أيمكنني أن آتي معك يا سيد جرانت؟ إلى لندن.» «كنت أنوي أن تأتي معي. لقد حجزت تذكرتين على طائرة الصباح.»
في النهاية أخذ جرانت الصنارة التي كان تاد كولين يستخدمها - والتي كانت احتياطية من منزل كلون - حتى يتسنى لهم السير معا مع تيار النهر وتجاذب أطراف الحديث. لكن زوي لم تبد أي استعداد للاستمرار في الصيد.
فقالت وهو تحل صنارتها: «لقد اكتفيت. أظن أنه ينبغي أن أعود إلى كلون لأكتب بعض الخطابات.»
وقف بات متحيرا، ككلب ودود بين اثنين يدين لهما بالولاء، ثم قال: «سأعود مع زوي.»
فكر جرانت أن بات قالها وكأنه كان يناصرها وليس مجرد رغبة في مرافقتها، وكأنه انضم للتو إلى حركة مناوئة لإساءة معاملة زوي. لكن حيث إن أحدا لم يفكر مطلقا في أن يسيء معاملة زوي، كان سلوكه هذا غير ضروري بكل تأكيد.
ومن الصخرة التي جلس عليها جرانت مع تاد كولين ليطلعه على المستجدات، راح يراقب الجسدين يتضاءلان شيئا فشيئا عبر الأرض السبخة، وتعجب قليلا من ذلك الانسحاب المفاجئ، وجو الإحباط الذي كان يغشى مسيرها. بدت مثل طفلة يائسة متعبة تجرجر قدميها نحو المنزل في غير توقع. ربما غمرتها فجأة أفكار عن زوجها ديفيد. ذلك هو حال الحزن؛ يتركك وشأنك شهورا حتى تظن أنك شفيت، وفجأة ومن دون سابق إنذار يطمس نور الشمس.
كان تاد كولين يقول: «لكن ذلك لا يثير الحماسة كثيرا، أليس كذلك؟» «ماذا تقصد؟» «تلك المدينة التي تتحدث عنها. هل يمكن لأي أحد أن يتحمس تجاهها كل هذه الحماسة؟ أقصد تجاه حفنة من الأطلال. الأطلال لا تساوي شيئا في هذا الزمان.»
قال جرانت، وقد نسي أمر زوي: «ليس هذه الأطلال، ليست كذلك. الرجل الذي سوف يعثر على مدينة عبار سيدخل التاريخ.» «حين قلت إنه وجد شيئا مهما ظننت أنك ستقول إنه وجد مصانع ذخيرة في الصحراء أو شيئا من هذا القبيل.» «ذلك شيء لا قيمة له حقا هذه الأيام.» «ماذا؟» «مصانع سرية للذخيرة. من يكتشف أيا منها لن يصبح مشهورا.»
انتصبت أذنا تاد. وقال: «مشهورا؟ تقصد أن الرجل الذي سيكتشف هذا المكان يمكن أن يصبح مشهورا؟» «لقد قلت ذلك بالفعل.» «لا. قلت فقط إنه سيدخل التاريخ.» «صحيح. صحيح جدا. لم يعد هذان التعبيران مترادفين. أجل، سيصبح مشهورا. إن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سيكون بلا قيمة مقارنة بهذا.» «وتظن أن بيل ذهب لمقابلة ذلك الرجل، الذي يدعى لويد؟» «إن لم يكن قد ذهب إليه، فقد ذهب إلى شخص آخر في ذلك السياق. أراد أن يتحدث إلى شخص سيأخذ ما يقوله على محمل الجد؛ أقصد شخصا لن يضايقه ويزعجه حيال رؤيته لهذه الأشياء. كما كان يريد أن يلتقي بشخص لديه اهتمام شخصي بأخباره ومتحمس لها. سيفعل ما فعلته أنا بالضبط. سيذهب إلى متحف أو مكتبة أو ربما حتى إلى أحد أقسام المعلومات في أحد المتاجر الكبرى، ويكتشف من هو أفضل كاتب ومستكشف إنجليزي لشبه الجزيرة العربية. وعلى الأرجح أنه سيجد نفسه أمام خيارات عدة؛ فأمناء المكتبات متحذلقون، وأقسام المعلومات تخضع لقانون التشهير، لكن لويد خارج المنافسة مع الآخرين؛ لأن براعته في الكتابة تضاهي براعته في الاستكشاف. إنه الاسم المألوف وسط أقرانه، إن جاز التعبير. لذا فإن الاحتمال الأرجح للغاية هو في صالح أن بيل سيختار لويد.» «إذن علينا أن نكتشف متى وأين التقى لويد ونتتبع أثره من تلك النقطة.» «أجل. علينا أيضا أن نعرف إن كان قد ذهب للقاء لويد بصفته شارل مارتن أم باسمه الحقيقي.» «ولماذا قد يلتقي به باسم شارل مارتن؟» «من يدري؟ قلت إنه كان حذرا بعض الشيء. ربما كان يريد أن يخفي صلته بشركة أورينتال كوميرشال. أهذه الشركة صارمة بشأن مساراتها وجداول رحلاتها؟ ربما كان الأمر بهذه البساطة.»
جلس كولين في صمت قليلا، وكان في أثناء ذلك يرسم نمطا على العشب بعقب صنارة الصيد. ثم قال: «لا تظن يا سيد جرانت أنني أميل إلى المأساوية أو ... أو الحساسية أو السذاجة، لكنك لا تظن أن بيل قتل، أليس كذلك؟» «يمكن أن يكون قد قتل بالطبع. فجرائم القتل تحدث. حتى جرائم القتل العبقرية. لكن احتمالات ذلك بعيدة جدا.» «لماذا؟» «مبدئيا لأن الأمر اجتاز تحقيقا شرطيا. وعلى عكس كل الروايات البوليسية التي تقول بغير ذلك، تتمتع إدارة التحقيقات الجنائية بكفاءة عالية حقا. وهي إلى حد بعيد - إن كنت ستتقبل رأيا متحيزا بعض الشيء - أكثر المؤسسات كفاءة في هذا البلد في وقتنا الحالي، أو في أي بلد آخر، في أي وقت من الأوقات.» «لكن الشرطة كانت مخطئة بالفعل بشأن أحد الأمور.» «تقصد بشأن هويته. أجل، لكن لا يمكن لومها على ذلك.» «تقصد لأن الحبكة كانت مثالية. إذن ما الذي سيقوض الحبكة الأخرى؛ إذ إنها مثالية كحبكة هوية شارل مارتن؟» «لا شيء بالطبع. فكما قلت، جرائم القتل العبقرية تحدث. لكن تزوير هوية أسهل بكثير من ارتكاب جريمة قتل دون عقاب. كيف حدث الأمر برأيك؟ هل دخل عليه أحد وقتله بعد أن غادر القطار محطة يوستن، ودبر أن يبدو الأمر وكأنه سقط؟» «أجل.» «لكن لم يزر أحد المقصورة «بي 7» بعد أن غادر القطار يوستن. لقد سمعته راكبة المقصورة «بي 8» يعود بعد أن أتم المضيف جولته، وأغلق بابه. ولم تجر أي محادثة بعد ذلك.» «لا يستلزم ضرب رجل على مؤخرة رأسه محادثة.» «لا، لكنه يستلزم فرصة. فاحتمالات أن يفتح القاتل الباب ويجد شاغل المقصورة في الوضعية المناسبة لأن يضربه على مؤخرة رأسه تكاد تكون منعدمة. فالمقصورة ليست مكانا يسهل فيه أن تضرب فيه شخصا، ولا حتى اختيار التوقيت المناسب؛ فهي مقصورة للنوم. سيتعين على أي أحد يبيت سوء النية أن يدخل إلى المقصورة؛ فلا يمكن توجيه الضربة من الممر . ولا يمكن توجيه الضربة والضحية في السرير. وكذلك لا يمكن توجيهها والضحية مواجه لك، كما أنه سيلتفت بمجرد أن يدرك أن أحدهم موجود معه في المقصورة. وتقول راكبة المقصورة «بي 8» إنه لم تحدث أي محادثة أو زيارة. وراكبة المقصورة «بي 8» من النوع الذي «لا يستطيع أن ينام في قطار». إنها تقرر ذلك مسبقا، وكل صوت وصرير وقعقعة، ولو كان ضئيلا، يسبب لها معاناة كبيرة. ومن عادتها أنها تغط في النوم بحلول الثانية والنصف، لكن بيل كينريك كان قد مات قبل ذلك بوقت طويل.» «هل سمعته يسقط؟» «يبدو أنها سمعت صوت «ارتطام»، وظنت أنه كان ينزل إحدى حقائبه. لكنه بالطبع لم يكن معه حقائب من شأنها أن تصدر صوت ارتطام وهو يتعامل معها. بالمناسبة، هل كان بيل يتحدث الفرنسية؟» «بما يكفي لأن يتدبر أمره.»
نامعلوم صفحہ