قال: «اسمي كولين. تاد كولين. وأنا أعمل طيارا. إذ أطير بالبضائع لصالح شركة أوه سي إيه إل. شركة أورينتال كوميرشال إيرلاينز ليمتد، كما تعرف.»
كان يقال إن كل ما تحتاجه من أجل الطيران لصالح هذه الشركة هو شهادة بأنك تستطيع الطيران، وألا تبدو عليك أي علامة من علامات مرض الجذام. لكن تلك كانت مبالغة. بالفعل، كان هذا تشويها. كان يتعين أن تكون ماهرا حتى تعمل طيارا في هذه الشركة. ففي خطوط طيران الركاب الكبيرة المميزة، إن ارتكبت خطأ ستتعرض للوم والتوبيخ. أما في شركة أورينتال كوميرشال، فإن ارتكبت خطأ فستطرد من العمل. كانت شركة أورينتال كوميرشال تحظى بعدد هائل من الموظفين. ولم تكن الشركة تلتفت مطلقا إلى مهارتك في التحدث بقواعد النحو، أو إلى لون بشرتك، أو أسلافك، أو أخلاقك، أو جنسيتك، أو مظهرك؛ ما دمت تستطيع الطيران. يتحتم على المرء أن يكون قادرا على الطيران في هذه الشركة. نظر جرانت إلى السيد كولين باهتمام مضاعف. «اسمع يا سيد جرانت، أعرف أن ذلك الإعلان - تلك الكلمات التي نشرتها في الصحيفة - أعرف أنها كانت مجرد اقتباس من نوع ما كنت تريد معرفة مصدره، أو شيئا من هذا القبيل. وبالطبع لا أستطيع أنا أن أحدد مصدره. لم أكن بارعا قط فيما يتعلق بالكتب. لم آت إلى هنا لأكون ذا نفع لك. بل في ظني أن الأمر على العكس من ذلك تماما. لكنني كنت قلقا كثيرا، وفكرت حتى إن قطع مسافة طويلة كهذه قد يستحق المحاولة. لقد ذكر بيل - وهو صديقي - كلمات كهذه في إحدى الليالي حين كان منتشيا قليلا، وفكرت أنها قد تشير إلى مكان ما. أقصد أن الوصف قد يشير إلى مكان بعينه. حتى ولو كان اقتباسا. أخشى ألا يكون ما أقوله واضحا.»
ابتسم جرانت وأجاب بأنه ليس واضحا، حتى الآن، لكن اقترح أن يجلسا معا ويسويا الأمر. «هل أفهم من هذا أنك أتيت إلى هنا بحثا عني ؟» «أجل ، في الواقع أتيت ليلة أمس. لكن مكتب البريد كان مغلقا؛ لذا حصلت على سرير في النزل. يطلقون عليه اسم مويمور. ثم ذهبت إلى مكتب البريد هذا الصباح وسألتهم أين يمكنني أن أجد إيه جرانت الذي وصله الكثير من الخطابات. كنت واثقا من أنك ستتلقى كثيرا من الخطابات، كما ترى، بعد نشر ذلك الإعلان. وقالوا لي إنني إن كنت أريد السيد جرانت فسأجده في مكان ما عند النهر. في الواقع، أتيت إلى هنا لأبحث، ولم أجد أحدا آخر عند النهر سوى امرأة؛ لذا خمنت أنك لا بد أن تكون السيد جرانت. كما ترى، لم يكن من المجدي أن أرسل لك خطابا لأنني حقا لم يكن لدي شيء يبدو مستحقا لأن أخطه على الورق. أقصد، كان الأمر مجرد أمل سخيف. ويمكنك ألا تتكبد عناء الإجابة على أي حال؛ أقصد أن الأمر لم يكن له علاقة بك.». سكت الرجل لحظة، ثم أضاف بنبرة تنم عن التعلق بالأمل وعدم الاعتماد عليه في الوقت ذاته: «ليس ملهى ليليا، صحيح؟»
سأله جرانت مندهشا: «ما الذي ليس كذلك؟» «ذلك المكان الذي على بابه وحوش متكلمة. والمشهد الغريب. بدا مثل مدينة ترفيهية. كما تعلم: من نوعية الأماكن التي تمضي فيها عبر أنفاق وأنت على متن قارب في الظلام، وترى أشياء سخيفة ومخيفة فجأة. لكن بيل ما كان سيبدي اهتماما بمكان كهذا. لذا فكرت في أنه ملهى ليلي. كما تعرف؛ أحد تلك الأماكن التي تصنع أشياء غريبة لإبهار الزبائن. يبدو ذلك أقرب كثيرا إلى توليفة بيل. خاصة في باريس. وكنت سألتقي به في باريس.»
للمرة الأولى ظهر شعاع أمل. «أتقصد أنك كنت على موعد مع بيل هذا لتلتقيا؟ ولم يأت في موعده؟» «لم يأت على الإطلاق. وذلك ليس من شيم بيل على الإطلاق. إن قال بيل إنه سيفعل شيئا، أو سيكون في مكان ما، أو سيتذكر شيئا، صدقني إنه سينفذ ما قاله. ذلك هو السبب في شعوري بالقلق البالغ. ولم يترك أي تفسير. لم يترك رسالة في الفندق أو أي شيء. بالطبع ربما يكونون قد نسوا أن يسجلوا الرسالة؛ فهذه هي طبيعة الفنادق. لكن، حتى لو نسوا، كان بيل سيتابع الأمر معهم. أقصد أنني إذا لم أبد ردة فعل، كان بيل سيتصل هاتفيا مرة أخرى ليقول: ماذا ستفعل أيها العجوز كذا وكذا، ألم تصلك رسالتي؟ لكن لم يكن يوجد أي شيء كهذا. الأمر غريب، أليس كذلك، أن يحجز غرفة ولا يأتي ليشغلها ولا يرسل كلمة واحدة تفسر ذلك؟» «غريب جدا بالفعل. وخاصة أنك تقول إن صديقك من النوع الذي يعتمد عليه. لكن لماذا أبديت اهتماما بالإعلان الذي نشرته؟ أقصد: فيما يتعلق ببيل؟ اسمه بيل ماذا، بالمناسبة؟» «بيل كينريك. إنه طيار مثلي. يعمل لحساب شركة أورينتال كوميرشال. نحن صديقان منذ عام أو عامين. لا أمانع أن أقول إنه أفضل صديق حظيت به على الإطلاق. كان الأمر معي كالتالي يا سيد جرانت. حين لم يظهر، وحين لم يبد أن أحدا يعرف عنه شيئا أو سمع بأخباره - ولم يكن لديه معارف في إنجلترا يمكنني أن أكتب إليهم - فكرت في الطرق الأخرى المتاحة للتواصل بين الناس. بخلاف مكالمات الهاتف والخطابات والبرقيات وما إلى ذلك. وهكذا هداني تفكيري إلى ما تطلقون عليه عمود الشكاوى. في الصحف كما تعلم. لذا حصلت على طبعة باريس من صحيفة «كلاريون» - أقصد ملفاتهم في مكتبهم بباريس - واطلعت عليها ولم يكن يوجد أي شيء. ثم حاولت مع صحيفة «ذا تايمز»، ولم أجد بها شيئا أيضا. كان هذا بعد مرور بعض الوقت بالطبع؛ لذا اضطررت أن أراجع الملفات القديمة، لكن لم يكن يوجد أي شيء. كنت على وشك أن أتخلى عن الأمر لأنني كنت أظن أن هاتين هما فقط الصحيفتان الإنجليزيتان اللتان تصدران طبعات دورية لباريس، لكن قال لي أحدهم لم لا أطلع على صحيفة «مورنينج نيوز». فذهبت إليها، ولم يبد أن بها أي شيء من بيل، لكن كان بها إعلانك الذي ذكرني بشيء ما. إن لم يكن بيل مفقودا، فلا أظن أنني كنت سأعيد التفكير في الأمر، لكن إذ كنت قد سمعت بيل يتمتم بشيء ما يتماشى مع تلك الأبيات، لاحظت الأمر وأصبحت مهتما. كما يقول بيل، هل أنت معي؟» «معك تماما. أكمل. متى تحدث بيل عن ذلك المشهد الغريب؟» «لم يتحدث عنه على الإطلاق. كل ما في الأمر أنه ثرثر في إحدى الليالي حيث كنا ثملين قليلا. بيل لا يعاقر الكحوليات يا سيد جرانت. لا أريدك أن تكون فكرة خاطئة. أقصد: يعتاد شرب الكحوليات. قلة من الرجال في مجموعتنا يفعلون، أعترف بذلك، لكنهم لا يستمرون طويلا في الشركة. لا يستمرون طويلا على أي حال. هذا هو سبب طرد شركة أورينتال كوميرشال لهم. إن الشركة لا تمانع إن قتلوا أنفسهم، لكن البضائع التي ننقلها في الصناديق غالية الثمن. لكننا نحظى بفرصة الخروج لليلة بين الحين والآخر مثل الأناس الآخرين. وفي إحدى تلك الليالي التي خرجنا فيها أخذ بيل يثرثر. كنا جميعا ثملين قليلا؛ لذا لا أتذكر أي شيء بالتفصيل. أعرف أننا كنا نشرب أنخابا، وكانت مواضيع الحديث قد نفدت في ذلك الوقت. فكنا نتناوب التفكير في نخب لأشياء غير محتملة. مثل: «الابنة الثالثة لعمدة بغداد» أو «إصبع قدم جون كاي الأيسر الصغير». فقال بيل: «نخب الفردوس!» ثم ثرثر بشيء عن وحوش متكلمة ورمال مغنية وما إلى ذلك.» «ألم يسأله أي أحد عن فردوسه هذا؟» «لا! كان الشخص التالي ينتظر دوره ليدلي بدلوه. لم يكن أي أحد ينتبه لأي شيء. لقد ظنوا فقط أن النخب الذي اقترحه بيل كان مملا. ما كنت سأتذكره أنا نفسي لو لم أصادف الكلمات في الصحيفة حين كان ذهني مشغولا على بيل.» «ولم يذكره مجددا أبدا؟ لم يتحدث قط عن أي شيء كهذا في الأوقات التي كان فيها واعيا.» «لا. إنه ليس كثير الكلام غالبا.» «أتظن أنه ربما كان سيحتفظ بالشيء لنفسه لو كان مهتما به اهتماما كبيرا؟» «أوه، أجل، إنه يفعل ذلك، يفعله بالفعل. إنه ليس منغلقا، إنما هو حذر بعض الشيء. في معظم الأحوال هو أكثر شخص منفتح يمكنك أن تتخيله. إنه كريم مع القريبين منه، ولا يبالي بأشيائه، وعلى استعداد لفعل أي شيء لأي شخص. لكن في الأمور التي ... في الأمور الشخصية، إن كنت تعرف ما أقصد، يغلق الباب في وجهك نوعا ما.» «هل كان مرتبطا بفتاة؟» «حاله لا يختلف عن حال أي منا في ذلك. لكن ذلك مثال جيد جدا على ما أقصد. فحين يخرج بقيتنا من أجل قضاء أمسية، فإننا نرضى بما هو موجود. لكن بيل سيذهب وحده إلى جزء آخر من المدينة حيث يكون قد حصل لنفسه على شيء أقرب إلى ما يريد.» «أي مدينة تقصد؟» «أي مدينة نكون فيها. الكويت، مسقط، القطيف، المكلا. أي مدينة من عدن إلى كراتشي، إن تطلب الأمر. فمعظمنا يطير في مسارات مجدولة، لكن البعض يطير في رحلات غير منتظمة. يأخذ أي شيء لأي مكان.» «أين كان ... أين يطير بيل؟» «لقد طار في الأنحاء كافة. لكن مؤخرا كان يطير بين الخليج والساحل الجنوبي.» «تقصد شبه الجزيرة العربية.» «أجل. إنه مسار كئيب ملعون، لكن يبدو أن بيل كان يحبه. أظن أنه أمضى فيه وقتا طويلا. فإن أمضيت وقتا طويلا على مسار واحد تصبح مبتذلا.» «لم تظن أنه أمضى فيه وقتا طويلا؟ هل تغير بأي شكل؟»
هنا تردد السيد كولين. وقال: «ليس بالضبط. كان بيل الذي نعرفه، لين العريكة ولطيفا. لكنه انغمس بحيث لم يستطع أن يرمي الأمر وراء ظهره.» «أتقصد يرمي عمله وراء ظهره؟» «أجل. معظمنا - في الواقع، كلنا - يرمي العمل وراء ظهره حين نسلم الطائرة إلى الطاقم الأرضي. ولا نتذكر عنها شيئا حتى نلقي التحية في الصباح التالي على الميكانيكي المسئول. لكن بيل كان منغمسا في العمل حتى إنه كان ينكب على خرائط المسارات وكأنه لم يطر الرحلة من قبل.» «في رأيك، ما سبب هذا الاهتمام بالمسار؟» «في الواقع، ظننت أنه كان يحاول إيجاد طريقة لتجنب المناطق السيئة الطقس. لقد بدأ الأمر - وبالأمر هنا أقصد اهتمامه بالخرائط - ذات مرة حين وصل في ساعة متأخرة جدا بعد أن قذفه أحد تلك الأعاصير المرعبة، التي تظهر من العدم في تلك البلاد، عن مساره. كنا قد كدنا نفقد الأمل في عودته في ذلك الوقت.» «ألا تطيرون على ارتفاعات أعلى من أحوال الطقس؟» «في الرحلات الطويلة بالطبع نفعل. لكن حين تطير بطائرات الشحن فإنه يتعين عليك أن تحط في أغرب الأماكن. لذا أنت دائما تحت رحمة الطقس بطريقة أو بأخرى.» «فهمت. وهل تظن أن بيل تغير بعد تلك التجربة؟» «في الواقع، أظن أنها تركت فيه أثرا. كنت موجودا حين وصل. أقصد بالطائرة. كنت أنتظره، في المهبط. وبدا لي مهزوزا بعض الشيء، إن كنت تفهم ما أعنيه.» «يعاني صدمة.» «أجل. كان لا يزال يخوض تلك التجربة، إن كنت تعرف ما أقصد. لا يصغي حقا لما يقال له.» «وبعد ذلك بدأ يدرس الخرائط. ليخطط لمساره، كما تظن.» «أجل. منذ تلك اللحظة وهذه التجربة هي الشغل الشاغل لذهنه بدلا من أن تكون شيئا تصرف ذهنك عنه وأنت تخلع عنك ملابس العمل. بل إنه أصبح معتادا على الوصول بالطائرة متأخرا. وكأنه خرج عن طريقه ليبحث عن مسار أسهل.» توقف الرجل لحظة، وأضاف بنبرة تحذيرية سريعة: «أرجوك، افهم يا سيد جرانت، أنا لا أقول إن بيل فقد شجاعته.» «لا، بالطبع لا.» «فقدانك لشجاعتك لا يأخذك في هذا الطريق على الإطلاق، صدقني. بل تصبح على العكس تماما. لا تريد أن تفكر في الطيران مطلقا. ويصبح مزاجك حادا، وتفرط في معاقرة الشراب وفي أوقات مبكرة للغاية من اليوم، وتحاول أن تتحايل للحصول على رحلات قصيرة، وتدعي أنك مريض بينما ليس بك أي خطب. لا يوجد غموض بشأن فقدان الشجاعة يا سيد جرانت. بل إنه يعلن عن نفسه وكأنه اسم على سرادق. لم يظهر على بيل أي شيء مشابه لذلك ... ولا أظن أنه سيظهر أبدا. الأمر فقط أنه لم يستطع أن يترك الأمر وراءه.» «أصبح هوسا لديه.» «هكذا تقريبا، على ما أظن.» «هل كانت لديه اهتمامات أخرى؟»
قال السيد كولين بنبرة آسفة، مثل شخص يعترف بشيء ذي غرابة ما في صديق له: «إنه يقرأ الكتب، وقد ظهر هذا عليه حتى في قراءته للكتب.» «كيف ظهر؟» «أقصد، بدلا من أن تكون الكتب هي الروايات القصصية المعتادة، كان من المرجح أن تكون عن شبه الجزيرة العربية.»
قال جرانت وهو غارق في التفكير: «حقا؟» منذ أتى الغريب لأول مرة على ذكر شبه الجزيرة العربية، كان جرانت «يتفق معه» تماما. كانت شبه الجزيرة العربية تعني للعالم كله شيئا واحدا؛ الرمال. وعلاوة على ذلك، أدرك أنه حين خالجه ذلك الشعور، في ذلك الصباح الذي قضاه في فندق بلدة سكون، بأن «الرمال المغنية» موجودة بالفعل في مكان ما، كان ينبغي عليه أن يربط بينها وبين شبه الجزيرة العربية. في مكان ما في شبه الجزيرة العربية كانت توجد في الواقع رمال يزعم أنها تغني.
قال السيد كولين: «لذا كنت مسرورا حين أخذ «إجازته» في وقت أبكر مما كان يريد. كنا قد خططنا للذهاب معا وقضاء إجازتنا في باريس. لكنه غير رأيه وقال إنه يريد قضاء أسبوع أو أسبوعين في لندن أولا. فهو إنجليزي. لذا رتبنا أن نلتقي في فندق سانت جاك في باريس. كان من المقرر أن يقابلني هناك في الرابع من شهر مارس.»
قال جرانت: «متى؟» وسكن فجأة. سكن عقله وسكن جسده، وكأنه كلب صيد يرى طريدته أمام ناظريه، وكأنه رجل هدفه أمام ناظريه. «الرابع من مارس. لماذا؟»
نامعلوم صفحہ