كلمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر «الفصل الأخير»
كلمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر «الفصل الأخير»
رجال وثيران
رجال وثيران
تأليف
يوسف إدريس
كلمة
حين عدت من الجزائر في صيف عام 1962م، كان يحدث كلما لقيت صديقا أن يسألني عن موعد صدور الرواية أو المسرحية التي لا بد سأكتبها وأستوحيها من أحداث الثورة الجزائرية، خاصة في أثناء تلك الفترة الحرجة التي أعقبت الاستقلال. كانت تلك هي المرة الثانية التي أعيش فيها مع الثورة الجزائرية؛ الأولى حدثت قبل الاستقلال بعام حين ذهبت مع بعثة والتحقنا بجيش التحرير وحضرنا بعض معاركه، والثانية كانت هذه المرة. وكنت لا أستغرب لهذا الإجماع الغريب على ضرورة أن أكتب رواية أو مسرحية عن ثورة الجزائر؛ إذ لا بد في نظر هؤلاء الأصدقاء الطيبين لشخص مثلي عاصر الثورة كفاحا مسلحا، ورآها إلى أن تجسدت على هيئة دولة بما صاحب التجسد من ميلاد أمة وخلق كيان، لا بد أن يكون أحق الناس بالكتابة عن هذا الحدث التاريخي، ومن ناحيته لا بد أن يجد هو أن من واجبه أن يكتب هذا العمل.
ولكن كل تلك اللقاءات والتساؤلات كانت تدفعني لمزيد من التعاسة. إن مشكلتي دائما أني لا أستطيع أن أكتب لأن من «واجبي» أن أكتب، ولم أجرب أبدا أن أفرض على نفسي موضوعا ولا أن أعطي لموضوع بالذات حق الأولوية في الخروج إلى حيز الوجود. ولقد انفعلت بكل ما رأيت في الجزائر قبل الاستقلال وبعده، ولكن يبدو كأن الانفعال لم يكن قد نضج إلى الدرجة الكافية لكسر القشرة الإرادية والخروج إلى الحياة. كانت الصورة الأساسية لأي عمل يكتب عن ثورة عظيمة كثورة الجزائر أنه يجب أن يكون في مستوى عظمة هذه الثورة، وأنى لي بهذا المستوى وأنا لا أزال بالكاد أتأمل ما رأيت ووعيت؟ وأنى لي به والمهمة شاقة؛ فالقضية لا تزال دافئة بالحماس، ولا يستطيع الإنسان فيها إلا أن يجاري الشعور العام المنفعل بها بحيث تبدو الموضوعية نوعا من السخف لا محل له؟
كنت أهز رأسي للأصدقاء وأقول: أجل سأكتب، حتما سأكتب. أقوله وأنا أول المدركين أني في تلك الفترة بالذات لن أستطيع، وأن إحساسي بنفسي يؤكد لي أني في حاجة إلى زمن أستوعب فيه كل شيء، والمواطنون أيضا في حاجة إلى الزمن نفسه لتثمر لهم الكتابة عن قضية حافلة كالقضية الجزائرية.
وفجأة - تماما كما تعودنا أن نقول في القصص - وجدت موضوع «رجال وثيران» يدق، مطالبا بالخروج، موضوعا كان مفاجأة تامة لي، فلم أكن أتوقع أبدا وأنا عائد من إسبانيا (لم تمض على عودتي أيام) أن يأتي بمثل تلك السرعة، ولا أن يجد لدي كل تلك الاستجابة وهذا الحماس.
وهكذا كتبت «رجال وثيران»، ليس بدلا من الموضوع الأول ولا هربا منه، ولا محاولة للرمز أو ربطه بصراع مرت به القوى الثورية في الجزائر، ولا أي شيء من هذا كله. إنها قصة مستقلة تماما، حوادثها وإن كانت تدور في إسبانيا إلا أن بطلها هو الإنسان، في إسبانيا أو في أي مكان. قصة كانت ولا تزال تثير دهشتي، فلم أكن أتوقع من مرة واحدة شاهدت فيها مصارعة الثيران بعد ظهر ذلك اليوم من أيام أغسطس المدريدية، وفي ملعبها الكبير، آخر ما كنت أتوقعه أن يختمر خلال ساعتين عشتهما مع المصارعة والثيران والمصارعين هذا العمل، أو أي عمل آخر حتى لو كان سلسلة من المقالات.
وبعد ...
كثيرا ما نسمع الناس يتساءلون: هل أدبنا أصبح عالميا؟ ومتى وكيف يصبح أدبنا عالميا؟ والسؤال بلا شك يدل على طموحنا كتابا وقراء، ولكنني أحب أن أؤكد أن اختيار إسبانيا أو أي بلد آخر من بلاد العالم مكانا تدور فيه أحداث قصة ليس هو الطريق أبدا لكي يصبح أدبنا إنسانيا عالميا؛ لأن هذه الإنسانية والعالمية ليس لهما إلا طريق واحد هو الكتابة بصدق ورأي وإحساس عن أنفسنا التي نعرفها، أو عن غيرنا ممن لا تقل معرفتنا بهم عن معرفتنا بأنفسنا، بل هو الطريق الوحيد لكي تصل الكتابة - أي كتابة - إلى مرتبة الفن - أي فن - لا يهم محليا كان أو عالميا، والمشكلة في رأيي أننا كثيرا ما نقحم مفهوماتنا العقلية أو الرياضية، أو في معظم الأحيان السياسية، إقحاما على ما نريد وباستطاعتنا قوله، فتكون النتيجة أن نفقد خيط الانفعال الصادق ونرقص على السلم. إنما هي في الحقيقة محاولة لكي نرى أنفسنا هنا في مصر والعالم العربي عن طريق غير مباشر في ظاهره، ولكنه في أحيان يعطينا رؤى أكثر صدقا ووضوحا وعمقا.
هذا عن علية (كما يقول الفلاسفة) كتابة هذه القصة، أما إذا تركنا الأسباب القابلة للنقاش والأخذ والرد جانبا، فكل ما أذكره الآن وبعد مضي أكثر من عامين على كتابتها لأول مرة أني كنت سعيدا جدا، لا أكاد أنتهي من مشاغلي اليومية حتى أسرع إلى المكتب حيث تنتظرني معركة أخوضها بكل ذرة من كياني، متحمسا منتشيا، أحس أني لأول مرة ومن خلال القصة أخوض صراعا حقيقيا عميقا وأنفعل بكل لحظة من لحظاته؛ الصيف في القاهرة، والحر في النهار، والنسمات رقيقة كشمس الغسق في الليل، والصراع دائر في خيالي؛ يتوهج أحيانا حتى ليبلغ قيظ يوليو، ويشف أحيانا حتى ليهب كسرب صغير من نسمات طفلة ترد رؤيتها الروح وتنعش القلب الخامل، وصور إسبانيا والإسبان - أرق وأعنف وأغلب وأشجع وأحكم وأجن شعب من شعوب العالم - وكأننا نحن العرب كنا هم، أو هم كأنهم كانونا، ذلك الشعب بلغته؛ بأغانيه، برقصه، بفقره، بصبره، بجماله، بحنينه إلى الماضي المجيد، بالحنين الأكثر إلى مستقبل؛ هذا الشعب بكل صوره وانفعالاته المتغيرة الدائمة التغير، تلون أشكال الصراع وتزكيه. لقد كانت أيام كتابتها جميلة حقا.
وأخيرا ...
فلا بد لنا أيها الأصدقاء الذين كنت - وأرجو أن أكون لا أزال - عند حسن ظنهم، لا بد لنا من لقاء آخر على أرض الجزائر، وأنا أشد الناس ابتهالا كي يأتي اللقاء أقرب ما يكون وأروع ما يكون.
أما هنا ونحن في شبه الجزيرة الأيبيرية، فإني أستسمحكم يا قراء العربية أن أقدم هذا العمل المتواضع - حقيقة لا قولا - وردة حمراء كبيرة، ليس التلوث بالدم سبب احمرارها، إلى الشعب الإسباني القوي المتفائل الرقيق.
القاهرة، يناير 1964م
يوسف إدريس
الفصل الأول
أعرف أن هناك صداقة مثلا وزمالة وعلاقات إعجاب. أعرف أن هناك عداوة أو محبة أو لا مبالاة، ولكني لا زلت لا أعرف كيف أضع اسما للعلاقة الإنسانية التي ربطتني به. من ناحيتي كنت واحدا من ثلاثين ألف آدمي لا تجمع بينهم إلا «الأرينا» الهائلة الحجم، ولا يلتقون إلا عند رغبة ملحة واحدة، رغبة من رغبات البشر التي تظل تلح وتصر حتى تفرض نفسها وتتحقق بطريقة أو بأخرى. فرد من آلاف، مجرد طرف سلبي، عملي طول الوقت أن أجلس وأشاهد، والجهد الإيجابي الوحيد الذي كنت أقوم به لا يتعدى بضع محاولات، معظمها فشل؛ لكبت انفعالي كي لا أنساق وراء المواء الجماعي إذا صدر عن الآلاف، أو إخفاء وجهي اشمئزازا أحيانا، أو خوفا، أو لضعف الأعصاب.
أما هو فقد كان بالنسبة لي مجرد وجه اختارته عيناي من بين الآلاف لتلمحه، وما تكاد تلمحه حتى تتوقف عنده كقطار سريع يبطئ ليعود يمضي، فإذا بإبطائه يتحول إلى وقوف. لم تتوقف عيناي لأن الوجه كان شاحبا. لم يكن أصفر، ولا كانت هناك نقاط عرق، ولا كان الشحوب بإرادته. الشعور الذي دهمني وأجبرني على التوقف أن نظرتي الأولى له أشعرتني أن هناك شيئا هو الذي أذهب لونه، وبيض قمحية وجهه. شيء وسط الزحام الشديد لا يمكن إدراكه أو ضبطه، ولكن كان باستطاعتي أن أقسم أنه هناك، وأنه المسيطر على كل تلك الآلاف وإن كانت ملامحهم لا تنجح في الكشف عنه، ولا يهديك إليه إلا نظرة لذلك الوجه. أجل هناك كعقاب خفي داكن رابض فوق سماء «الأرينا».
عقاب له ثلاثون ألف مخلب. في كل وجه ينشب مخلبا وطواطيا لا يمكن انتزاعه، ويفعل هذا دون أن يعي به أو ينتبه إليه أحد، أو يترك أثرا واحدا يشير إلى وجوده لولا ذلك الإحساس المبهم الذي تحسه وتشم رائحته تتسر. إحساس جامع شامل له دوي الجنازات القادمة من بعيد، والانقباض الذي يشمل البيت إذا نعقت في غنائه بومة.
وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن إحساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده هو الذي يدري، ووحده الذي يتوقع. وحده الذي حين تراه ينتقل إليك علمه، وتبدأ أنت الآخر تدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء آخر غير الناس والازدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة «الفيستا» والاحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن حتما عن وجوده وينقض، وفي الحال، ودونا عن الثلاثين ألف إنسان، وبمثل شرارة التماس لا بد أيضا أن يدق قلبك دقة الخوف؛ إذ تدرك على الفور إدراكا غريبا مبهما وكأنما يهبط عليك كالإلهام أن ثمة شيئا غير عادي سيقع اليوم لصاحب ذلك الوجه، وأنه أبدا لن يغادر «الأرينا» بنفس الحال التي جاء بها.
هذه الدقة المفاجئة وما صاحبها من انزعاج صغير عابر، حددت لحظة خطيرة غريبة في حياتي، لحظة التقائي بإنسان جديد لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره، فإذا بالدقة تبدأ معها علاقة، وتتعدى العلاقة بسرعة مراحل التعارف الأولى إلى مرحلة الصداقة، بل تتعداها إلى ما هو أكثر، إلى مرحلة القلق العظيم على الصديق والتتبع المشفق لخط مصيره.
وهكذا ألقيت النظرة الثانية على صديقي الجديد وكأن بين النظرتين عاما، وكأنني أعود أتفحص ملامح عزيز طالت غيبته محاولا أن أدرك ما حدث له ولشكله من تغيير. كان الوجه دقيقا نحيلا يصنع برأسه الأنيق الذي بدأ شعره من أمام يخف ويتراجع، ويستعد لتسليم الرأس - أو الجزء الأمامي منه على الأقل - لصلع قريب. كان يصنع مع وجهه النحيف مثلثا رشيقا صغيرا، كل ما فيه حتى أذناه رشيق صغير. ولكل وجه في الدنيا قصة يحكيها أو معنى أو صيحة يطلقها ويعلن بها عن جماله مثلا أو ذكائه، أو عما يكمن في أعماق صاحبه من دهاء. ذلك الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدث عن نفسها، من الوجوه التي نحس بها دائما مشغولة بحدث خارج عنها أو بقضية. ولحظة رؤيتي الثانية له لم يكن وجهه يتحدث عن شيء بالذات أو مشغولا بشيء. كان صامتا، صمتا لو صبرت عليه لاستحال إلى حزن، حزنا لا بد شفافا كحزن الملائكة، أو ابتئاس الأطفال.
وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون الأحزان البريئة يرغمك أيضا، ولا تدرك كيف، على أن تحس تجاهه - ومهما كانت سنك. ولو كنت أصغر منه - بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير.
الفصل الثاني
كنت قد حضرت - كأي مقدم على عمل لأول مرة - مبكرا، وقضيت بعض الوقت أطوف ب «الأرينا» وممراتها ودهاليزها، وأراقب السوق السوداء لبيع التذاكر، وآلاف السياح والأوتوبيسات الفاخرة التي لا يكف عن التحديق فيها الأطفال الإسبان أشباه العراة وهي تقف ويهبط منها خليط عجيب من البشر من بين لغاته الكثيرة تميز بسهولة الخناقة الأمريكية الممدودة والغالبة، ومئات العربات الخاصة. أفخم وأحدث عربات من نوعها في العالم، وأبوابها تفتح لكي تنساب منها سيدات. أجمل سيدات، وأروع عطور، وأغلى وأشيك فساتين، ورجال بصلعات وكروش وأرصدة مكتظة، وشبان أثرياء بالكابورليهات، والجميع يمضون إلى مقاعدهم المحجوزة، بينما جمهور اللعبة الحقيقي - أفراد الشعب الإسباني - يتقاتلون حول التذاكر، ويتدافعون أمام باب الدخول، وفي الداخل لهم المدرجات المواجهة لشمس مدريد في الصيف، وما أحرها!
ومن متحف المصارعة عدت إلى مكاني في المدرجات حيث المتحف البشري الزاخر الوافد على مدريد، والساحة من كل أنحاء الأرض، وكيف تقبل أفواجه كالسحب المثقلة التي لا تلبث أن تبطئ حركتها وتتكاثف وتتساقط في أنحاء الدائرة الكبيرة على هيئة أجساد غير واضحة المعالم فوق مقاعد مقامة من الأسمنت المسلح. ساحة و«أرينا» لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة في روما التي أقامها الرومان من آلاف السنين ليتسلى الحكام الرومانيون بصراع العبيد العزل مع الوحوش. كل الخلاف هنا أن الإنسان زود بدلا من المسلة بقطعة أطول من المعدن على هيئة سيف، ولكن الصراع لا يزال هو الصراع.
وربما استدارة «الأرينا»، أو ربما هي الحلقة البشرية الهائلة المحيطة بالدائرة الرملية الفارغة. ربما الحيرة. ربما الدوري المستمر الذي لا ينقطع. ربما العقاب الرابض في مكان ما من سماء الساحة ناشبا مخالبه في الوجوه والملامح. ربما أي شيء، ولكن الذي لا شك فيه أن ثمة قلقا، وكأن أحدهم قد ألقى في قلب الساحة ببضع قنابل مثيرة للقلق واللهفة، لا على المصارعة وبدئها والرغبة أن تتم بسرعة، فكلنا نعلم أنها تبدأ في السادسة، وأن بيننا وبينها بضع دقائق لا تحتمل اللهفة أو الترقب. إنه قلق وترقب ولهفة المشغولين بشيء قاهر حاد، لا يدرون ما هو بالضبط وما الذي يشغلهم به تلك المشغولية العظمى، المشغولية التي تجعلك لا تستقر على وضع ولا تستسلم لموضوع، بحيث لا يحتمل منك الشيء أكثر من نظرة، وبحيث يبدو الحديث مملا بعد جملة حواره الأولى، وأجمل الفتيات تكفيها التفاتة. مشغولية عظمى غير محددة أو معروفة الأسباب، ولكنها قائمة وموجودة وذات أزيز.
وكان علي أن أكافح رغبتي في التطلع ودوامة المشغولية المبهمة التي تبتلعني كالآخرين؛ كي أستخلص نفسي وأستمع للهاتف وأعود أتابع صاحب الوجه الشاحب الصامت الرشيق.
الفصل الثالث
كانت ساعتي قد بدأت تشير إلى السادسة، وكنت قد بدأت أميز خلال المسطحات البشرية ذات الألف لون ولون والتي تنسدل كسجادة هائلة مزركشة فتغطي المدرجات دون أن تترك فجوة. كنت قد بدأت أميز أبواب الدخول، والمكان المخصص لرئيس «الفييستا»؛ إذ لا بد لكل احتفال من رئيس، وركن الفرقة الموسيقية، والمظلة التي تظلل نافخي الأبواق الثلاثة. والساعة كما قلت كانت قد أشرفت على السادسة، ولم يحدث في «الأرينا» ولا داخل الحلقة المغطاة بالرمل والمتناثرة فيها صناديق الإعلانات ما يدل على قرب البدء، ولكن جاري الإسباني الضخم الجثة العالي الصوت وقد لمح دهشتي وحدثني بإسبانية لا أفهم منها إلا أن أرد بقولي: لا أفهم الإسبانية. «نون كومبريندو إسبانيول». ولم يعقه هذا عن مواصلة الحديث وعن شرح ما يريد قوله لي باستعمال لغة الأيدي والإشارات العالمية، وفهمت منه أن كل الساعات غير معتمدة، وأن الساعة الوحيدة التي ستحدد الوقت هي ساعة «الأرينا» المطلة من برج عال منتصب في جزء من محيط الدائرة.
وكانت هذه الأخيرة تشير إلى السادسة إلا أربع دقائق، واسترحت فأمامي بعض الوقت أستطيع أن أوقن فيه مرة أخرى أني لست في حلم، وأن الظروف قد ظلت تتآمر علي حتى قادتني على الرغم مني إلى مدريد، وأني الآن في أكبر ملعب لمصارعة الثيران في إسبانيا ومن ثم في العالم كله، وأنه بعد أقل من خمس دقائق سيحدث أمام عيني ذلك الصراع الغريب الذي ألهب مخيلتي وأنا طفل في قصة دماء ورمال، والذي غذى خيالي شابا وأنا أقرأ لهيمنجواي. الصراع الذي انفعلت به قرائح فنانين وكتاب وشعراء ومخرجين. الصراع الذي صنعت منه مآس وأهوال، وفي خضمه هلك أناس واستشهد أبطال، ونمت قصص حب.
وكان علي أن ألقي نظرة على صاحبي. هذه المرة وجدته قد أصبح فردا في طابور المصارعين الثمانية الآخذين أماكنهم في الممر خلف «البيكادورز» (راكبي الخيل) في انتظار تحرك الموكب الذي يبدأ به العرض، وكان قد وضع فوق رأسه قبعة الميتادورز المستعرضة السوداء، وخيل لي أنها تبتلع جزءا كبيرا من رأسه الصغير وتخفي بعض وجهه. ولأمر ما تصادف أن رفع رأسه وتصورت أن نظراتنا التقت، ولكني كنت أعلم أنه مجرد خيال؛ فمن موقفه البعيد هو قطعا لا يرى نظراتي. إن ما أمامه مجرد نقط صغيرة سوداء تكون رءوسا لا تهمه معالمها بقدر ما يهمه أن تصدر عنها بعد قليل ضجتها التي تدوي. أوليه، تحييه وتستحسن عمله.
ولم يكن في مشهده ومشهد زملائه السبعة المصطفين أي روعة مما تجسدها السينما بألوانها وعالمها. كانت ملابسهم بديعة النقوش حقيقة تستوقف البصر، وتلمع زخارفها إذا تحركوا وتومض، والجاكتة معلقة فوق الكتف اليمنى كوضعها التقليدي، والسراويل الضيقة حتى تكاد تمنع الحركة، وكان هذا هو كل ما هنالك بلا تضخيم أو تهويل، بل هم بملابسهم أنظف وأجمل ما في الموكب المنتظر؛ فالخيل التي يركبها البيكادورز عجفاء عجوز ودروعها مهلهلة، وحاملو الأعلام أزياؤهم غير متشابهة كما يجب، وكما تظهر لنا العدسات التي ما أكثر ما تفتري على الواقع وتقلب الفقر روعة، والدنيا بكل عيوبها وقصورها جنة.
ولكني في اللحظة التالية كان إحساس غامر - وكأنما ادخرته لهذه اللحظة - قد طغى علي تماما.
وانتشيت به! الإحساس باللعبة. الإحساس أنك بسبيلك إلى أن تلهو وتختلس من وراء ظهر الزمن ساعتين تشبع فيهما متعة ومرحا وانفعالا.
نفس الإحساس الذي يراود الطفل حين يلمح اللعبة التي اشتراها له أبوه تطل من حافة الحقيبة أو اللفافة، ويتأكد تأكدا قاطعا من أن عينيه لم تخدعاه، وأنها فعلا لعبة جديدة اشتريت خصوصا له. هذه اللحظة «ما بين الإحساس بأنه حالا سيلعب بها وبين تسليمها له وبدء لعبة حقيقية بها»، نشوة كهذه غرقت مختارا فيها وأنا أقول لنفسي، لا فرق إلا أن هذه لعبة أكبر بكثير ومضمونة أيضا، وإلا لما جاء كل هذا العدد من الناس ودفعوا آلاف الجنيهات ليشاركوك في ممارستها، والأمتع أنها لعبة خطرة تحفها المفاجآت وتنخلع لها القلوب.
وحين شملت «الأرينا» تنهيدة عميقة وكأنما هي قادمة من تحت الأرض متصاعدة في شمول واتساع لتغطي وجه السماء. أول عمل جماعي يقوم به المشاهدون معا، عمل أوقف مشغوليتهم. تنهيدة كانت إيذانا بأن لم يبق على السادسة إلا أقل من دقيقة.
وفي ثوان كانت كل صناديق الدعاية قد أخرجت من الساحة، وسكتت الأصوات جميعا، وتحولت ضجة المكان إلى فحيح، واتجهت الأنظار كلها في ترقب دافق إلى نافخي الأبواق.
ولم نسمع دقات الساعة؛ فقد طغت عليها أصوات النفير والرجال الثلاثة يبذلون أقصى قواهم، ومع هذا لا تكاد أصوات أبواقهم تسمع في أنحاء «الأرينا» كلها، ولكنه كان قد أعطاها. متهافتة حقيقة لا تدوي أو تصم الآذان، وتوقع الرهبة في النفوس، ولكنها وهذا هو المهم إشارة البدء.
الفصل الرابع
وعلى مصراعيه انفتح جزء من سور الدائرة الرملية المواجه للممر الذي يلاصقنا. انفتح على هيئة باب. وبينما جزء الموكب الأمامي يدلف متأنيا إلى الساحة كنت بكل الشغف وحب الاستطلاع والقلق العظيم على الصديق أختلس نظراتي الأخيرة إلى طابور الميتادورز، وإلى صديقي - الثاني إلى اليمين في الصف الأول - والطابور صفان؛ أربعة من هنا، وأربعة من هناك، وبين كل ميتادور وآخر مسافة.
ومن المقاعد في أقصى اليمين تبينت أصوات الفرقة الموسيقية تعزف المارش، والطبول تدق والأنغام تهب علينا من بعيد باهتة المعالم مخنوقة بالحشرجة. وأبالغ إذا قلت إني دهشت؛ فالواقع مرت الحركة ساعة حدوثها ببساطة، نفس البساطة التي حدثت بها حين رسم كل منهم في آخر لحظة لوقوفه، اللحظة التي سيبدأ بعدها يتحرك، رسم كل منهم علامة الصليب على صدره.
ولم يدهشني أني رأيت صديقي يفعل مثلهم مع أنه لم يكن من النظرات الأولى إليه شديد التدين. أخذتها على أنها نوع من العادة الكاثوليكية لا أكثر، وكدت أقف من صاحبي في هذا الأمر موقف المحايد لولا أني لمحت أنه لا يؤديها كعلامة أو كواجب، في وجهه بالذات - في نصف وجهه الذي كنت أراه من مكاني - كان ثمة ابتهال حقيقي واضطراب، لا بد علت معه دقات قلبه، وخيل لي أن لونه ازداد شحوبا.
ولكنها لمحة سريعة. كان أسرع منها ذلك القناع الذي انتشر فوق وجهه، وكسا مثلث ملامحه الصغير بقشرة صخرية معتمة أخفت كل شيء حتى الشحوب، وما بقي ظاهرا كان قسوة مفاجئة مجهولة المصدر، وفي اللحظة التالية كان يتحرك ليدخل «الأرينا».
ورغم أن الموكب كان يأخذ طريقه على رأسه البيكادورز (حاملي الحراب)، ووراءهما طابور الميتادورز (المصارعين)، تتبعهم صفوف غارسي الأعلام (الباندريللوس)، وصبيان اللعبة وعمالها. موكب حافل ملفت للنظر يستولي على اهتمام الجميع ويصفقون له، وهو يأخذ طريقه إلى حيث منصة الرئاسة. ورغم انشغال الناس جميعا بالموكب كنت لا أزال أفكر في علامة الصليب، ومن زاوية جديدة غيرت الموقف في نظري تماما. إن مجرد تسمية الشيء باللعبة - حتى لو كانت اللعبة مصارعة ثيران أو وحوش - يعطيها في فهمنا لونا ما. معنى غير جدي جدية تامة حتى لو كانت خطرة؛ فهي ليست سوى لعبة، واللعبة لا تقترن في تفكيرنا باللعب فقط، ولكن أيضا بالهزل. ولسبب ما، هناك، فيما وراء كل ما كنت أراه من جدية وخطورة واستعدادات، كانت فكرة أن المسألة كلها ليست بالوعورة والخطورة التي صوروها لنا في السينما والروايات، ولا بد هناك من طرق متفق عليها ومتبعة للتقليل من خطورتها في الباطن مع إضفاء الرهبة عليها من الخارج.
هذه الحركة التي لمحتها في آخر لحظة جعلت الشك يبدأ يتسرب إلي في اعتقادي، وجعلتني أتساءل: أليس من المحتمل أن تكون المصارعة مصارعة حقيقية فعلا بلا أي عبث مما اعتقدته أو اتفاق، وأن الناس جميعا يأخذونها جدا ما عداي؟
تساؤل راحت الأحداث المتعاقبة تدعمه من ناحية وتنفيه من نواح، وظللت لا أجد البرهان الدامغ الذي لا يقبل الشك، ولم أكن أعرف ما ينتظرني يومها.
الفصل الخامس
بنفس الاستخفاف قابلت الخطبة القصيرة التي ألقاها قائد البيكادورز أو حاملي الحراب أمام رئيس الفييستا (الاحتفال)، وكذلك كل ما تلا هذا من تسليم الرئيس للرجل مفتاح الباب المؤدي إلى حظيرة الثيران والموجود على يسار المنصة، ثم تراجع الطابور إلى حيث احتل كل مشترك فيه المركز الخاص به. المصارعون وقفوا خلف الحواجز الخشبية الواقية، والبيكادورز خارج الحلبة عند بابهم، والصبية تناثروا على محيط الدائرة يحضرون العباءات وأعلام الغرس (الباندريلالاز)، والحراب.
وسكتت الحركة في الحلبة، وكذلك خيم صمت الترقب على المدرجات و«الأرينا»، واضطر أي متحدث أن يخفض صوته وأن يدفعه الصمت المتزايد إلى أن يكف عن الحديث ويسكت تماما.
وكالمفاجأة المتوقعة تصاعدت أصوات النفير! وفتح باب الحظيرة واندفع إلى الحلبة كائن أسود مدكوك القوام، ما إن رأى الساحة خاوية والناس حولها في احتشاد عظيم حتى توقف لبرهة، لبرهة! إذ ما كاد يلوح أحد المصارعين بعباءته من آخر الحلبة حتى بدا وكأن الثور ركبه ألف عفريت؛ إذ اندفع لا يجري، وإنما يثور أو يغلي أو ينفجر جاريا، كالصاعقة منقضا، كالقوة الغاشمة العمياء، لا يقيم وزنا لشيء، وليس له إلا طريقة واحدة للتعبير عن قوة الحياة المحشودة داخله في تضاغط هائل، إلا أن ينطح بقرنيه، وقرناه ليسا كقرني ثيراننا المستأنسة بارزين إلى الجانبين، إنهما قرنان رفيعان كأسياخ الحديد بارزان إلى أمام على هيئة مسمارين مستقيمين ممتدين في تواز، وهو لا ينطح بهما أو برأسه أو باستعمال عضلات رقبته؛ إنه ينطح بكل جسده. يندفع ككتلة سوداء أسطوانية مدكوكة باللحم والعضلات إلى الأمام في سرعة هائلة، وبكل جسده المندفع المحتشد يكتسح ما أمامه بقرنيه، ولا يهم أن يكون ما أمامه صخرا أو حديدا أو إنسانا دقيقا حساسا بينه وبين هذه الحياة الشرسة الخرساء العمياء ملايين السنين من التطور والترقي.
ولكن هكذا أرادها الإنسان؛ أن يواجه هذه القوة الغاشمة التي لا ترحم، ويحشد أمام العضلات المزدحمة الرهيبة كل مزايا عقله الإنساني من ذكاء وقدرة على التصرف، وقدرة على الخبث والخديعة أيضا، ولكن كما أن العضلات المحتشدة وحدها لا تقتل، الذي يقتل شيء أكثر بدائية من العضلات هو القرون؛ فللثور قرونه، وعلى الإنسان هو الآخر أن يستعمل حين يبلغ الصراع أعلى مراحله ويصبح لا بد أن يخلص أحدهما على الآخر، أن يستعين بآلة قتل؛ بسيف؛ ليصبح السيف في يده والقرن في رأس الثور، والنصر لمن يبادر بالطعنة.
انطلق الثور هائجا كزوبعة حيوانية هبت على الدائرة الرملية، واندفعت تعصف بكل اتجاه عصفا بعث الرعب في قلوب المشاهدين الذين تفصلهم عن الثور الهائج مسافات وحواجز، ولكن الغضب الوحشي الذي كان يجتاح الثور ويوشك معه أن يحطم الأرض ويخرق السماء، ولا يبقي أو يذر شيئا بينهما؛ حالة كانت الحواجز والمسافات فيها لا يمكن أن تؤدي إلى أي اطمئنان.
كتلة الحياة الهائجة السوداء تلك، المركزة المضغوطة في هذا الحجم الثوري المحدود، هذا الجبار الطاغي الواثق بنفسه وقوته ثقة كقوته عمياء، لا يتردد معها أن يقتحم أية قوة أمامه وأي كائن مهما كان. هذا المغرور الأحمق الذي يثير الرعب بكل خلجة من خلجاته، ولا شيء على الإطلاق يدفعه هو إلى الرعب أو حتى الخوف أو التردد.
هذا المبعوث الداكن يمثل كل ما في الحياة من قوة وتعطش للعدوان والرغبة في التحطيم والدم والتخريب. هذا الذي من فرط سرعته وتجبره لا يكاد يستقر في مكان، وينتقل من محيط الحلقة إلى محيطها الآخر قبل أن تدرك أنه انتقل. هذا الموجود في كل مكان، الضيق بكل مكان، المتحرك كالبرق كالضوء، كالوباء في كل اتجاه. حركة بلا هدف إلا الحركة نفسها، ورغبة في التخريب والتحطيم بلا هدف إلا التحطيم ذاته، والتغلب على كل ما يقف في طريقه صديقا كان أو عدوا بلا هدف أو حكمة إلا هدف التغلب ذاته. كتلة الحياة المركزة تركيز الجن في القمقم، المنطلقة المتفجرة بلا غاية أو هدف، تجسد لنا ذلك المعنى الذي كثيرا ما تداولناه حتى اعتدناه، تجسد لنا كلمة الوحش، وترينا السبب والدوافع التي حدت بأجدادنا الأول أن يطلقوها على بعض أعدائهم من الحيوان.
هذه الظاهرة التي من فرط حيويتها تجعلك تؤمن أن الحياة ليست أرقى الجماد وأوجه، بقدر ما هي شيء مرعب حقا، التي تجعلك تعيد تأمل سطح الأرض وما عليها، وتدرك أن الرعب شعور لا تحسه إلا الكائنات الحية، وأيضا لا تثيره سوى هذه الكائنات نفسها، لا شيء في الطبيعة يخيف إلا كائناتها الحية، ولا شيء يخيف إلا وهو أيضا يخاف. كلها ما عدا هذا الشيء الأسود الحي الذي أعتقد أنهم اختاروه للعبة لأنه الوحيد بين الكائنات الذي يخيف ولا يخاف.
ولكنني وإن كنت قد ظللت أتابع بانتباه طاغ حركة الثور وحركة مصارعيه، إلا أنني لم أستطع من أول مرة أن أفهم. كنت أعتقد أن واحدا هو الذي عليه أن يصارع الثور من أول دقيقة إلى أن يصرعه، وإذا بالموضوع أكثر تعقيدا وله هو الآخر قواعده وأصوله ونظامه.
فهذا التلويح الأول بالعباءة للثور، ذلك الذي يجعله يتفجر جريا وبحثا عما يمزقه بقرنيه، في تلك المرحلة يراقب المصارع خصمه ليعرف كيف يجري والسرعة التي يتوقف بها ويستدير، ومبلغ شجاعته، ومقياس الشجاعة أن لا يتردد الثور في مهاجمة كل ما يعترضه.
ثم تبدأ المرحلة الثانية مرحلة الفرس أو «سيوريت دي فاراس»، حيث ينفخ في النفير ويدخل راكبا الخيل «البيكادورز»، وحين يلمحهما الثور يندفع بلا تردد لمهاجمة أقرب الحصانين، وتبلغ قوته حينئذ حد أن يستطيع رفع الحصان وراكبه وإلقاءه خارج الحلقة. وحين يندفع لمهاجمة الحصان ينتهز الفارس الفرصة ويغرس في كتف الثور حربة سميكة تصنع جرحا غائرا ينزف منه الدم، والغرض من إحداث الجرح هو إضعاف الثور والحد من قدرته الهائلة على المهاجمة والحركة.
بعد هذا تبدأ مرحلة الباندريللاس أو الأعلام، حيث يقوم الباندريلوس أو غارس الأعلام برشق ثلاثة أزواج من الأعلام في ظهر الثور. مهمة لا تقل خطورة عن مصارعة الثور نفسها! فعلى الراشق أن يستفز الثور إلى درجة يقبل عليه بسرعة هائلة، وفي نفس اللحظة التي يتحرك فيها الثور مهاجما ينطلق الفارس مسرعا على نفس الخط القادم منه الثور. وفي الومضة الأخيرة وهما يوشكان أن يلتقيا وتوشك قرون الثور على اختراق جسد الرجل، في آخر لحظة ينحرف الفارس بساقيه فقط عن الخط، بينما يظل نصفه الأعلى ويداه الممسكتان بالعلمين في نفس الاتجاه بحيث حين يمر الثور يرشق الفارس علميه، وبعد هذا تبدأ مرحلة الصراع أو الميوليتا وهي المرحلة التي يحاور فيها المصارع الثور باستعمال العباءة الحمراء، وفيها أيضا يمتاز المصارع على المصارع؛ إذ هي المرحلة التي تتبدى فيها ألوان وأشكال من الحيل والطرق.
وتنتهي تلك المرحلة حين يكون الصراع قد هد كيان الثور إلى حد بعيد، بحيث لم يعد يهاجم من تلقاء نفسه، ولا بد من استفزازه كثيرا لدفعه للهجوم. حينئذ يستبدل المصارع العباءة بأخرى داكنة في لون الدم، ويستبدل العصاة المعدنية بسيف، ويستعمل السيف وسيلة لفرد العباءة في سلسلة محاورات أخرى ومداورات، إلى أن يحين الحين، وبنفس الطريقة التي يغرس بها الباندريلوس علمه، يغرز بها المصارع سيفه إلى المقبض في الجزء المقابل للقلب من ظهر الثور، كل ما في الأمر أن الغرس يتم والثور شبه واقف، ولكن خطورتها على المصارع أن يستعمل يدا واحدة للطعن، بينما الأخرى تمسك بالعباءة، وأنه يضطر للاقتراب كثيرا من جسد الثور بحيث إن أي خطأ صغير في حساب المسافة يجعل منه غنيمة سهلة للقرون التي طال تعطشها إلى الفتك .
الفصل السادس
وهكذا لم أفق من استغراقي في الانتباه ومحاولة التفهم إلا على الميتادور الأول وهو يستفز الثور الذي كان قد تبلد وفقد الكثير من طاقته على الحركة والمهاجمة. الثور الذي نزف كمية هائلة من الدم، وأنهكه الجري المجنون المتواصل، وأصبح يلهث بصوت يبلغ ارتفاعه أنه كان يصلنا ونحن في أماكننا بالمدرجات بعيدا عن الساحة.
الثور الذي أصبح مهما لوح أمامه بالعباءة الحمراء لا يأبه كثيرا لها، وبرغم تعبه كان الجبار لا يقوى على كبت رغبته المجنونة في الاستجابة للتلويح الأحمر، فما تكاد تتكون لديه أول دفعة قوة وأول قدرة على الحركة، حتى ينطلق مهاجما ويعاود الكرة بضع مرات يكون قد استنفد خلالها دفعة طاقته، فيعود يرغم على الوقوف. هذه الفترة عرفت فيما بعد أنها أنسب وقت «لقتل» الثور وهو في وهنه، وقبل أن يستريح بدرجة تكفي ليعاود الهجوم مرة أخرى.
وهكذا ظل الميتادور الأول يستفز الثور للحركة حتى تحرك وأقبل ناحية العباءة بأقصى ما في قدرته من سرعة، ورغم أني رأيت كل شيء إلا أني لم أدر ما حدث بدقة، ولا يكفي أن ترى لكي تدرك! أقبل الثور مسرعا وحدثت بضعة أشياء في وقت واحد؛ أبعد الميتادور العباءة وتنحى عن طريق القرون والرأس بنصفه الأسفل، ومن سرعة الحركة وخفتها لم ألمح السيف وهو يغمد، وحين انتهت الحركة رأيت مقبضه فقط هو البادي منه إلى يسار السلسلة الفقرية.
ويا للبساطة! ما كادت تمضي ثانية واحدة حتى وجدت الثور كالحائط القديم المائل يسقط هكذا فجأة وكأنه ممثل مسرح يؤدي دور الموت، وتحسبه لا يجيد التمثيل للسرعة التي يسقط بها نفسه ويموت. حقيقة وواقع يحدثان أمامك ولا تكاد تملك القدرة على تصديقها. لا يمكنك أبدا أن تصدق أن نفس هذا الكائن الذي كان يثير بحركته وجبروته الرعب حتى في الهواء وذرات الحصى، يرقد بعد أقل من عشر دقائق في نفس الساحة التي كان يحيلها بركانا من الحياة والحركة جثة يعف عليها الذباب. نفس الجسد بنفس العضلات والقرون، بنفس القدرة والطاقة وقد أصبح فاقدا كل القدرة وانتهت حركته إلى الأبد. ولماذا؟ لأن قطعة معدن صغيرة دخلت جوفه فاختل نظام الحياة داخله وتوقف. أجل نظام الحياة. إنه لشيء مضحك حقا أن تعرف أن تلك الطاقة الحيوية الهائلة التي كانت تبدو على هيئة فوضى كاملة تريد أن تعيث فسادا في كل شيء، وتخل نظام كل شيء، وتحيل كل شيء إلى مزق. هذه الطاقة الحيوية المتفجرة لتشيع الفوضى في كل ما حولها مصدرها نظام بالغ الروعة دقيق، لولاه ما استطاع أن يحرك ذيلا أو ينش ذبابا أو يأخذ شهيقا، نظام يكفي أن تخدشه بقطعة معدن أو دبوس لكي - من شدة إتقانه - يختل وينتهي كنظام حياة ليبدأ يعمل فيه نظام آخر. نظام الموت والتحلل والفناء.
ولا بد أننا نكره هذا النظام الآخر - نظام الموت - إلى درجة مقيتة، إلى درجة أننا نأسى لو حل حتى بأعدائنا؛ فما تمنيت شيئا وأنا أرى الثور يعصف هادرا ممزقا غارسا قرنيه بوحشية في كل شيء. ما تمنيت أكثر من أن ينجح الميتادور في الإجهاز عليه ويريحنا ويريح الدنيا منه، ولكن، ولكنني حين رأيت السيف مغمدا إلى حد مقبضه في صدر الثور، ثم رأيته على أثر الطعنة المصوبة بخبرة ودقة وشجاعة يسقط ميتا رافعا ساقيه؛ شعرت رغما عني - ولماذا أختار هذا الشعور لأقول رغما عني؟ ومشاعرنا دائما لا تتحرك بإرادتنا وإنما رغما عنا - شعرت بأسى، وأحسست أنا الواحد من الثلاثين ألفا الذين كان يشيع في قلوبهم الرعب من دقائق، أحسست أني أشفق عليه شفقة حقيقية صادقة، وأنه صعب علي. وليس في قدرتي أن أجد لهذا أوهى تفسير، فليفسره علماء النفس إذا استطاعوا. وحتى لم أتبين بالضبط من الميتادور الذي كان يصارعه والذي قتله؛ فكلهم يرتدون نفس الزي ولهم تقريبا نفس القامة. لم أعرفه إلا حين تهاوى الثور وسط حلقة الميتادورات التي تلتف حوله في تلك اللحظات وكأنما تحاصره حتى تتأكد من خمود أنفاسه مخافة أن يقدم في لحظة الموت واليأس الأخيرة على قتل الميتادور الذي صرعه. من وسط هذه الحلقة وجدت واحدا منهم يتلفت وينحني ردا على تصفيق الجماهير الذي تعالى، ثم حين تأتي الأحصنة الأربعة المخصصة لجر الثور الميت وتخرجه من الحلقة مشيعا بالتصفيق الشديد والهتاف، وإخراج المناديل والتلويح بها علامة الاستحسان الكبير للطريقة والشجاعة والشرف التي تمت بها المصارعة، وللميتة المتقنة التي صرع بها الثور بغير عذاب أو ألم. حين حدث هذا وجدت الميتادور يدور حول الحلقة يرد على تحيات الجمهور، وخلفه اثنان من زملائه يجمعان الزهور والسيجار والسجائر والشيكولاتة التي تلقى له إعجابا وتقديرا.
وظل الميتادور يجري بضعة أمتار ويتوقف ليتلقى تحية الجزء المقابل من محيط الدائرة، ثم يعود يجري بضعة أمتار ليختصر الزمن ويتلقى تحية الجزء التالي، حتى وصل إلى ذلك الجزء من الدائرة الرملية الذي يواجه مقاعدنا. وحين رفع رأسه بعد انحناءة التحية لم أكد أصدق عيني؛ كان هو بعينه صديقي الذي منذ أن تاه عني مع الميتادورات في الساحة والقلق يجتاحني في صمت من أجله. ودون أن أحس وجدت نفسي أصفق بحماس زائد وكأني ألقاه بعد غيبة طويلة في أدغال خطرة مجهولة، وأتمنى لو كان باستطاعتي أن أقفز إليه وأعانقه وأضمه - ذلك الابن الضال - إلى صدري، وأتأكد بنفسي أنه حقيقة خرج سليما ومعافى، قبل أن ينفجر إحساسي بخيلاء الأب لأنه لم يخرج معافى فقط، وإنما خرج بطلا أيضا.
وما كان أروعه وأنا أسمعه يلقي إلى الميتادور خلفه بأمر هامس ولكن في لهجة حاسمة، لهجة قائد لا يزال بريق انتصاره يخطف البصر! كان وجهه القمحي قد ابيض تماما، ولكن الأمر يختلط عليك هذه المرة، وتمنع نفسك أن تجزم إن كان هذا البياض شحوبا شديدا سببه تعاظم الرهبة أم تعاظم الفرحة، أم الاثنان معا.
وألقى جاري الإسباني إلى الساحة - خلافا للقانون - بالمخدة الجلدية التي تستأجر بقروش لتلين من صلابة الأسمنت المسلح، وانتزعت جارتي عقدا من الفل كان حول رقبتها وقبلته وألقته إلى الساحة، ومن بين مئات الأشياء التي ألقيت إليه والتي كان يترك مهمة جمعها لمساعديه وجدته يلحظ صاحبة العقد الفل، وبعد أن كان قد استدار ليكمل الدورة وقف وانحنى والتقط الأزهار والجزء الذي انفرط منها وقبلها، ورفع يده مشيرا بها إلى الفتاة. وهاج الجمهور في المدرجات وخاصة في ذلك الجزء الذي يجاورنا، وانطلقت صفافير وصيحات هتاف واستحسان، بينما الأبصار كلها مضت تحاول أن تشق طريقها بصعوبة بين الأجساد. مئات الأجساد المتشابهة المتلاصقة لتستطيع أن تميز الفتاة التي اختارها الميتادور ليرد تحيتها.
وكنت أسعد الجميع حظا وليس علي لكي أراها إلا أن ألتفت.
والتفت.
كانت الفتاة قد تجمدت في مكانها تماما حتى خيل إلي أنها كفت عن التنفس، وبعدما أرسل قلبها كل ما استطاع إرساله من الدم إلى وجهها حتى كادت خدودها تنزف من تلقاء نفسها، توقف عن النبض. وكانت عيناها تنظران إلى أسفل مفتوحتين، ولكن، وكأن غطاء داخليا أغلقهما، وسد أذنيها، وقطع كل صلة بين حواسها وبين هدير البحر البشري الصاخب المحيط بها.
وكنت أعتقد أنها مفاجأة لن تلبث أن تزول، ولكن، حتى بعد أن انتهى الميتادور من تلقي التحيات وغادر الساحة، حتى بعد أن انتهت نظرات الاستطلاع الثانية التي تريد أن تعيد تفحصها، حتى بعد أن كاد الناس ينسون الواقعة ويندمجون في المصارعة التالية التي كانت قد بدأت، ظلت هي بنفس وضعها ولونها وتوقفت حركتها كأن الحادثة قد حنطتها على آخر وضع كانت فيه، وهبطت عليها فترينة زجاجية عزلتها عن الدنيا.
أما جاري الإسباني الآخر فقد كان يبرطم ويحادث جيرانه ويحتج، ولم أعرف ما الذي كان يثيره، ولكني استطعت أن أخمن أن الطريقة التي تم بها تبادل الإعجاب لم تخضع تماما للقواعد والأصول، وما لبث أن أخرج كتاب مصارعة الثيران وراح يقرأ، وتولى ترجمته سائح أمريكي لا أعرف ما الذي جعله يجيد الإسبانية إلا أن يكون إسباني الجدود. راح جاري يقول بصوته الجهوري المزعج: لا يصح للميتادور أن يبدي إعجابه بهذه الطريقة. إن له الحق فقط في إهداء عملية قتله للثور إلى الحسناء التي يختارها، ولكن هذا لا يصح إلا بعد مرحلة الميوليتا حين تحين لحظة القتل؛ إذ له حينئذ - وأخذ يقرأ من الكتاب - أن يقف في مواجهة السيدة، ويرفع قبضته بالتحية، ثم يستدير إلى الثور ويبدأ عمله.
ولكن إسبانيا آخر تصدى له باعتراض، وبدأ نقاش فني على مستوى عال لم يلبث أن أخمد، ليعود يظهر على هيئة همس متقطع مصر، حين دخل الثور الثاني إلى الحلبة.
وعجبت حين صدر من الجمهور على أثر دخوله مواء. قطع الجار المناقشة ليفسر لنا سببه؛ إذ يبدو أن الجمهور استصغر سن الثور وحجمه. إن أصول اللعبة تحتم أن يكون الثور - «التورو» بالإسبانية (ومنها ترى أنها قريبة جدا من الاسم العربي، بل إن الإسبان أنفسهم يقولون إن العرب هم الذين ابتكروا مصارعة الثيران وعنهم أخذها الإسبان، وهم أيضا الذين وضعوا لها تقاليدها الأول وأصولها، ولا تزال بعض التعبيرات العربية باقية إلى الآن مثل «أوليه»، وهي نفس كلمة الله التي نقولها دهشة أو إعجابا) - تحتم أن يكون الثور من سلالة الثيران المتوحشة المسماة «أورو»، حيث يختار أفرادها بعناية، ويقدم لها غذاء خاص وتربى من أجل المصارعة فقط، ويجب ألا يقل عمر الثور منها عن خمسة أعوام. وقد بدا ذلك الثور الذي دخل أقل من ذلك، أو أنه ليس بالقوة المطلوبة، ومن هنا جاء مواء الاحتجاج. ولكن الثور نفسه ما لبث أن تولى الرد على كل هذه الاعتراضات، فما إن رأى تلويحة «الكابا» الحمراء من بعيد حتى انقلب إلى زوبعة وحشية أسكتت كل الأصوات.
وهذه المرة حين دخل الفارس ووجه الطعنة إلى الثور المشغول بدفع قرونه في بطن الحصان، ماء الجمهور مرة أخرى اعتقادا منه أن الطعنة طالت، وأن في هذا إضعافا للثور أكثر من اللازم، والجمهور أبدا لا يريد هذا. إن الجمهور في مصارعة الثيران ليس مجرد متفرج على اللعبة. إن هناك رئيسا للفييستا أو الاحتفال يتولى الحكم والفصل، ولكن الجمهور دائما يتدخل، أولا مع الثور يحتج إذا كان ضعيفا، وأحيانا يمضي في احتجاجه مطالبا بتغيير الثور بأقوى منه. إنه يريد أن يظفر بأقصى متعة، وهو لا يفرق حينئذ بين الطرف الإنساني أو الحيواني في هذه اللعبة. كل ما يهمه أن يكون الطرفان قويين، وأن يكونا أيضا متعادلي القوة بحيث لا يحظى أحدهما بانتصار سهل على الآخر، وبحيث تطول المعركة وتصعب، وبحيث يحشد كل طرف لها أقصى ما لديه من طاقة وفن. ومصارعة الثيران قد تبدو للأجنبي لعبة يقتل فيها الرجل الثور، أو تحدث الكارثة ويقتل الثور الرجل، ولكن الجمهور الإسباني لا يأخذها هكذا أبدا، إنها عنده مباراة بكل ما تملكه الكلمة من معنى. مباراة بين القوة الحيوانية الوحشية الغاشمة من ناحية، والذكاء الإنساني والرشاقة وسرعة الإدراك والفطنة وسعة الحيلة من ناحية أخرى. مباراة بين شجاعة الحيوان اللاواعية وشجاعة الإنسان الواعية. مباراة بين الحياة في بدائيتها القوية وبينها في رقيها الذي أضعف قدرتها العضلية وقوى قدراتها العقلية، باختصار مباراة بين العضل والعقل.
ولهذا فعلى عكس ما نتصور مصارعي الثيران هم ليسوا ضخام الأجسام أو رياضيي القوام. إن كل المطلوب من أجسادهم أن تكون سريعة الحركة سريعة الاستجابة لإشارات العقل؛ ولهذا تجد معظمهم نحيفا هشا يبدو كالشاعر أو عازف البيانو، رقيقا كالنسمة، ولكنه لا بد أن يكون شجاعا. والشجاعة كلمة لا يمكن تحديد معناها بسهولة. إن الشجاعة لدى الثيران أن لا تتردد في مهاجمة كل ما يقع تحت بصرها، سواء أكانت ندا له أم لم تكن، سواء أقضى عليها أم قضت عليه، وتلك هي الشجاعة العمياء اللاواعية. الشجاعة الجاهلة. شجاعة الإنسان، والميتادور بالذات من نوع آخر؛ فهو يخاف الثور مثلما يخافه أي متفرج، بل ربما أكثر، ولكنه مطلوب منه ألا يجعل هذا الخوف يتحكم فيه! المطلوب أن يتحكم هو في الخوف بحيث يستغله كمولد للإرادة والذكاء والقدرة على التصرف، بحيث يستعمله ليشحذ كل حواسه ويحيل جسده إلى مركز راداري حساس باستطاعته أن يلتقط أوهى البوادر ويتصرف تجاهها أسلم التصرفات. فالخطورة في مصارعة الثيران تأتي مثلا من تأخر في تلقي بادرة، أو تلقيها في وقت مناسب، ولكن الرد عليها رد ليس هو المطلوب. إن أي خطأ تافه في هذه الحالة قد يؤدي إلى مصرعه. إنها امتحان خطير للانتباه والقدرة على وزن الاحتمالات بميزان دقيق ، وموهبة اختيار أفضلها.
والناس لا يولدون هكذا. إن هذه الخصال لا بد لها من تدريب شاق طويل، ومع هذا فهو تدريب لا نهاية له ولا يمكن أن تصل فيه إلى درجة تصبح بعدها في أمان مطلق؛ فالمصارعة سلسلة مواقف يدركها المصارع ويتصرف إزاءها، والتدريب الطويل لا يفعل أكثر من أن ينمي لدى المصارع القدرة على ضبط أعصابه مثلا أمام الموقف، وعلى إدراك نوعه، وعلى السرعة في إيجاد الحل. إن التدريب لا ينمي سوى القواعد العامة، أما حلول كل موقف والتصرف إزاءه ببراعة، فصحيح أن التدريب الطويل يجعلك تلم بالكثير منها، ولكن المواقف في المصارعة نادرا ما تتشابه، بحيث إنك في كل جزء من الثانية تجد نفسك في موقف جديد لا بد أن تحله حلا جديدا نابعا من الموقف ذاته؛ لهذا فالمصارع يظل مهما بلغت شهرته وصيته محل اختبار في كل مرة تحتويه الساحة مع ثور. اختبار هو معرض فيه للفشل أو النجاح كما لو كان مبتدئا؛ ولهذا أيضا لا يوجد «كبير» في الميتادورات، كلهم صغار! واللحظة التي يكبر فيها أحدهم هي فقط اللحظة التي ينتصر فيها على هذا الثور أو ذاك، لحظة ينتهي كبره بانتهائها. حتى إذا ما دخل مباراة ثانية دخلها صغيرا من جديد، احتمالات نجاحه تتساوى مع احتمالات فشله! ولا بد له - مثله مثل الداخل للمرة الأولى - أن يتوقف قبل أن يدخل الساحة ويرسم - مبتهلا - علامة الصليب.
الفصل السابع
ارتفع المواء يلعن الفارس الذي كان لا يزال يدفع حربته أكثر وأكثر داخل ظهر الثور ويطالب بإنهاء عملية الطعن حتى لا تقل قوة الثور عما هي عليه كثيرا، وحتى يظل كامل السرعة والهياج؛ فكلما ظل هكذا أصبحت مهمة الميتادور شاقة، وتطلب الأمر منه أن يعتصر نفسه ليستخرج آخر قطرات فنه وقدراته.
وإحساس غريب ذلك الذي يتملك الجمهور في تلك اللحظات القصار التي تبدو طويلة كالساعات، اللحظات التي يستغرق فيها الثور في نطح الحصان، والتي في أثنائها يغرس الفارس وبكل قواه الحربة في ظهره. لحظات لا يسكت فيها الجمهور أبدا وكذلك لا يصدر ضجة، ولكن من بينه، ومن أفواه مجهولة وكأنما ليست أفواهه تظل تصدر طوال تلك اللحظات أصوات مكتومة فيها قلق وفيها ألم وفيها معاناة، فيها إحساس بالرفض وصرخات استغاثة لا تنبعث. بينما الأجساد جميعها وبلا استثناء تتململ وتتحرك في أمكنتها ضيقا ونفاد صبر. وبينا سيدات كثيرات يشحن بوجوههن بعيدا عن المشهد، تشترك عيون بقية السيدات مع الرجال في صب نظرات حنق وضيق واحتقار فوق الفارس الطاعن، ولا تنتهي هذه النظرات أو معانيها حتى بعد أن يكف الرجل عن فعلته، بل تظل الأصوات بلغتها المبهمة المكتومة تزجره وتطلب منه بكل ما تملك من اشمئزاز أن يغادر الدائرة الرملية إلى خارج الحلقة، مشيعا بكل ما تملك النظرات من استهجان. والرجل لا ذنب له، إنه كممثل دور الشرير في الرواية الذي يتحمل بلا جريرة وزر دوره، ودوره في المباراة لا يحسد عليه! ففي مهرجان البطولة هذا، بطولة الثيران وشجاعتها من ناحية، وبطولة الميتادورات وهي تقاتل الثيران وتحاربها وتحاورها وتصرعها من ناحية أخرى، يقتصر دوره هو على الاختباء داخل دروعه والتحصن فوق حصانه، وطعن الثور والإصرار على طعنه حتى تنهد قواه.
ومع هذا فهو يظل بعد خروجه يقطع الممر الفاصل بين الساحة والجمهور والحربة في يمناه، وقبعته الخطيرة فوق رأسه، بينما هو جالس في عظمة فوق سرج الحصان المنطوح العجوز (حثالة الأحصنة التي تختار لهذه المهمة؛ حتى إذا ما نفقت لا تكون الخسارة فيها جسيمة). يقطع الممر في عظمة دونها عظمة نابليون، ونظراته التي يواجه بها نظرات الجمهور في تحد وشموخ تدل على أن رأيه في دوره يختلف تماما عن رأي الناس فيه، معتقدا لا بد أنه المتباري الأساسي، وهو أول من يأخذ «حموة الموسى»، ويلتقي بالثور وهو في عنفوان قواه، معرضا نفسه رغم كل دروعه لأخطار جمة. كم يبدو شبهه في نظراته وتصوراته تلك قريبا - وبالذات ونحن في إسبانيا - من الخالد الذكر الدون كيشوت أو كيخوت كما ينطقونها هناك!
هذا الإحساس الغريب الذي يتملك الجمهور ساعة الطعن ليس تافه المضمون أبدا ؛ إذ كيف يتململ الجمهور ويحتج لطعن ثور هائج كان يلقي الرعب في قلبه، وكان يتمنى منذ اللحظات لو تتفتح الأرض عن قوة تستطيع مواجهته وكبح جماحه؟ إن معناه هنا أن الغاية في نظر الجمهور لا تبرر الوسيلة، وأن يحتمي فارس بالدروع ليطعن الثور المتوحش القاتل في ظهره وسيلة ليست شريفة من وسائل الحرب، والوسيلة في الحرب - في أي حرب - لا تقل أهميتها ومعناها عن الهدف من الحرب نفسها. إنه احتجاج ضد الخداع والجبن! إن للجمهور دورا آخر في المباراة، دورا مهما؛ أن يحافظ على «القيم» ويحرسها. ليس مهما في نظره لمن يكون النصر، المهم دائما وأولا كيف يأتي الانتصار.
والدليل هو ما حدث لهذا الثور نفسه حين مضت أدوار المصارعة التي وضح من خلالها أن الميتادور ليس بذي باع طويل في اللعبة. وحين جاءت اللحظة التي عليه أن يصرع الثور فيها، وصوب إليه الطعنة الأولى، لم يغمد السيف إلى آخره؛ ومعنى هذا أنه لم يحسن تقدير المسافة، أو صوب الطعنة وهو أبعد مما يجب خوفا على نفسه. وقابل الجمهور فشله الأول بالصمت مؤثرا أن يعطيه فرصة أخرى، وكان عليه أن يستخرج السيف من مكانه بواسطة سيف آخر له خطاف في نهايته ويعيد الكرة. وهذه المرة أيضا لم ينفذ إلى الصدر سوى نصف السيف، وبقي نصفه الآخر مع المقبض خارجا. وماء الجمهور ولكنه آثر أيضا أن يطيل في صبره. وطعن الميتادور الطعنة الثالثة، وغاص السيف هذه المرة إلى المقبض، وخرج الميتادورات يحيطون بالثور على هيئة حلقة في انتظار سقوطه وموته، ولكنه لم يسقط إذ يبدو أن الطعنة وإن كانت قد اخترقت الصدر إلا أنها لم تصب القلب أو أحد الأوعية الكبرى. وبدلا من هذا انطلق الثور فجأة مهاجما مندفعا في كل اتجاه، باحثا عما يصوب إليه قرنيه ويطعنه.
واهتزت «الأرينا» بتصفيق حاد، وعمتها موجة من الحماس الشديد للثور الذي رفض بإصرار أن يموت. وحاول الميتادور أن يستخرج السيف الغائب إلى المقبض ليعود يطعنه، ولكن محاولته قوبلت بمواء مستنكر عريض ، وصيحات غضب ، وصفير، جعلته يعدل عنها؛ إذ الجمهور حارس القيم وحاميها، لم يعد يهمه أن يصرع الميتادور الثور بطريقة فنية، أصبح المهم لديه أن الثور لا بد سيتألم ألما شديدا نتيجة للطعنات الثلاث الفاشلة، وليس من العدل أن يظل بطل كهذا يتألم، ولا بد من إراحته فورا وتخليصه من ألمه. بمعنى آخر كان على الميتادور أن يقتل الثور في الحال باستعمال طريقة «الديسكابيلو»، وذلك بطعنه في رقبته بسيف خاص، أو ببساطة أشد بذبحه، ولكنه ذبح بلا تكتيف أو اشتراك أحد، ذبحه وهو حي واقف شديد الخطر. وتتم العملية بأن يفرد الميتادور عباءته الحمراء فوق الأرض كي ينجذب إليها بصر الثور وانتباهه، ويستغل المصارع انشغال الثور بمهاجمتها ليصوب إلى رقبته طعناته بواسطة السيف الخاص، وهي عملية بشعة ما في ذلك شك، أكثر بشاعة من عملية الطعن التي يقوم بها الميتادور، والتي تثير تقزز الجمهور. فهنا لا يعود الأمر مباراة بين طرفين لكل منهما مؤهلات قوى مختلفة، هنا الأمر عملية قتل واضحة، الثور فيها منهك خائر القوى مطعون في صدره وظهره ينزف ويلهث، ولكن مع هذا لم يتنازل عن جرأته وإصراره على الحرب والمهاجمة والاستجابة لكل ما يثيره حتى وهو في أتعس حالاته؛ ولهذا فهو ينقض على العباءة مركزا فيها همه، بينما من وراء ظهره وبالخديعة يذبح ذبحا لا فن فيه ولا مهارة إلا مهارة الجزر والجزارين.
عملية قتل تجعل الجماهير تفيق وتختفي من أمامها العناوين البراقة والحجب وكل ما يجعل من مصارعة الثيران رياضة تجذب وتثير الانفعال، ويبدو الأمر في النهاية على حقيقته العارية البشعة. إنه ليس سوى عملية قتل، الإنسان فيها هو الذي يتولى ذبح الثور، ويفعل هذا على مشهد من ثلاثين ألف متفرج. عملية ترعاها الدولة وتنظمها وتدعو لها في كل أنحاء العالم ليأتي السياح آلافا وأفواجا وينفقوا الإسترليني والدولار، وتمتلئ خزائن البنوك الخاوية، وفي إسبانيا بنوك كثيرة أكثر من البنوك في أي مكان آخر من العالم، ومع هذا فهي على حسب إحصاءات هيئة الأمم المتحدة أفقر بلاد أوروبا . آلاف السياح وملايين الإسترليني والدولارات التي تضل لأمر ما طريقها إلى جيوب الفقراء، وتتكدس في خزائن البنوك ولدى أصحاب البنوك وزبائنها وروادها، ويحدث هذا كله بثمن أن يقوم إنسان يرتدي ملابس مزركشة وسط ضجة ومهرجان واحتفال وموسيقى بذبح ثور وإسالة دمائه، ذبحا مؤلما أشد الألم يتأوه له الرجال ويكاد يغمى على النساء! الشاب الذي كان يجلس أمامي أخفى رأسه كالطفل المذعور بين ركبتيه، والإسباني جاري انهمك في مسح عرقه الذي مضى ينزف بغزارة، وجارتي الحسناء أخرجها المشهد من كل تصلبها الخجل وجمودها، ومن الحمرة القانية شحب وجهها حتى أصبح في صفرة العلم الإسباني. وبدأت أسنانها تصطك، بينا سيدة سمينة أمامي بصفين مضت تحملق في المشهد وهي في حالة استسلام كامل. بدا هذا واضحا من طريقة مضغها للبانة حيث لم تتوقف عن المضغ، وكلما وجهت الطعنة إلى الثور ونخ بنصفه الأمامي ألما، وتفجر الدم يبلل الرمال ويصنع منها طين الدم البني، ويلوث بعضه ملابس الميتادور الأنيقة، أطالت الفترة بين مضغة اللبانة والمضغة التالية، وبينما سيد مهذب جدا في نفس صفها يبتسم وعيناه لا تتحولان عن المشهد، وبالأصح كانت ملامحه قد توقفت على هيئة وجه مبتسم استغرقته المشاهدة وشغلته إلى درجة لم يجد لديه وقتا أو بالا لمجرد تغيير ملامحه.
مشهد لا يحرك إلا الألم البشع! يحركه استنكارا وضيقا واحتجاجا عند أناس، وعند أناس آخرين يحرك المتعة بالألم. أدنأ الأحاسيس وأكثرها خسة وشذوذا. ذلك الاستعذاب للألم والرغبة في إطالته والاستزادة منه، وكل هذا بنقود كثيرة وبدعاية واحتفالات وتهليل، والشهيد في النهاية ثور، ذلك الثور مثلا، ذلك الذي لم يلبث تحت وقع الطعنات الكثيرة أن ارتمى على الأرض مجهدا وحسبوا أنه مات، ولكنه ما لبث أن وقف مرة أخرى وكأنه بسبعة أرواح، وحاصروه وبدأ الميتادور يلوح بعباءته استعدادا لجولة طعن أخرى. وبدأ الجمهور يتأوه مقدما وبصوت عال مسموع، ولكن الثور لم يلبث أن تهاوى على جانبه لآخر مرة، وبقي في مكانه صريعا لا يتحرك.
الفصل الثامن
ومن ساحة صامتة كئيبة مليئة بالخزي والتقزز والندم والاشمئزاز ، وكأنما الجميع حتى المشاهدين قد ساهموا منذ هنيهة في ارتكاب جريمة خلقية شاذة. انسحب المصارعون كلهم حتى ذلك الذي ذبح الثور، فلا انتظار لتحية هذه المرة أو زهو. حسبه أنه سيخرج قبل أن يفطن إليه الجمهور وينفجر قاذفا إياه بكل ما في متناوله. كان الجمهور لا يزال يحيا مع الثور المقتول وكأنما يقيم له جنازة تلقائية سريعة، يتذاكر فيها كل ما أبداه خلال المصارعة من ألوان القوة، وبطريقته الخاصة. الصمت، يؤنبه.
وجاءت الخيول الأربعة، وأحكم وضع الحبل على قرونه، وبدأت تجره خارج الساحة، ومن أعماق الصمت المخيم اندفع فجأة مواء، هذه المرة عميق وحقيقي لا سخرية فيه ولا صفير، وظل يشيع جثة الثور حتى غابت بخيولها خارج الساحة. كان المواء استهجانا لمقتله، الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الجمهور في وقت كهذا أن يبدي سخطه ويصدر حكمه، الحكم بانتصار الثور الميت على الميتادور الحي، طريقة خيل إلي من صراحتها وصرامتها وقسوتها أن الميتادور لحظتها لا بد فضل ألف مرة لو كان هو الميت بهذا التمجيد على أن يكون هو الحي بكل ذلك الاستهجان. وأي إنسان مكانه كان رغما عنه يتمنى أن يصبح الميت المنتصر، ولا يبقى للحظة واحدة ذلك الحي المهزوم.
إن الهزيمة علنا وأمام الملأ هكذا وبحكم جماعي يصدره الآلاف مرة واحدة ومباشرة، الهزيمة التي لا تقبل جدلا ولا تملك أن تبررها حتى لنفسك، وما يصاحبها من ذل وخزي أكثر إيلاما من أي شيء آخر على سطح الأرض، أكثر إيلاما من الموت نفسه. إن فقد الحياة أهون بكثير من الحياة مع معاناتها.
ويا للمصارع المسكين! إنه إذا لزم جانب الحرص على نفسه ليخرج من المباراة سليما معافى لم يرحمه الناس، وإذا أراد إرضاء الناس واقترب كثيرا من الخطر لن ترحمه قرون الثور وأظلافه. للصدف جاءت وقفة الميتادور المهزوم وراء العارضة الخشبية القريبة مني، ولمحته يمسك بأعلى العارضة وكأنما يعلق أو يشنق نفسه منها، بينما جسده قد تراخى وتثنى ورأسه شبه متدل على صدره. كان يبدو كالمطعون سواء بسواء ، طعنة قرون أقسى من قرون الثور وأمر، قرون جمهور غاضب أصابته في الصميم وجعلته يتألم، ليس ألم المجروح فلم يكن هناك جرح أو دم، ولكنه ألم أشد وأعتى؛ ألم الهزيمة!
كان ما يحدث وما أراه جديدا علي تماما مروعا، لكأني في عالم مسحور وبين قوم ذوي قيم وحياة غريبة على عالمنا تماما، أو على الأقل غريبة على بلادنا في شرق البحر الأبيض وجنوبه.
إن الحياة هنا لها معنى مختلف اختلافا جذريا. لقد ربينا على أن أصح وأهم ما يمكننا عمله هو أن نحيا ونظل نقاوم الظروف والأعداء كي نبقى على قيد الحياة.
ولعل الأمر كذلك في إسبانيا نفسها وفي كل الدنيا، ولكن هنا في هذه الساحة يحاول الناس أن يخلقوا عالما آخر مختلفا عن العالم في الخارج وفي كل مكان. عالم الهدف فيه ليس أن تحيا أو تحافظ على وجودك، الهدف أن تنتصر بحيث تحل كلمات النصر أو الهزيمة محل كلمات الحياة أو الموت، وبحيث تختلف كل المقاييس تبعا لتغيير هذه القاعدة الأساسية من قواعد الوجود. وكأن الناس هنا لم يستطيعوا أن يغيروا هذه المقاييس في حياتهم العادية، فابتكروا مصارعة الثيران أو تبنوها وجعلوا لها ساحة، و«أرينا» ومتحفا وعالما كاملا يدخلونه ليحيوا ولو لبضع ساعات كل أسبوع بهذه المثل والقيم، وبدلا من أن تقرأ كتابا يروي لك قصة بطل لا يهمه الموت أو الحياة بقدر ما يهمه الهزيمة أو الانتصار، وبدلا من أن تدخل دارا للسينما أو مسرحا تطفأ فيه الأنوار وتعيش أو تقنع نفسك أنك تركت عالمك المليء بالضعف والانهيار وملايين الناس المتشبثين بحياتهم - وأنت منهم - تشبث المستميت، وأصبحت في عالم آخر، عالم مخلوق من أناس أبطال لا يترددون أمام أي صراع أو خطر، يخوضونه وينتصرون فيه أو يهلكون دونه. بدلا من هذا أوجد الإسبان لأنفسهم هذا المسرح الحي الذي يضم كائنات من الأحياء. مسرحا لا يخدعونك بتمثيل الصراع فيه، ولكنك تجد نفسك أمام صراع حقيقي لا تمثيل فيه ولا تمويه. الجماهير المطحونة المهزومة في حياتها اليومية، المتمسكة بالحياة رغم تفاهتها تمسكا مستميتا لا يخلصها منها سوى قوة قاهرة جبارة كالموت، هذه الجماهير تدخل الساحة لتشهد أناسا يستخفون بالحياة إلى درجة السفه، إلى درجة البطولة في سبيل أن ينتصروا؛ ولهذا فالمصارع لا ينظرون إليه نظرة تمجيد منفصلة عنهم. إن كلا منهم يخوض الصراع المخيف من خلاله! ويرسل كل منهم خيطا من ذات نفسه وروحه لتتجمع آلافها وتلتقي عند المصارع، وبنفسه وبها يخوض المعركة، يخوضها أساسا لحسابهم وكأنهم أنابوه عنهم ليقوم بالعمل البطولي العاجزين هم عن القيام به؛ ولهذا أيضا فما أشد نقمتهم عليه إذا لم يقم بعمله كبطل، إذا عمل حسابا لكيانه المستقل، ومحافظة عليه تهاون في القيام بالبطولة التي وكلوا إليه أمرها.
إنهم لم يجيئوا ليتفرجوا على براعة شاب يصارع ثورا في حدود أن يظل حيا ولو لم يصرعه، إنهم جاءوا لينيبوا عنهم بطلا، بطولته أن يواجه المخاطر وينتصر عليها؛ ولهذا فمتعتهم الغامرة ليست هي أن ينقذ نفسه بتجنب المأزق الخطر، ولكن أن يضع نفسه في المأزق الخطر ويخرج منه سالما، أن ينتصر على الخطر بمواجهته وليس بتجنبه؛ فهم في حياتهم يفعلون هذا، هم دائما يتجنبون الخطر ويهربون من المأزق مؤثرين أن يوصفوا بكلمة الجبن أو الرعونة مع النجاة أو البقاء أحياء، وهنا يريدون أن يفعلوا ما يحلمون بفعله ولا يستطيعون، أن يوصفوا بالبطولة ولو كان فيها مواجهة متعمدة للخطر وتعرض أكيد للهلاك.
ولهذا فالمصارع في إسبانيا ليس مجرد نجم رياضي؛ إنه أولا وأساسا بطل شعبي وأداة الشعب للبطولة، وكما لا يمكن أن تقبل الناس من بطلها السياسي أن يساوم أو يهادن، فهي أيضا لا تقبل أبدا من مصارعها أن يقوم بعمل ليس فيه بطولة. يجب أن يرتدي أجمل الثياب ويبدي إعجابه علانية بأجمل السيدات، وأن يتصرف دائما وأبدا كبطل. هذه الوقفة التي ينفخ فيها صدره ويقذف برأسه إلى الخلف رافعا ذقنه في ترفع وكبرياء مستفزا الثور، هذه الوقفة التقليدية لم تأت عبثا، إنها وقفة البطل. هذه المرارة القاتلة إذا هزم أو فشل في إظهار بطولته لم تأت عبثا أيضا؛ فهي ليست هزيمة شخص عادي، إنها هزيمة بطل.
ومسكين ذلك الميتادور الذي كان لا يزال يعلق نفسه من ذراعه بحافة العارضة، حتى الإشفاق لم يكن يحظى به، بل ولا نظرة التشفي. لم يكن منك إلا الإهمال التام غير المتعمد وكأنه مسح من الوجود، وكأنه انتهى دون أن يخلف أثرا، كأنه مات، بل حتى الموتى يبقى لهم بعض الأثر، أما هذا فلم يكن قد تبقى له عند الجمهور شيء، لا شيء بالمرة تبقى.
الفصل التاسع
ونفخ في الأبواق ودخل الثور الثالث.
كانت «الأرينا» لا تزال تعاني من حالة الركود المخيمة، وظلت كذلك لا حيت الثور ولا حيت الميتادور، ومرت أدوار المصارعة الأولى كما يمضي الشيء الروتيني. انتباه حقيقة وتحديق ومتابعة ولكن دون حماس شديد، أحيانا تتصاعد آهة إعجاب بحركة من حركات «الميوليتا»، ولكنها أبدا لا تشمل الساحة كلها وتبقى دائما داخل حيز محدود.
إلى أن حدث شيء لم يكن يتوقعه أحد.
كان الثور مقبلا مهاجما، وفي آخر لحظة أزاح الميتادور العباءة الحمراء كالعادة من جانبه إلى أمامه لينتهي الهجوم إلى لا نتيجة، وكالمعتاد أيضا بدأ يدور حول نفسه ليواجه الثور الذي كان قد توقف عن اندفاعه واستدار ليعود، في تلك اللحظة انزلقت قدم المصارع فوق الأرض الرملية التي تكفلت المصارعات السابقة بإثارة تربتها، وسقط الشاب على الأرض.
وفي أجزاء قليلة جدا من الثانية حدثت أشياء كثيرة مهولة؛ فعلى أثر سقطته تصاعدت من الثلاثين ألف حنجرة شهقة هلع تثير وحدها الهلع في القلوب. وكان الثور يستدير، وما إن لمح خصمه ملقى على الأرض على بعد أمتار قليلة منه حتى أقبل نحوه ككتلة شر عاتية موجهة، بينما من خلف العوارض الخشبية أسرع أكثر من ميتادور يلوح للثور الهائج المقبل كي تتكاثر أمامه الألوان الحمراء وتصرف انتباهه عن الزميل المطروح أرضا، ولكنها محاولات فشلت في صرف انتباه الثور. وفقط حين أصبح بينه وبين الشاب أقل من مترين كان الأخير بالكاد قد نجح في الوقوف وتعريض العباءة له، وهكذا أنقذ في آخر لحظة، بينما الجمهور لا يزال واقفا على أطراف انتباهه وشعوره هلعا، وقبل أن يصفق أحد لنجاة المصارع أو حتى يعود إلى جلسته كان قد حدث شيء آخر!
فبعد مرة أو مرتين والثور يهاجم والميتادور يتنحى، حدث أن فقد الشاب توازنه مرة ثانية فتهاوى، وقبل أن يسقط على الأرض كانت رأس الثور هناك إذ لم يكن قد ابتعد، واعتقد الجميع أنها النهاية هذه المرة، وقبل أن تشيح أي سيدة بوجهها ويزدرد أي رجل ريقه، كان الثور قد دفع الشاب برأسه ليرفعه إلى أعلى وليسقط أمامه ويفترسه بعد هذا، ولكن بدلا من أن يسقط الشاب إلى الأمام، بدفعة حظ واهية سقط إلى الخلف فوق ظهر الثور، وما لبث أن انزلق إلى الأرض إلى حيث استدار الثور، وتجمع الزملاء في غمضة عين يحيطون بالمصارع ويدرءون عنه الخطر، ولكن الشاب حين سقط ما كاد يلامس الأرض حتى كان قد اعتدل وكأنما ب «زمبرك»، وحتى كان ممسكا بالعباءة في يده يحاور الثور مرة أخرى، ويداوره وكأن شيئا لم يحدث.
وارتجت «الأرينا» بتصفيق عال راعد وكأنما يتنفس الناس الصعداء تصفيقا، وما لبث الحماس أن انتقل إلى المصارع، ونجاته من ميتتين متتاليتين أذهبت عنه غشاوة الخوف من الموت، فمضى بكل إقدام يعرض نفسه إلى مسافة شعيرات من القرون المخيفة، وينجو كل مرة في تفاديها والخروج من المأزق، وهكذا بعد السكوت الطويل مضت الساحة تجلجل ب «أوليه» إثر «أوليه» نشوة واستحسانا.
وبدأت أدرك شيئا وأكاد أضحك من نفسي.
فبالرغم من كل ما ذكرته عن الخطر والخطورة والحياة والموت، بالرغم من إدراكي أن مصارعة الثيران ليست لعبة أو رياضة، بالرغم من كل ما قلته وفكرت فيه؛ ففي أعمق أعماقي كنت لا أزال غير مؤمن بجدية خطورتها. كنت أعتقد أن كل ما يدور أمامي ليس سوى استعراض للخطورة، أما الخطورة نفسها فهي شيء لم أكن قد أحسسته بعد أو لمسته أو رأيته رأي العين.
ما الذي يمنع أن تكون هناك احتياطات دقيقة وراء كل ذلك المظهر الخطر، بحيث يمكن في آخر وقت إنقاذ المصارع ودفع الأذى الحقيقي عنه؟ وحتى حين كنت أرد على نفسي بما رأيته في المتحف وبقائمة الشهداء الموضوعة في مكان بارز، كنت أقول: لا بد أن الأمر كان كذلك أيام زمان، أيام البطولة الحقة، أيام الفتوحات الإسبانية والأرمادا، أو حتى أيام المجد أيام لوركا والحرب الأهلية، أما الآن فلقد اخترقت البلاد طولا وعرضا دون أن ألمح بادرة بطولة غير عادية، فما الذي يجعلها تنحصر هنا فقط؟ لا بد أن التطور الذي حدث لرعاة البقر في أمريكا حيث تكفلت الأيام والحياة الحديثة بنقل بطولاتهم ومسدساتهم ومغامراتهم من الحياة والواقع إلى الشاشة والقصص، لا بد أن شيئا مماثلا قد حدث لمصارعة الثيران هي الأخرى، وأصبح الخطر الحقيقي خطرا مفترضا، والشهداء والأبطال مكانهم في المتحف وليس في الحلبة، وما يدور أمامنا الآن إن هو إلا «تمثيل» متقن للعبة بحيث تحياه وكأنه حقيقة تقنع نفسك وتقنعك الدعاية والقصص والأخبار أنها موجودة، في حين أنك لو دققت وأعملت عقلك لن تجد لها أثرا.
الحادثان اللذان وقعا من لحظات كانا قد تكفلا بقلب كيان أفكاري تماما؛ فلقد أكدا لي ولكل من راوده الشك إن كان الشك قد راود أحدا، أن المسألة لا هزل فيها ولا خدعة، وأنها مصارعة جادة حقيقية، الخطر فيها ليس موجودا فقط، أو له لحظات يتبدى فيها، ولكنه قائم في كل لحظة منها، ولدى كل حركة أو التفاتة، وتكفي حصاة صغيرة تنزلق فوقها القدم لتنتهي حياة المصارع في ومضة، وقبل أن يفيق هو أو يفيق أحد لما حدث.
ويا لغرابة الإنسان! فمجرد انتقال إيماني بجدية ما يدور من طبقة في اقتناعي إلى طبقة أعمق، قلب الصورة في نظري كلية، وتغير معنى كل شيء، وأصبحت لأشياء موجودة معان لم تكن موجودة ولا تصورت وجودها.
مسألة أربكتني وجعلت حمى قلق وانتباه تجتاحني؛ إذ الآن قد أصبح كل شيء أمامي خطرا ومصدر خطر.
حتى راكب الفرس الذي يطعن الثور وهو محتم خلف دروعه يكفي أن ينطح الثور الفرس بطريقة يسقط معها الفارس إلى الداخل بدلا من الخارج لكي يقتله الثور في الحال. يكفي التواء قدم المصارع أو تكفي عثرة، يكفي ألا تواتيه سرعة البديهة في الوقت المناسب كما حدث لذلك المصارع الذي يصدر التلويحة الأولى للثور حين لم يفطن إلى شدة سرعته، فكانت النتيجة أن الثور وصل إليه قبل أن يتمكن من الوصول إلى العارضة الخشبية التي يحتمي بها المصارعون. لم يكن هناك حل للموقف إلا أن يختفي المصارع من أمام الثور بطاقية إخفاء، أو تنشق الأرض وتبتلعه، ولو فكر لجزء من ألف من الثانية في الطريقة التي يختفي بها للقي مصرعه قبل أن يكمل التفكير، ولولا أنه بلا تفكير، وبقوة ورشاقة منقطعة النظير قفز قفزة أوصلته إلى حافة السور، و«ببلانس» آخر كان قد أصبح خارج الحلقة، لولا هذا لمزقته القرون تمزيقا؛ فقد وصلت إلى السور ونطحته تقريبا في نفس اللحظة التي كان جسده يغادر خشب السور. حتى عملية غرس الأعلام، سنتيمتر واحد من الانحراف كفيل بضياع الفارس، وهذه الحركات التي يأتيها المصارع في مرحلة الميوليتا ليثبت بها قدرته وفنه، مثل الركوع على ركبة واحدة وهجوم الثور عليه وهو على هذا الوضع، والأخطر منها النزول بركبتيه، أو ما هو أخطر وأخطر الثبات في مكانه ودورانه حول نفسه فقط ليتفادى من هجوم الثور كلما غير الثور من اتجاهه. أية أعصاب مدربة علمتها الإرادة الحديدية والتمرين على الخوف ألا تفزع أو تأتي بحركة طائشة غير محسوبة، والثور يهجم عليك وقد تكفلت أنت بتحديد مكانك له، وآليت على نفسك ألا تبارحه، وفقط تتفادى من جسده المهاجم بالدوران ربع دائرة لكي يمر الثور من المسافة الكائنة في الفرق بين مواجهتك للثور بعرضك وبصدرك، ومواجهتك له بجانبك، فرق لا يزيد على الخمسة عشر سنتيمترا، بحيث لا بد أن تمسك قرون الثور وأكتافه، وتلوث الدماء الناتجة عن جرح الطعنة والأعلام المغروسة في ظهره، والدماء السائلة على كتفه ثيابك، وتفعل هذا بافتراض أن الثور سيندفع في خط مستقيم وسيبقي رأسه في أثناء المرور في خط مستقيم. ماذا لو كان الرأس معوجا قليلا اعوجاجا يحرك القرن عن موضعه ثلاثة سنتيمترات مثلا؟ ليس هناك سوى احتمال واحد لا احتمال غيره حينذاك؛ أن ينفذ القرن في جسدك بدل أن ينفذ في الفراغ.
تغيرت الصورة أمامي تماما، وتغيرت نظرتي إلى المصارعين والثيران، أما العقاب الرابض فوق «الأرينا» ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن عن وجوده وينقض، لم أعد أحس به كافتراض من خلق الخيال. أصبحت وكأني أراه لم يعد بيني وبين رؤيته منقضا سوى المفاجأة التي تخفيها اللحظة التالية، سوى حصاة تتحرك، أو بقعة أرض تلين، أو قرن يشتبك في قطعة دانتلا تزين ثوبا.
أما الميتادورات الذين كانوا يتحركون وآخذ حركاتهم قضايا مسلما بها، لم أعد آخذها كذلك. أصبحت كل حركة من أيهم لها معنى وفيها صعوبة ومشقة، وليس سهلا على أي إنسان أن يقوم بها حتى لو بدت عادية لا مجهود فيها ولا بطولة أو فن؛ فهي حركات ليست في الهواء الطلق، إنها حركات في قلب الخطر، في فم الأسد، وتحت رقابة عشرات الآلاف من العيون التي لا ترحم، وتحت رحمة كتلة الحياة البدائية المدمرة التي لا تغتفر لحظة ضعف، والتردد أمامها معناه الموت.
حتى الجمهور في نظري تغير، لم يعد في رأيي خارج ساحة الصراع، أصبح داخلها وجزءا لا ينفصل عنها، ودوره فيها ليس دور متفرجين آدميين. أصبح وكأنه جماعة شياطين، آلاف الشياطين! دورها في الصراع هو نفس دور إبليس والشيطان! عملها أن تزيد النار اشتعالا فتظل تحتج على طعن الثور وإضعافه حتى تبقي له كل قوته وضراوته، وتظل تموء وتهتف وتهيب بالمصارع وتوسوس له وتحرضه حتى يضع نفسه في أشد المواقف خطورة، محاصرا من كل اتجاه بمأزق الموت والحياة، مأزق الموت الأكيد والحياة شبه المستحيلة، فإذا حدث هذا تركته حينئذ يواجه مصيره وحده؛ فدورها - دور الأبالسة والشياطين - يكون قد أدى مهمته وانتهى؛ ليبدأ دورها كجماهير متفرجة همها الأوحد أن تنهل كل ذرة متعة وكل بادرة نشوة من الموقف الذي خلقته شياطينها وحرضت عليه.
تغيرت نظرتي تماما، وعرفت لماذا اجتاحت «الأرينا» موجة الحماس للمصارعة، وللمصارع الثالث الذي لم يدفعه إلى هذا الموقف الذي واجه فيه الموت مرتين إلا السلبية المطلقة التي استقبله الجمهور بها والتي ظلت هي المسيطرة طول الوقت. سلبية ليست في الواقع إلا تحريضا صامتا يضع شرطا للإيجابية والتشجيع والمشاركة أن يريهم المصارع بسالته، ويقف ولو مرة واحدة يواجه الموت، وجعلته حصاة صغيرة يفعل هذا، والحماس الذي تدفق جعل اقترابه الشديد من الثور يعرضه لموت ثان نجا منه أيضا ونال المكافأة. تلك الأوليهات التي ظلت تجتاح «الأرينا» في نوبات متعاقبة. لكم هي تافهة تلك المكافأة! وكم هو غريب ذلك التكوين الذي ينشأ عليه الميتادور والذي يستعد معه عن طيب خاطر أن يعرض نفسه للموت الأكيد من أجل «أوليهة» إعجاب قد تكون آخر ما يسمعه، بل قد ينتهي قبل سماعها.
ولكنه الإحساس بالأهمية ذلك الذي يدفع الإنسان ليقدم على أكبر حماقة في العالم كي يظفر به. إنها ليست رغبة في البطولة للبطولة ذاتها أو للشخص ذاته، ولكن لإظهارها للآخرين وأمام الآخرين. إنها كالتمثيل وفيها منه الشيء الكثير! الفرق أن الممثل هناك «يمثل» الدور وبمقدار إتقانه ل «التمثيل» وتقمصه لشخصية البطل ينال إعجاب الناس، وهنا الممثل «يقوم» بالدور فعلا، ويقوم به في مسرحية لا يتخيلها أحد، إنما في واقع كأنه مسرح، في حقيقة كأنها خيال، وبمقدار إتقانه للقيام بالدور وجعله الحقيقة تقترب من الخيال يحظى بالإعجاب. أجل! الفرق بين المسرح وحلبة الصراع أنهم في المسرح يحاولون أن يحيلوا الخيال إلى حقيقة يصدقها العقل، بينما في الحلبة يحاولون أن يحيلوا الحقيقة والواقع إلى أعمال خيالية لا يكاد يصدقها العقل! في المسرح يخلقون من الخيال حياة بطلة تدفع إلى كره الحياة الواقعة وتغييرها، وفي الحلبة يخلقون من الحياة العادية الخاملة نفسها حياة بطولة حقيقية تدفع إلى نفس الغرض، ولكنها تدفع إليه بقوة أعظم ومفعول أشد. إن الإنسان في بحثه الدائب عن بطولة الحياة وحياة الأبطال مستعد أن يستخدم أية وسيلة، حتى تلك الملوثة بالدماء المقطرة بالجريمة. إنه بحث أيضا ولكنه يتم بطريقة نيتشوية عارمة القسوة لا يغفر لها إلا أنها عارمة المفعول في نفس الوقت.
ولو أن هذا الميتادور الثالث نفسه حين جاءت ساعة القتل لم يتمكن من صرع الثور بالطعنة الأولى، ولا حتى الثانية، إلا أنه كان قد قدم دليل البطولة وقربانها واضحا لا شك فيه، وكان الجمهور رغم نهمه إلى كل ما يثيره، وضيقه بكل ما لا يؤدي إلى غرضه ويصيب، على استعداد لأن يصفح عنه من أجل هذا الفشل ويغتفره، ولا يموء والمصارع يستخرج السيف أكثر من مرة ليعود يطعن به، ويظل يفعل هذا إلى أن يخر الثور صريعا لا من الإصابات المباشرة، ولكن بحكم النزيف الذي لا بد حدث داخله.
وهكذا انتهى الشوط الأول من المصارعة وبقي جزؤها الثاني الذي كان على المصارعين الثلاثة أنفسهم، وبنفس الترتيب، أن يصرعوا فيه ثلاثة ثيران أخرى.
وفي أثناء الاستراحة التي سويت فيها أرض الساحة ودخلت عربة رش سريعة خاصة انتهت من بخ الأرض بذرات الماء لكي تبلل فقط رمالها التي جفت، في تلك الأثناء وخلال عشرات ومئات وآلاف المناقشات السريعة التي دارت بين جيران وأصدقاء وأناس لا يعرفون بعضهم بعضا، أجمعت التعليقات على أن الثيران ليست بالقوة المفروضة، وكأن هناك مؤامرة من وراء الستار لاختيارهم صغارا ضعافا هكذا ليكونوا للمصارعين غنيمة سهلة.
وأجمعت التعليقات أيضا أنه باستثناء المصارع الأول، صديقي الذي سرني سرورا خفيا هذا الإجماع على استثنائه وتفضيله؛ فالجميع دون المستوى المفروض. وبدأت حناجر إسبانية عجوز معروقة تترحم على كبار المصارعين في الزمن الغابر، وتذكر بالخير بعض الشبان المعاصرين أمثال باكوكا مينو ودييجو بورتا وجواكين برنادو وجيم أوستوس وغيرهم، ولكن الأمر لم يعدم أصواتا أكثر تفاؤلا بدأت ترتفع وتدافع عن المصارعين اللذين كان أحدهما برتغاليا من لشبونة، وكان الآخر من إسبانيا الشمال من برشلونة، وتقول إن ما حدث سببه الوحيد رهبة المواجهة الأولى، رهبة لا بد أنها زالت الآن تماما، وأنهم لا بد بسبيلهم إلى مشاهدة عرض رائع في الجزء الثاني. وما لبثت آراء بقية المعلقين أن انساقت وراء هذه التفسيرات المتفائلة مستسلمة للرأي أو مفضلة في الحقيقة أن تتفاءل وتستسلم، على أن تظل على عنادها متشائمة.
وكان مكان جارتي الفتاة خاويا، وقبل أن تذهب بي الظنون إلى أبعد من الساحة وجدتها قد عادت متأبطة باقة أزهار لا أعرف كيف وجدتها وبمثل تلك السرعة، ولكنها كانت تلهث وفي عينيها ذلك البريق الذي يفضح تصميمها على أمر ما، وكانت منفعلة تبدو كمن فقدت لتوها، وربما لأول مرة في حياتها السيطرة على نفسها، حتى إنها فعلت ما لم أكن أتصور مطلقا أن تفعله، بدأتني بالكلام لا أذكر كيف ولا في أي موضوع، ولكنا في دقائق قليلة قلنا أشياء كثيرة يأخذ الناس في العادة ساعات طويلة ليتمكنوا من قولها، وأغرب شيء أننا تحاشينا تماما ذكر الحادثة التي سببت كل هذا وحيرتني؛ فقد كان شكلها إسبانيا ولكنها كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة وكأنها لغتها الأولى، وتتكلمها بخناقة أمريكية واضحة.
وخمنت أنها ليست أمريكية ولكنها تحيا في أمريكا؛ فغير الأمريكان يبدون أكثر تمسكا ونطقا باللهجة الأمريكية من الأمريكان أنفسهم. والمفاجأة كانت حين أخبرتني أنها من كوبا، ولكيلا تترك ظلا من الشك أردفت أنها ضد كاسترو وأنها لا تتمنى شيئا في الدنيا قدر أن تراه مهزوما، كذلك المصارع الثاني مدحورا.
ورغم أني أحسست أن حاجزا سميكا قد سقط بيننا فجأة، إلا أن الحديث لم ينقطع، وعرفت أنها ابنة أحد كبار مزارعي الدخان الذين طردهم كاسترو، ورغم هذا فهي لم تكن تحيا في كوبا؛ كانت تعيش وتتعلم منذ طفولتها في ميامي حيث كان لأبيها فيلا يأتي إليها مع العائلة بطائرته الخاصة من عاصمة كوبا «هافانا؛ ليقضي معها هو والعائلة نهاية الأسبوع. وقد جاء الأب ليحيا معها بعد أن «ذهب كل شيء»، أما لماذا هي في إسبانيا فالسبب قصة طويلة حول ميراث وقضية وأب أصابته الصدمة بانهيار، وأصبح العبء كله على عاتقها، وليست هذه أول مرة تأتي فيها لمدريد، ولا المرة الأولى التي تشاهد فيها المصارعة، ولم تكن أبدا في حياتها تتوقع أن يحدث لها شيء مثلما حدث.
كانت تتكلم بلهجة التي تعرف ما تريد، ولا يمكن أن يثنيها شيء عن تحقيقه. كلام ولهجة وشخصية ما أكثر ما تقابلها في الجيل الأمريكي الجديد! الجيل الذي لم يزجره أب ولا نصحته أم، المدلل الذي عودوه منذ الصغر أن تكون رغباته ونزواته قوانين تتطوع الأسرة بتقديمها وهو طفل، ويفرضها بالقوة وهو كبير. وكانت جميلة جمالا لاتينيا متفجرا وإن كانت الحياة في ميامي قد شذبته وأمركته وصبغت أنوثتها - كمعظم الفتيات الأمريكيات - بعناد الذكور وحقوقهم، وأحيانا بصفاقتهم وخشونتهم. حقيقة تدفعك للعجب أن تكون هي نفسها الفتاة التي تجمدت محمرة خجلا منذ وقت قليل؛ فقد كان باديا عليها أنها من صنف وجيل لم يعرف الخجل ولا جربه، ولا يستحي حتى من رغباته الخاصة جدا؛ إذ هو يعتبر أن كل ما يريده ويحس به قانوني وحلال. ثم لماذا الإحساس بالخجل أمام الناس، ولا أحد يقيم لهؤلاء الناس وزنا أو يعطيهم الحق في الحد من حريته وحرية تعبيره عن رغباته؟ ربما كانت هذه المرة الأولى التي يدهمها فيها إحساس كهذا وعلى تلك الصورة، وربما أيضا، ولأنه الوحيد الذي استطاع أن يجبرها على هذا الموقف الأنثوي الخالص. لن تنسى أبدا لهذا الميتادور فعلته، بل الواضح أنها بدأت، وقد خرجت وعادت تحمل الزهور - تصرف أنثوي آخر - بدأت تنسى كل شيء. مزارع التبغ وميامي والقضية وأباها وحتى كاسترو، ويصبح همها الوحيد في دنياها - هنا - معلقا بهذا المثلث الشاحب الرشيق، بوجه صديقي الذي اخترته أنا الآخر، ولأسباب أخرى كي أغدق عليه اهتمامي وأرعاه رعاية الأب لابن ضال.
الفصل العاشر
ودوت أصوات الأبواق عالية بحيث سمعها الجميع هذه المرة، ولفت أصداؤها أنحاء «الأرينا». ورفع مراقب المصارعة السبورة الخشبية التقليدية التي يكتبون فيها اسم المصارع. كنت أعرف ومتأكدا هذه المرة أنه دور صديقي الميتادور، ولأنني استغربت أن أكن له كل ما أشعر به وأنا لا أعرف مجرد اسمه؛ فقد حاولت أن أدير رأسي مع السبورة كي أقرأ الاسم من مكاني والمراقب يلوح بها في كل اتجاه، ولكني لم أستطع. وعرفت حينئذ أن علي أن أظل أجهل اسم ذلك الصديق حتى وهو يخوض للمرة الثانية مأزق الموت والحياة.
وبينما خلت الساحة تماما من المصارعين الذين اختفى كل منهم وراء أقرب حاجز خشبي، دوت أصوات الأبواق مرة أخرى.
وفتح باب الممر المؤدي إلى الحظيرة.
ودخل الثور هائجا كالعادة، مندفعا متفجرا.
ولكن دخوله قوبل بآخر ما كنت أتوقعه؛ فقد انفجرت في الحال بقع احتجاجات متفرقة، وبدأت الصيحات تنتشر وتشمل مساحات أوسع من الجمهور.
كان واضحا أن الجمهور لا يعجبه الثور، ويرى أنه أصغر سنا مما يجب وأقل قوة.
وكانت الصيحات تطالب بتغييره.
وبدأت معركة خفية بين المشرفين على «الفييستا» وبين الجمهور؛ المشرفون هدفهم الإسراع بالإجراءات التمهيدية لوضع الجمهور أمام الواقع، والجمهور يقاوم هذا بكل قوته ويطالب بتغيير الثور.
أما الثور فقد كان أمره يدعو للحيرة؛ فهو في أحيان يبدو قويا يملك طاقة لا حد لها، وفي أحيان أخرى يتوقف فيظهر حجمه وسنه على حقيقتهما. وتتعالى صرخات الجمهور، بل دفعته سرعته الرعناء التي يتحرك بها مرة إلى أن يتعثر ويسقط على أطرافه الأمامية، ولكن الاندفاع الجبار الذي كان قادما به جعله يحمل جسده كله ويقلبه إلى أمام مرتكزا على قرنيه ليعود ينقلب مرة أخرى ليقف معتدلا وينطلق وبنفس السرعة إلى هدفه لا يلوي على شيء.
وبدأ المصارعون يبرزون ويلوحون، والجمهور يزداد تشنجه وصخبه.
وكمحاولة أخيرة من المشرفين دوى صوت الأبواق يأمر راكبي الفرس «البيكادورز» بالدخول، وكأنما كان هذا ليس فقط إشارة البدء لدخولهم، وإنما لاستماتة الجمهور أيضا في رفض الثور؛ فقد شملت المدرجات كلها موجات متعاقبة متزايدة صاخبة من المواء والصفير والهدير الغاضب.
ولكن الباب كان قد فتح ودخل الفارسان وكل منهما قابض على حربته، ولم يلبث كل منهما أن مضى إلى النصف الخاص به من الدائرة الرملية بحيث إذا اختار الثور أن يهاجم أحدهما انسحب الآخر.
وسكب دخولهما وقودا جديدا فوق النار المشتعلة، وازداد الجمهور عنفا، وبدأت القبضات تلوح وألفاظ السباب تسمع واللعنات من كل اتجاه تنصب على الفارسين اللذين تسرب الشحوب إلى وجهيهما، وبدأ أحدهما يلوح بحربته مهددا الجمهور في حركة لا إرادية، ولكنه تهديد الخائف الشاحب. خوف يدعو للتأمل؛ فهذا جمهور لا قرون له ولن يقتل غضبه، ولكن صيحاته، جئيرة. عداءه بعث في قلوب الفارسين رعبا دونه رعبهما من الثور والخطر الداهم بكثير.
ولم يكن هناك وقت لتأمل أكثر، ففي هذه اللحظة دوت أصوات الأبواق مرة أخرى.
حسبتها الغالبية أمرا للفارسين ببدء الهجوم.
ولكنه كان أمرا من رئيس الاحتفال وقاضيه الأعلى يطلب منهما الانسحاب ومغادرة الساحة. وارتجت «الأرينا» بتصفيق كاصطفاق أمواج المحيط.
وفرح الفارسان وقد عادت الدماء إلى وجهيهما بعد طول امتقاع.
وكذلك انسحب المصارعون بعباءاتهم إلى ما وراء العوارض الخشبية.
وبقي الثور وحيدا وسط الدائرة الرملية، واقفا وقفة تحفز، ينظر في ريبة إلى السكون المفاجئ الذي شمل الدنيا فجأة من حوله.
ولا بد أن الخطوة التالية كانت إخراجه من الساحة، والمشكلة العويصة التي وجدتها تحتل كل تفكيري هي كيف ومن الذي يجرؤ وأية قوة يمكنها أن تجبر هذا الكائن الجهنمي الطليق أن تجعله بطريقة أو بأخرى يعود إلى دخول الباب الذي خرج منه؟
وكنت على يقين أن التراث الطويل للعبة قد أوجد حلولا لمثل هذه المواقف، ولكن أي حل؟ ذاك ما رحت أفكر فيه، وكأن الموضوع لغز علي أن أخمن له حلا سريعا قبل أن أرى الحل الصحيح أمامي بعد قليل.
وقد فكرت في طرق شتى، ولكني أبدا لم أتصور أن يكون الحل الذي ابتكرته التجربة الطويلة والخبرة سهلا وبسيطا وعبقريا إلى هذه الدرجة.
الطريقة أنهم أدخلوا في الساحة ثلاث أو أربع بقرات من نفس الفصائل، وقد علقوا في رقابها علبا من الصفيح داخلها قطع معدنية تحدث ضجة كلما اهتزت، وقد كنت أحسب إناث هذا النوع لها نفس شراسة الذكر وطبيعته العدوانية، ولكن البقرات دخلت في هدوء وكأنها بقرات مستأنسة. وقد كنت أتصور أيضا أن الثور سينقض عليها لحظة أن يراها مثلما يفعل بالحصان أو بالخشب أو بأي مما تقع عليه عيناه، ولكنه ما كاد يسمع أصوات الخشخشة حتى رفع رأسه مترقبا والأبقار تسرع إلى وسط الحلقة حيث يقف، ليس إسراعا أهوج متفجرا أحمق، ولكنه إسراع الإناث المتأني، إسراع الحياة الحريصة على استمرارها، المعقولة.
وفي ثانية كان الثور قد اختفى بينها وأصبح فردا من قطيعها، يتحرك معه إذا تحرك وبنفس سرعته، ويقف إذا وقف وتنطبق عليه كل قوانينه، وقد زال عنه توتره وتحفزه ورعبه، وأيضا زالت تماما كل رغبة لديه في المهاجمة أو الانقضاض، وأصبح وكأنه الابن الضال الخائف المتوجس وقد عاد لأحضان أمهاته وخالاته وعماته، وزالت عنه صفات الشريد المجرم لتحل محلها وداعة أبناء الأسر.
وكان التغير سريعا وحادا وملحوظا إلى درجة لا بد تصيب المتتبع له بذهول. لكأنما عصا ساحر أشارت فاختفى الثور المرعب في ومضة وحل محله ثور آخر مختلف في كل شيء عنه. أتراها الأمومة؟ أم هي سحر الجماعة والقطيع؟ أم هو الإحساس بالونس؟ أم هذا كله مجتمعا؟ إلى درجة لم أصدق فيها ما أراه حين دخلت إلى الحلقة بعد هذا فرقة من ثلاثة أو أربعة فتيان غير مسلحين إلا بسياط تفرقع في الهواء، وبفرقعتين تحرك القطيع مسرعا ناحية باب الخروج تحركا لا تستطيع أبدا أن تميز فيه الثور المتوحش من البقرات المستأنسات. وهكذا وفي مثل لمح البصر انحلت المشكلة التي خيل إلي أنها ستستغرق أزمنا لحلها.
وأحسست بحاجتي أن يشاركني أحد فيما أفكر فيه وأتصوره، وليأسي من جاري الإسباني وبيننا الخندق اللغوي العميق، التفت إلى جارتي الفاتنة المحتضنة زهورها والسابحة في وديان، ويبدو أني فعلت هذا في وقت مناسب جدا وكأنها هي الأخرى كانت تهفو إلى من تشاركه، حتى خيل إلي أني ألمح ألفاظ الحوار المتزاحمة تكاد تنزلق من تلقاء نفسها وتغادر طرف لسانها. وكادت الإنجليزية التي أتقنها تخونني وأنا أحاول أن أجسد لها الخواطر التي راودتني وأنا أراهم يستعملون سلاح الأمومة للقضاء على وحشية الثور ورغبته في البطش.
ودون أن تعتدل وجدتها تقول في اعتداد كسول وبلهجة من تعودت أن تقول رأيها ليصبح للآخرين منزلا وقانونا: لا أمومة هناك ولا شيء من هذا. المسألة تدريب. لقد دربوا الثور على أن دخول الأبقار وما يصاحبها من ضجة معناه الأمان ومعناه أن عليه أن يترك تحفزه وبطشه. نوع من الانعكاس المشروط، ألا تعرفه؟ ألا تعرف الانعكاس المشروط الذي اكتشفه بافلوف؟
أعرفه؟! لقد كان باستطاعتي أن أقضي اليوم بطوله أناقشها فيه. ولكن ما فائدة أن تناقش إنسانة لا تناقش لتقتنع أو حتى لتظل على الحياد، وإنما هي تناقش فقط لتقنعك. إذا فرض وتنازلت هي وقبلت مبدأ أن يستمر النقاش، هكذا بدت حتى وهي هادئة تائهة سرحانة.
وكان غريبا منها، وفي ظرف كالذي كنا فيه، وفي أحرج فترة، تلك الواقعة بين إخراج الثور وإدخال الآخر الذي لا بد أنه أقوى وأكثر وعورة وخطرا، خطورة حتما سيتحمل وزرها وضراوتها صديقها الميتادور الذي خصها بعنايته والذي تحمل له الزهور. غريب منها في لحظات حرجة كتلك أن تستطرد سارحة أيضا وتائهة، لا لتكمل النقاش حول كيفية إخراج الثور، وإنما لكي تسألني عن شيء خاص بي أنا، عن جنسيتي. سؤال لم تصدق أني أقول لها الحقيقة مجيبا عنه. وبعناد غريب يضحك رفضت أن تقتنع أني عربي من مصر، وحمدا لله أنها اكتفت بهذا الرفض ولم تشأ أن تفرض بمنطقها شديد المراس المدلل جنسية أخرى. والظاهر أننا كنا لا بد سنصل عاجلا أو آجلا إلى الموضوع الذي تحاشيت دائما أن نخوض فيه؛ فقد سألتني عن رأيي في كاسترو وثورته. وكأنما كانت تتوقع الإجابة فلم يبد عليها الامتعاض الكثير الذي توقعته، وإن شعرت أن مجرد نطقي بالرأي قد حدد إلى درجة ما علاقتنا إلى الأبد، وجعلها تنزل من ناحيتها حاجزا سميكا لا يمكن اختراقه أو تجاهله. ومن خلال الحاجزين، ذلك الذي أسدلته من ناحيتي والذي أسدلته من ناحيتها، بدا أن لا محل ولا مجال لأية خطوة مقبلة نخطوها معا؛ فالأمر عندها ليس خلافا في الرأي أو سياسة. ليس هناك إلا واحد من اثنين؛ إما أن تكون معها فأنت حينئذ صديقها، أو عليها وضدها لكي تصبح عدوها اللدود الذي لا تتورع عن محاربته بكل سلاح وأي سلاح! والناس بالتالي ليسوا في نظرها بشرا لهم حيواتهم ووجودهم وآراؤهم الخاصة، ولكنهم أيضا إما معها أو ضدها، إما أعداء أو أصدقاء ولا وسط ولا حياد. والعداوة عداوة كاملة! والصداقة أيضا ليس فيها درجات! فهي تبغضك إذا نسيت وتجاهلتها ولم تحبها، تماما مثل بغضها لك إذا قتلت أباها. عداوة وصداقة ليست بالعقل ولا بالمعقول ولا تخضع لمنطق أو حجج؛ فهي لا تستطيع أن تبرر لك عقليا كرهها لكاسترو، وتجد أن من الإهانة لها أن تطلب منها تفسيرا لرأيها؛ إذ يكفي جدا أنها هكذا أرادت وعليك أن تقبل وليس على العالم إلا أن يخضع لتلك الإرادة وإلا عادته وأصبح في نظرها هو ذلك العالم المقيت السخيف الذي لا معنى له.
وكم أحسست بنفسي موزعا مشتتا بين كلامها الذي يكشف عن شخصية جديرة بالدراسة والتفرج، وبين انشغالي الأعظم بالمصارعة وبالثور الذي خرج، وبصديقي الميتادور وغريمه الذي لا ريب سيدخل حالا. أريد أن أترك كل شيء وأسمعها ولا أستطيع إلا أن أهب نفسي تماما للدقائق الرهيبة التي يضمني فيها ذاك العالم الجديد علي تماما.
غير أن الواقع نفسه لم يلبث أن تكفل بضبط اهتمامي؛ فقد تصاعد صوت الأبواق يعلن فتح الباب للثور الجديد.
واندفعت الكتلة السوداء داخله، وأسكت دخول الثور الساحة تماما وقضى على كل ما كان باقيا من همهمات؛ فقد اختير وكأنما ليفحم الجمهور الحاضر ويغلق أفواهه. بدا للأعين أضخم من كل ما سبقه من ثيران وأكثر قوة وشراسة. ولم يندفع إلى الحلقة في جري مراهق مجنون مثل سابقيه، ولا مضى بحمق وإسراف وبذخ يبعثر قواه في سباق موهوم لا طائل من ورائه. بدا وكأنه مدرب محترف لا حد لثقته بنفسه، يدخر قواه كلها إلى اللحظة التي يلمح فيها هدفا أو تتحرك أمامه عباءة. حينئذ وباندفاع ديناميتي صاعق، وفي أقل من غمضة عين يكون قد انطلق ووصل وانقض على الهدف مكتسحا إياه بكل سرعته وكتلته، وما في جسده المحشو من طاقات، وكأنه «بولدوزر» خرافي كفيل بتحريك الجبل إذا اعترضه، بل كفيل بسحقه ونسفه وتحويله إلى هباء . ثور ما كاد يدخل ويلوح له بالعباءة مرة أو مرتين، ويقطع الدائرة الرملية منقضا، ويبدأ الناس يمعنون فيه النظر ويتأملونه حتى تأكدت أن كلا منهم لا بد أصيب بنفس القشعريرة التي أحسستها، حتى وأنت واثق تماما ومتأكد أنك بعيد عنه وأنه لن يقترب منك أبدا ومستحيل أن يهاجمك، لا تملك إلا أن تحس بالخوف، ذلك النوع من الخوف الذي نشعر به تجاه كل شيء مهول مطلق بغير حدود، تجاه كل ما ليس له ند، تجاه كل ما لا يمكن التصدي له أو مقاومته.
ولأول مرة أحسست بالقلق العظيم يتحول إلى خوف حقيقي، خوف على صديقي الميتادور الذي كان عليه أن ينازل هذه القوة الغاشمة المطلقة. صحيح هو قد أثبت لي وللألوف الثلاثين ومنذ وقت قليل أنه بطل وأنه حاذق، وأن باستطاعته أن يصرع الثور في لمح البصر.
ولكن ما رأيناه شيء وما كنا نراه شيء آخر.
رحت أتأمل الثور وأعود أتأمل الجزء الظاهر من جسد صاحبي الدقيق النحيف، وما من مرة أعقد المقارنة إلا وأحس أني على وشك أن أصرخ طالبا منه أن يترك الساحة وينسحب. وكأنه سمع الصرخات التي لم تنطلق؛ ففي تلك المرحلة الأولى حيث يتناوب المصارعون محاورة الثور لدقائق قليلة لاختبار مدى قوته وإدراك نقط ضعفه ومعرفة طريقته في الهجوم ومبلغ تحكمه في جسده وأطرافه، خرج له صاحبنا يتحداه ويستفزه بجسد بدا أنحف وأدق مما كان، ووجه يكاد يتحول إلى مستطيل.
وانقض الثور بكل عنفه وقواه، وببساطة غريبة تحاشى الميتادور هجمته، وانقض ثانية وتحاشاه، ومرة ثالثة استجمع كل البدائية والتوحش وانقض وتحاشاه، وتصاعد من «الأرينا» تصفيق كأنه علامة اطمئنان كبرى.
واسترجعت بعض أنفاسي، وتضاءل خوفي ولكنه ظل هناك.
وبدأت مرحلة البيكادورز راكبي الأحصنة. مرحلة الطعن للإضعاف. ولم يقدر للفارس الأول أن يفعل شيئا؛ فبضربة واحدة من قرنيه أطاح الثور بالفرس وألقاه كتلة لا تتحرك في ناحية، وسقط الفارس في ناحية أخرى. ضربة من القوة بحيث اعتقد الناس أن الفارس والفرس قضيا، ولكن كان لا يزال في عمرهما بقية، وتكفل ثمانية مصارعين بشغل الثور وقتا أمكن فيه إيقاف الفرس المكوم وإخراجه، وكذلك فعلوا بالفارس.
وبوجه ليموني أصفر دخل الفارس الثاني وهالة من إشفاق الجمهور تحفه، الجمهور نفسه الذي لا يكره شيئا قدر كرهه للفارس ودوره وقد قلب جبروت الثور عواطفه وموازينه.
والمفروض أن الثور لا يهاجم الفرس مباشرة، ولا يفعل هذا إلا بسلسلة من المحاورات يقوم بها المصارعون على التوالي ليزحزحوا الثور من مركز الدائرة الرملية في الوسط إلى ذلك الجزء من محيطها الذي يوجد فيه الفارس. وفقط حين يحدث هذا ويلمح الثور الفرس يبدأ في مهاجمته، هذه المرة ومن مكانه في مركز الدائرة لمح الثور الحصان وراكبه، ولم يحتج الأمر مناورة أو مداورة؛ فقد أقبل في زوبعة سوداء هائلة، ولولا أن الفارس تحرك بفرسه قليلا وفي الوقت المناسب لحدثت كارثة؛ إذ بهذا الانحراف القليل تفادى من الصدام المروع وانكشف له ظهر الثور، ولم يلبث أن غرس فيه بجماع قوته الحربة. وظل الثور يدفع الفرس برأسه، والفارس بكل ما فيه من قوة وما تسلط عليه من رعب يدفع الحربة بين كتفيه. الثور يدفع وهو يدفع. اللحظات نفسها التي يتأوه لها الجمهور تقززا وتألما لم تحدث شيئا من هذا الأثر؛ فالثور كان يبدو للجمهور كمارد عملاق غير محدود القوة لا يمكن أن يتألم أو تؤثر فيه طعنات. حتى حين خلع الفارس حربته ورشقها في الناحية الأخرى طاعنا إياه طعنة ثانية، مصرا على إبقاء الحربة مغروسة في لحمه، ودفعها بأقصى قواه وطعنه، لم يتأثر الجمهور أو يتململ فقد كان على استعداد لتقبل طعنة ثالثة ورابعة.
ولكن الأبواق دوت معلنة انتهاء مهمة الفارس.
وكذلك دوت الساحة بموجة تصفيق ربما المرة الأولى والأخيرة التي يصفق فيها الجمهور لفارس على مهمته المقيتة وعلى نجاحه في أدائها.
وانسحب البيكادور وهو يحيي الجمهور ووجهه يطفح بالسعادة، وكان أقصى ما كان يتوقعه أن يخرج سالما، وإذا به يخرج بطلا أيضا.
وجاء دور غارس الأعلام (الباندريللوس).
وأن تفعلها مع أي ثور أمر قد يكون معقولا، أما مع هذا الثور بالذات فهو انتحار لا شك فيه؛ إذ قد بدا من تحركاته الأولى أنه يملك مقدرة هائلة على تكييف اندفاعه وضبط تصويبه والقدرة على إيقاف نفسه في الحال والاستدارة، ثم الانطلاق بنفس سرعته الأولى المخيفة.
ولكن المرحلة تمت ودون أي حادث، والجمهور لا يكاد يصدق، وغارس الأعلام نفسه كأنه في حلم أو أنقذ من موت محقق بمعجزة أو بأعجوبة.
هكذا كانت ملامحه تنطق وتوزع ذهولها على زملائه والثور والمدرجات. وبنفخة بوق طالت وامتدت أعلنت بداية مرحلة الصراع الحقيقي (الميوليتا).
ومن خلف العارضة، وبقناع شامل من الثقة والشموخ، وبخطوات إرادية محسوبة تحرك صديقنا الميتادور آخذا طريقه داخل الدائرة مقتربا من الثور.
ولا بد أن خطأ كان قد وقع أو حدث؛ فقد سرت في المدرجات همهمة، ارتفعت داخلها أصوات سرعان ما لفتها نوبات دهشة واستغراب.
وزادت دهشتي حين بدأت الأنظار تتجه إلى ذلك الجزء من المدرج الذي كنا نجلس فيه. حركة جعلتني أفيق من الأحداث التي جرت وامتصت انتباهي، وأعود أفطن إلى وجود جارتي اللاتينية الفاتنة التي لا بد أن الأنظار تقصدها، وتقصدها لسبب ما.
ووجدت نفسي أقتحمها أنا الآخر بنظراتي.
كانت الحمرة هذه المرة ليست أبدا حمرة الخجل؛ حمرة قانية، حمرة دم محروق لا يزيده الزمن إلا سوادا، وكانت ملامحها جامدة أيضا ثابتة لا تتحرك، ووجهها قد انحرف ينظر إلى ناحية. نفس صورتها الأولى مع فارق أساسي واحد أن السبب فيها لم يكن الخجل؛ كان الغضب، غضب المدللين الجارف العنيد؛ فقد كان مفروضا بعد هذه التحية التي تلقتها منه في المرة الأولى أن يأتي إلى حيث تجلس هذه المرة ويحييها قبل أن يبدأ صراعه مع الثور، علنا وأمام الناس، ويقذف لها بقبعته مهديا إليها عمله «الفني» الخطير الذي يوشك الإقدام عليه. ولكن شيئا من هذا لم يحدث؛ فها هو يتجه إلى الساحة ومعه العباءة الحمراء دون أن يهدي إليها أو يهدي إلى أحد شيئا، وها هي جماهير المتفرجين، حتى المتفرجين، تتذكر ما كان يجب عليه عمله وتلتفت إليها، بينما هو - وكأنما لم تكن - ولا حدث بينهما شيء.
كانت إحدى يديها تقبض على باقة الزهور بشدة، بينما الأخرى تسحق زهرة اختارتها وأخرجتها من مكانها، ومضت تمزقها بأصبعيها ووجهها أسود بالاحمرار والغيظ، غير أن هذا لم يدم إلا للحظة تمالكت نفسها بعدها، أو على الأقل هذا ما بدا، ووضعت الزهور جانبا وارتكزت على الحاجز أمامها بكلتا ذراعيها وانصرفت تماما، أو هكذا بدا أيضا، إلى التفرج ومتابعة ما يدور في الساحة.
كنت أتمنى لو استجابت للضعف الأنثوي مرة وأسقطت دمعة؛ إذ ليس أجمل من أن ترى العناد المدلل وهو يتحطم أمامك رغما عنه وعن صاحبته.
ولكني لم أشأ أن أضيع الوقت في انتظار ظهور دمعتها، وعدت إلى الساحة.
مرحلة الميوليتا بالذات، قمة اللعبة وأروع ما فيها، مرحلة لها كيانها المستقل وخصائصها. الميتادور يكون قد اشترك مع زملائه فيما قبلها من مراحل وخبر الثور وعرف الكثير عنه، ولكنه لا يبدأ يعرفه معرفة حقيقية إلا هنا، حين تخلو الساحة تماما إلا منهما، حين تصبح عليه وحده مسئولية مواجهته؛ ولهذا فدقائقها الأولى مليئة بالتوتر والأعصاب المشدودة وكل الظواهر المصاحبة لبداية العمل الخطير، ولكنها مظاهر وظواهر لا تبدو إلا لعين خبيرة؛ فالمصارع يحرص بوعي شديد - ولعله العمل الواعي الوحيد الذي يقوم به المصارع عن إرادة وإدراك خلال تلك الدقائق - يحرص على إخفاء حالته تماما في ثوب الكبرياء الذي يرتديه، والبطء النسبي الذي يتحرك به. لكأنه يقدم لغريمه أول مرة ويحرص على أن يبدو أمامه على هيئة المترفع المتعالي الذي يتنازل ويقبل مصارعته. هكذا يبدو الميتادور وهو واقف وقفته التقليدية معوج العنق، رافعا ذقنه في شموخ، نافخا صدره، متراجعا برأسه إلى الوراء، داقا الأرض بقدمه دقات تتلوها وتسبقها أصوات منادية مستفزة يتحدى بها الثور أن يهاجمه كاشفا له الوجه الأحمر للعباءة ليثيره ويدعوه إلى الانقضاض.
والحقيقة لا تكون هناك حاجة لاستثارته أو دعوته؛ فهو المبادر دائما بالحركة، المندفع، يهاجم في كل اتجاه، المثير في غريمه كل ذلك الاضطراب الأول، والتوتر وشدة الأعصاب.
وكل هجمة من الثور تزيد من اضطرابه وضعف ثقته بنفسه.
وكل حركة من المصارع يحشد لها كل طاقته المشتتة، ويضع فيها كل حذقه ليرد بها على الهجوم، وكل حركة كهذه تصدر عنه ولا تظفر من الجمهور بتحية أو ترتفع لها «أوليه» تزيد الموقف تعقيدا والأعصاب المشدودة توترا.
يظل الميتادور هكذا واجف القلب فاقدة الثقة ضائعا بالكاد يستطيع التماسك والوقوف، خائفا من الثور خوفا يضيف إلى وجهه كل جزء من الثانية طبقة صفرة جديدة، يظل هكذا إلى أن يحدث ويأتي بحركة رد يخرج بها من مأزق وعر، فتفلت من الجمهور رغم عنه آهة الاستحسان الأولى. فقط حين تتصاعد هذه «الأوليه» الأولى، وتصاعدها بالمناسبة ليس أمرا سهلا؛ ففي دقائق البداية يقف الجمهور دائما من الميتادور موقف المتحفظ الكابح لجماح انفعاله بحيث يظل بإرادته يؤجل إظهار استحسانه إلى حركة أروع وأخطر.
وإذا ترك الأمر لإرادته فمن المحتمل جدا أن تنتهي المصارعة دون أن تظهر بادرة استحسان، ولأن إظهارها أمر مهم وهو الذي يجعل المصارعة تحمى والمصارع يقوى وينتصر. بغير مشاركة هذا العنصر المهم فلن توجد اللعبة أو قد توجد على هيئة محاورات باردة لا تثير أية متعة أو انفعال؛ ولهذا فصيحة الاستحسان الأولى تأتي دائما لا إرادية، أكثر من هذا، تأتي رغم إرادة الجمهور الكابت لرغبته كلما انتابته الرغبة لإظهار الاستحسان.
هذه «الأوليه» الأولى هي الشرارة التي تحدث وتضرم النيران.
فعلى أثرها تنتهي تماما كل مظاهر اضطراب البداية ويتحول المصارع من طرف سلبي همه أن يدافع عن نفسه ضد هجمات الثور حتى وإن بدا أنه هو الذي يستفزه للهجوم، إلى الطرف الإيجابي الذي يسيطر على المصارعة ويحركها ويزيد سرعتها ويبطئها. الطرف الذي يحرك الثور في الاتجاه الذي يريد، فيضيق عليه الخناق أو ينصب له الشرك، صاحب اليد العليا.
وهنا وحين تتخطى مرحلة الميوليتا هذا الطور الأول ينسى الميتادور شكله المتكبر المترفع الذي يحب أن يبدو به أمام الثور وأمام الناس، ويبدأ يتحرك بحرية وبلا أي تقيد بالمظهر، وهمه كله أن يستغل قدرته على التحرك السريع وخفته كي يتغلب بها على شدة مراس خصمه وقدرته الجبارة على الجري والاندفاع.
وهكذا مضى صديقي الميتادور وكل أعصابي وانتباهي وتركيزي قد أصبحت جميعها معه وكأنني أخوض المعركة بجواره. مضى يحاور الثور الذي بدا، بارتفاع منطقة أكتافه الأمامية وعنقه ورأسه عن بقية جسده، كأسد بقري متوحش أحضر لتوه من الغابة. أسد لم يتكفل جسده العاري من كل فروة أو شعر بتخفيف حدة مظهره أو كتلته، وكأنه مصنوع من صخر أسود كثيف ثقيل أو من حديد حي، الضخم ضخامة لا بد تبعث على الدهشة والذهول إذا قورنت بسرعته وقدرته على الاندفاع من الصفر إلى سرعة أكثر من المائة كيلومتر فجأة، وقدرته الأخرى الخارقة على التوقف فجأة أيضا، والهبوط من المائة إلى الصفر مرة واحدة. وليس توقفا فقط، ولكنه التوقف والدوران دورة كاملة ثم معاودة الاندفاع من الصفر إلى المائة، وكل هذا يحدث في لمح البصر ويصدر عن هذه الكتلة الثقيلة الرهيبة الضخمة.
وفي مقابله كان صديقي الميتادور عوده له مثل رشاقة ملامحه. ليس فارع الطول ولكنك لا تحس به قصيرا، وساقاه تبدوان في سرواله الضيق اللاصق بهما رفيعتين كنبوتين من نبابيت «الصعايدة» عندنا، ولكنهما أيضا تبدوان غير هشتين بالمرة وكأنما صنعتا من خشب الرمان، سريعتي الحركة بطريقة لا تكاد تراهما وهما تتحركان حتى لتظهرا وكأنهما ثابتتان، ولا وجه للمقارنة بين حجمه وحجم الثور. لا يكاد حجمه أو وزنه يعادل طرفا واحدا من أطراف الثور الأربعة، ولعل هذا ما كان يدفع الثور إلى الجنون وإلى الهجوم بجنون على ذلك الشيء الصغير الواقف أمامه في الساحة يتحداه، ويقف إذا هاجمه ولا يهرب منه أو يخاف، مستغلا الفارق البسيط الذي ميزته به الطبيعة أبرع وأروع استغلال؛ فالثور رغم كل جبروته وضخامته يتحرك على أربع، مسألة قد تبدو غير مهمة إذا كان الثور منطلقا في جريه إلى الأمام، أما حين يتطلب الأمر استدارة أو انحرافا أو تغييرا للاتجاه تصبح الأطراف الأربعة كارثة معوقة، ويبدو الثور عندها وكأنه العربة بلا «دركسيون» إذا كان عليها أن تنحرف فلا بد أن تصنع قوسا كبيرا .
وإذا كان عليها أن تستدير لا تفعل هذا بنقطة كما يفعل الإنسان في الطريق. إنه يستدير في دائرة، ويغير اتجاهه بمنحنى، وينحرف بقوس، ولا يملك كما لا يملك كل بني مملكته إلا أن يفعل هذا إلا إذا ملك القطار أن يتحرك بلا قضبان.
وعلى هذه النقطة التي تبدو بسيطة هينة بنيت لعبة مصارعة الثيران بكل مهرجاناتها وتاريخها وآلاف السياح الذين يأتون من آلاف الأمكنة وينفقون آلاف الملايين من الدولارات لرؤيتها. أجل قدرة الإنسان على أن يستدير حين يريد في نقطة وعدم قدرة الثور على الاستدارة إلا في دائرة. هذا الفرق بين النقطة والدائرة، بين المركز والمحيط، هو الذي يصنع منطقة الأمان التي يحتمي بها المصارع ويضمن ضمانا أكيدا ألا يمسه الثور طالما هو داخلها لا يتعداها. وكل ما يفعله ليحقق هذا الغرض أن الثور حين يقبل مهاجما وهدفه العباءة الحمراء يظل المصارع واقفا في مكانه ثابتا إلى أن يصبح الثور على مسافة نصف قطر الدائرة التي يصنعها الثور إذا دار حول محوره؛ أي الدائرة الكائنة بين ساقيه الأماميتين والخلفيتين. على المصارع أن ينتظر إلى أن يصبح الثور منه على هذه المسافة؛ لأنه لو تحرك والثور على بعد أكبر ففي استطاعة الثور أن يغير اتجاهه وينحرف ويصيبه، أما حين تكون بينهما هذه المسافة وينحرف المصارع فإن الثور إذا انحرف فهو لا يستطيع مطلقا أن يصل إليه أو يصيبه؛ لأن الثور حينئذ يكون قد اجتاز المكان الذي انحرف إليه المصارع حتى أصبح المصارع يواجه منتصف بطنه. وبفرض أن الثور استطاع أن يوقف اندفاعه فورا فهو لا يملك أيضا أن يصيب الرجل، وعليه لكي يفعل أن يستدير ليواجهه برأسه.
ولو كان يستدير كالإنسان في نقطة؛ أي هو واقف في محله؛ لأمكنه فعلا أن يسدد إليه الإصابة، ولكنه لا يستطيع أن يستدير إلا إذا صنع بجسده دائرة كاملة، وحين يتم الدائرة ويتهيأ للانقضاض لا يجد المصارع هناك أيضا؛ إذ يكون الأخير قد انتظر حتى استدار الثور ثم غير من موقفه بطريقة على الثور فيها أن يصنع دائرة كاملة أخرى حول المصارع، دائرة المصارع مركزها، المصارع الذي ينتظره حتى يقارب إكمال الدائرة ليندفع بسرعة وخفة وينحرف جانبا مغيرا من مركز الدائرة، مطالبا الثور أن يعود ليصنع دائرة جديدة وهكذا.
سلسلة من المواقف تكون سلسلة من الدوائر التي يدور فيها الثور محاولا في كل مرة أن يواجه المصارع ليسدد له طعناته بينما المصارع لا ينيله غرضه، بحيث كلما قارب الثور إتمام الدائرة والهجوم غير المصارع من موقفه قليلا لكي يتحتم على الثور أن يصنع دائرة أخرى ليواجهه، ولا يتحقق هدفه أبدا لأن المصارع يغير دائما من موقفه في اللحظة المناسبة.
ذلك هو الأساس أو المبدأ الذي منه تتشعب المباغتة في المصارعة، ويختلف الميتادور عن غيره، بحيث إن أبرعهم جميعا هو ذلك الذي يجعل الثور يتحرك أكثر وأقوى حركة في مقابل أقل حركة ممكنة منه.
ولذا كلما انتظر الميتادور حتى اللحظة الأخيرة لإكمال الدائرة ليغير موقفه أصبح على الثور أن يتحرك أكثر؛ إذ لا بد أن يصنع دائرة كاملة ثانية، في حين أنه لو تحرك في وقت مبكر ففي استطاعة الثور أن يوفر الجهد فلا يضيعه في إكمال الدائرة الأولى، ومن فوره يشرع في صنع الثانية. وكذلك كلما قربت المسافة بين موقف المصارع الأول وبين الموقف الذي ينتقل إليه، ضاقت الدائرة التي على الثور أن يصنعها، وبالتالي بذل جهدا أكبر كي يجعل كتلته الضخمة تلك تتحرك دائرة داخل هذا النطاق الضيق المحدود.
وهكذا يعتبر المصارع المثالي هو المصارع الذي يستطيع أن يتأخر في حركته إلى أن يكاد الثور يلامسه، وإذا تحرك مغيرا موقفه تحرك أقل مسافة، أو أروع وأروع حين لا يتحرك بالمرة، وحين يظل واقفا في مكانه بحيث تتضاءل المسافة التي يتحركها حتى يصبح الفرق بين مواجهة الثور بصدره ومواجهته له بجانبه.
إن الهدف من مرحلة الميوليتا كلها هو إرهاق الثور إلى درجة الاستسلام.
وهذه الحركات الدائرية المحدودة أشد إرهاقا للثور من أي جري منطلق في أنحاء الساحة؛ ولهذا فبعد بضع حركات كهذه يبلغ الإرهاق بالثور المطعون قبلا، النازف اللاهث المغروس في ظهره ستة أعلام تنخر عظمه وتؤلمه، يبلغ الإرهاق به إلى حد أن يكف عن الهجوم أصلا ويقف في مكانه لا يتحرك، وحينئذ تصل ثقة الميتادور بنفسه وبما ألحقه بالثور من إرهاق حد أن يغادره موليا إياه ظهره محييا الجمهور الذي تدوي الساحة بهتافاته.
وكنت قد رأيت مرحلة الميوليتا تمر بهذه الخطوات أو معظمها. رأيت الثور يدخلها كتلة حياة تنفجر بالحركة والوحشية والنشاط، وبطريقة يبدو وكأنها ستظل هكذا إلى الأبد وكأن لا شيء هناك قادر على النيل منها. ويظل الأمر كذلك إلى أن يدخل الثور فخ الدوائر اللانهائية، ولا تكاد تمضي بضع دقائق عليه فيها حتى ينقلب لهثه إلى فحيح مسموع وزبد، وحتى يمتد لسانه شبرا من فمه تعبا وإجهادا، وحتى يكاد يسقط من تلقاء نفسه إعياء. بضع دقائق فقط يتولى هو بنفسه قتل نفسه فيها تعبا وإرهاقا، وتتكفل رغبته الغاشمة البدائية في مهاجمة كل أحمر أمامه، تلك التي تدفعه للجري المهلك حاشرا نفسه داخل دوائر أضيق فأضيق ساعيا وراء سراب العباءة الحمراء، تتكفل هذه كلها بإحالته من كتلة حياة متفجرة إلى حياة خامدة، إلى مجرد حيوان متعب لاهث لا فرق بينه وبين الكلب أو الخنزير. رأيت هذا يحدث للثور الأول والثاني والثالث، أما هذا الثور الرابع ومع صاحبي الميتادور؛ فقد رأيت ما لا يكاد يصدق.
الفصل الحادي عشر
كان الشاب ينصب فخ الدائرة بإحكام ويظل كأعتى ميتادور إلى آخر ومضة في اللحظة، إلى حين تمس قرون الثور العباءة وتشتبك بها أحيانا، وأحيانا تمزقها قبل أن يتحرك جانبا ليتفادى من الهجمة من ناحية، وليصنع من نفسه هدفا آخر لهجمة ثانية، وبالكاد لا يتحرك متبعا في هذا أخطر القواعد مجازفا بنفسه، متهورا في اتباعها؛ وكل هذا ليستنفد طاقة غريمه بسرعة، وليجبره على التحرك بكتلته الضخمة داخل نطاق أضيق دائرة ممكنة إلى درجة كان ضيقها يشل حركة الثور أحيانا، وهو يضغط نفسه ويقترب بنصفه الخلفي من نصفه الأمامي اقترابا تتداخل معه أطرافه، وكل هذا ليصغر من حجمه كي يصنع بحجمه الصغير أصغر دائرة. إنها ليست عملية إجهاد فقط؛ إنها جهاد عارم القسوة والعذاب لكأنك تعتصر نفسك بجبروت ضاغطا جسدك ليتداخل وتختصر حجمه، وتفعل هذا كي تنطلق وبأقصى سرعة تتحرك حركة دائرية يبلغ ضيق دائرتها حد أنك بالكاد تستطيع أن تتحرك، فما بالك بأن تتحرك في سرعة وانقضاض؟
ولكن الثور كان يفعلها ويتحكم في حجمه الضخم كالرياضي المدرب ويستمر يفعلها، ويلمح جسده المظلم الأسود بالعرق، وتبرز عظام أكتافه رافعة ما فوقها من لحم وعضلات، بادية للعيان في محاولته ضم نفسه وضغطها، ولا يتوقف عن الهجوم لثانية، ولم يكف مرة ولا احتاج للتلويح والاستفزاز، حتى تحول جزء كبير من التصفيق والهتاف الذي كان يتوالى تحية للميتادور على براعته وحذقه ودوائر الخطر التي يتحرك فيها بلا خوف أو وجل، تحول جزء من التصفيق والهتاف إلى الثور الماضي في هجومه لا ينال منه تعب ولا يؤثر في طاقته أي مجهود، حتى بدا الأمر محيرا.
إن العادة جرت ألا تزيد هذه المرحلة عن دقائق قليلة تنتهي بعدها كل طاقات الثور؛ دقائق نادرا ما تتعدى الخمس، وها قد مضت عشر دقائق وربع ساعة بأكملها والثور لم تتغير قدرته إلا قليلا، من القلة بحيث يبدو التغير غير ملحوظ.
ولكنني كنت الوحيد تقريبا المشغول بهذا الحساب قلقا على صاحبي، أما جماهير المتفرجين فالصراع الدائر كان يستغرقهم كلية، وانتباههم كله مركز في الحركة الحادثة أمامهم فقط، في ذلك الجزء من الصراع الذي يرونه بأعينهم الآن، وانفعالهم الشديد لا يدع لهم فرصة استرجاع ما حدث من دقيقة أو إعادة تدبره، ولا ما يمكن أن يحدث بعد قليل. وكذلك لا تهمهم حالة الثور أو حالة الرجل، المهم أنهما لا زالا يتصارعان صراعا قويا ممتعا حادا من النادر أن يظفر به جمهور واحد في يوم واحد ولمدة طويلة كهذه. الثور شحنة الطاقة فيه خالدة لا تنفد، تدفعه وتثنيه وتفرده وتقبضه وتشكله عشرات ومئات الأشكال حسبما تقتضيه ظروف المعركة، جسورا لا يني ولا يرحم ولا يتردد، كثيرا ما يتجاوز تقديرات الميتادور ويستدير بسرعة أكبر مما قدر وأكبر من أن تصدق، أو يختصر محيط الدائرة وكأن جسده استحال إلى جسد ثعبان ليس أسهل من أن يستدير ويلتف، ويكاد يوقع كلما حدث هذا صاحبنا الميتادور في الفخ الذي أراده له. وكثرة المرات لا تنال منه، بل تزيده قوة وهياجا وإصرارا حتى تكاد تجعل له اليد العليا في الصراع، وتحيله إلى مطارد وتحيل الميتادور إلى مجرد مدافع عن نفسه ليس أمامه إلا أن يهرب ويظل يهرب. والميتادور هو الآخر في قمة نشاطه وصلاحيته، إن كان قد اعتمد في ضبط خطواته الأولى على رصيده السابق من البطولة، وعلى الزهو الذي حصل عليه منذ وقت طويل لقتله الثور الأول في لمح البصر؛ فبمضي الصراع تناسى زهوه ورصيده وخاض معركته مستمدا منها نفسها الوحي والقدرة وحكمة التصرف. ولم يكن يستعرض، ولكنه في كفاحه الرهيب من أجل أن يقهر غريمه يقدم ألوانا من المصارعة قد لا يكون لها جمال ألوان الاستعراض الخارجي، ولكنها تحتوي على فن وخطورة لا تجدها في أروع الاستعراضات.
كان يستغل دقة حجمه إلى أقصى حد بحيث كان يرغم الثور على الدوران في دائرة لا تتعدى المتر أحيانا، حتى لتكاد تؤمن أن عظامه لحظتها تتهشم وتسمع قرقعتها. وكان يعمد إلى التغييرات السريعة في تكتيكه لإدراكه أن الثور حين يستمر على طريقة يتقنها بسرعة وذكاء غريبين على كائن مثله، فكان يغير من طريقة إلى طريقة بحيث لا يترك لغريمه أي مجال للتعود والإتقان. وحين وصلا إلى طريقة الدوائر أخذ يضيق على الثور الخناق، واستغرق في هذا إلى درجة لم يلحظ معها أن الثور أيضا يضيق عليه الخناق، حتى إنه توقف في مكانه عن الحركة ليجعل الثور يدور حوله مكتفيا بتغيير اتجاهه لتغير وقفته والمركز الذي يدور فيه. وكان صعبا أن تحدد في تلك اللحظة من منهما الذي يحاصر الآخر ويضيق عليه الخناق! ولكن بدا في اللحظات الأخيرة للحركة أن الثور هو الذي يفعل، وأن أمام صاحبنا أخطر مشكلة؛ أن يتخلص فورا من هذا الحصار. وربما لو فكر عاما بأكمله وهو بعيد عن الساحة والموقف لما وصل إلى الحل الذي اهتدى إليه، وكأنما بالغريزة في نفس اللحظة التي وضح أن الثور في هجمته التالية سيصيبه دون أدنى شك.
والطريقة أنه غير فجأة من دورانه؛ أي أقدم على مغامرة مجنونة؛ إذ بهذا التغيير أصبح الثور يواجهه بحيث لم يعد بينه وبين رأسه إلا أقل من متر، ولو قد فطن الثور إلى أنه سيفعل هذا لوفر على نفسه مشقة عمل دائرة أخرى ولطعنه بقرنيه في الحال، ولكنه يبدو أنه فعلها وهو متأكد تماما أن الثور مستغرق في اللف بالطريقة التي اعتادها في الفترة القصيرة الأخيرة، وأنه لن يفطن إليه إلا بعد أن يكون قد ابتدأ في الدورة الجديدة إلا متأخرا بجزء على مائة جزء من الثانية. وحتى لو لم يكمل الدائرة الجديدة واتجه إليه من فوره فيكفيه هذا الجزء على مائة لكي يفلت من الحصار الخانق ويكسر الدائرة الرهيبة التي أرادها للثور فوقع فيها. وهو بالضبط ما حدث، وما انتقل بعده هكذا في واحد على مائة من الثانية من إنسان انتهى أمره إلى إنسان حر طليق، الساحة كلها تحت أمره.
حركة أرعدت على أثرها المدرجات تصفيقا وصياحا كصياح من فقدوا العقول. إن أحدا لا يصدق ما حدث أمام عينيه، لا يصدق أن هذا الشاب النحيل قد أوتي وهو على وشك الموت هذه الشحنات القوية من الجرأة والذكاء وسعة الحيلة لكأنه لخص تاريخ اللعبة وتراثها والهدف منها؛ إذ ذلك هو بالضبط ما أراده الذين ابتكروا المصارعة، وذلك بالضبط ما يريده الجمهور، أن يخوض إنسان بطل فيه كل مؤهلات الجانب الإنساني الصراع ضد ثور بطل فيه كل مؤهلات الجانب البدائي الوحشي، ويظل الصراع بينهما سجالا أو يكاد بحيث لا تحدث المواقف الفاصلة نتيجة ضعف أحد الطرفين، وإنما تنتج رغما عن الاثنين معا، وبسبب تعادل قوتهما في الصراع. وحين يحدث ذلك الموقف الفاصل الإجباري ويصبح على الإنسان فيه أن ينقذ نفسه فعليه ألا ينقذ نفسه كيفما اتفق وبأية وسيلة ، وإنما عليه أن يختار أكثرها جرأة وحذقا وذكاء، أن يختار الطريق البطولي بحيث لو نجحت وأنقد بها نفسه استحق البطولة عن جدارة، وبحيث لو فشلت ومات اعتبرت ميتته ميتة أبطال وخلد ذكره.
وقد يكون هذا كله حقيقيا ورائعا وجميلا، وقد تربي أشياء كهذه الشعب وترسي فيه دعائم البطولة الإنسانية كما يجب أن تكون في عصور أصبحت فيها هذه البطولة أثرا من آثار التاريخ لا تعثر عليها إلا في المتاحف والكتب. فهذه الأنواع من البطولة، بطولة أن يواجه الإنسان الخطر بقلب جريء ويرى الكارثة أمامه تهدد حياته فيقتحمها غير هياب أو وجل. بطولات كهذه خلقتها وغرستها العصور التي كان المجتمع فيها يعتمد على الإنسان الفرد ويهمه أن يمجده ويجعل منه البطل، عصور الآحاد القليلين الكبار. بطولات كهذه اندثرت وحلت محلها أنواع أخرى وأنماط، أنواع نابعة من مجتمعات ازدحمت ولم يعد الفرد فيها يواجه القدر أو الحظ أو العدو وحده. العداوات أصبحت جماعية، والمواجهات جماعية، والعصور عصور الأفراد الكثيرين الصغار، وقوى الطبيعة المتعددة التي استؤنست على هيئة آلات كما استأنس الأجداد الحيوانات البرية والوحوش. عصور القوة التي لا تتركز في شيء واحد بعينه حتى لو كان فردا نابغة عظيما هرقلي القوة! القوة فيها موزعة متشابكة متعاونة أو متنافرة، قوة مستحيل أن تحددها أو تعزلها؛ ولهذا فمجال البطولة لم يعد أن يواجه الإنسان وحده الغريم وببطولة يصرعه؛ إذ الغريم هو الآخر لم يعد فردا أو شيئا بعينه، الغريم هو الآخر مجموع قوى منبثة في مجموعات من الكيانات. لمن يصفق الناس اليوم؟ لم يعودوا يصفقون لمن يصرع عدوه؛ فبالأمس كان يوجد متصارعان ومشاهدون محايدون، اليوم لا يوجد متفرجون ولا حياد، وأي معركة تدور اليوم على سطح الكرة الأرضية لا بد أن تجد نفسك منضما إلى أحد طرفيها، وحتى التصفيق إعجابا لم يعد علامة إعجاب مطلق.
إنها تصفق بإعجاب له هدف، تصفق لمن يقدم لها ببطولته المصلحة والخدمة العظمى. الرجل اليوم هو من يفيد الناس بطريقة أو بأخرى، من يسيطر على أكبر قدر ممكن من مصادر القوى ، لا ليدخل بها معركة ضد خصوم، ولكن ليستعملها ليحقق للناس مطالب وأعمالا عجز غيره عن تحقيقها. وهي بطولة أرقى! ففي الماضي كان الشخص يقوم لنفسه ولمجده ولذاته فيصفق له الناس ويمنحونه لقب البطولة، ولكننا في عالمنا الحاضر نمنح البطولة لمن يقوى لنا ولفائدتنا.
ولهذا فأنت في مصارعة الثيران تحس كلما حمي الصراع هكذا وحدث التجاوب على تلك الصورة، تحس كلما اقتربت اللعبة من حقيقتها ومن الهدف الذي وجدت لأجله؛ شعرت أنك تنفصل عن عالمنا هذا، أنك ترتد إلى ماض تهب ريحه حاملة معها أصداء من زمن ذهب وقيم تغيرت. أي رجل في عصرنا الحاضر ممكن أن يفعل وهو مالك لكل قواه العقلية ما فعله صاحبنا الميتادور؟ أي رجل على استعداد لأن يقف ليواجه قطارا من العضلات الوحشية القاتلة قادما تجاهه ليفاجئه ويجبره على الدوران؟ أي رجل في عصرنا الحاضر، حتى لو أراد هو، تطيق أعصابه ويطيعه قلبه وفكره وإلهامه وهو يواجه الموت في وضح النهار وكل حظه في الحياة متوقف على أمل واهن غير مؤكد أن يفاجأ الثور بالحركة فعلا وتنجح الخطة؟ ماذا إذا لم يفاجأ؟ ماذا إذا استدار الثور في لحظة مناسبة أو انزلقت قدمك أنت وأنت تستدير بسبب حصاة صغيرة، حصاة موجودة في الساحة بالآلاف والملايين؟
وكل هذا من أجل تحية إعجاب واعتراف بالبطولة؟ بمنطق عالمنا الحاضر، وبمنطق الإنسان الجالس على مقهى مع شلة من أصحابه، بمنطق سائقي التاكسي أو سكرتير النقابة، وحتى بمنطق المدله حبا في روايات طرزان ومغامرات رجال العصابات، بمنطق الأم والعمة والخالة، بمنطق عالمنا الحاضر، المسألة كلها سخافة وجنون وقلة عقل. شيء لا يمكن أن يقبل أو حتى يحلم بقبوله أي كائن عاقل معاصر أو حتى نصف عاقل. عمل لا يمكن أن يوصف بالبطولة ويقدر إلا في عصور كعصور عنترة بن شداد أو إيفان هو وروبين هود، وذلك هو ما تحمله رائحة الماضي التي تهب من الساحة وعليها، ورغم أن الناس والأزياء والمصارعين والثيران وكل شيء عصري من عمل عصرنا ونتيجته، إلا أنك تحس بدوي الأبواق وظهور الموكب وملابسه وتقاليده الراسخة من قديم الزمان، تحس تماما مثلما يحدث لك في السينما والمسرح. إن إطفاء النور والافتتاحية الموسيقية تنقلك من واقعك إلى واقع الرواية بحيث تجوز عليك الخدعة المتفق عليها، وتعيش أحداث الرواية وكأنها حقيقة وليست أبدا من صنع الخيال.
الشيء نفسه يحدث في المصارعة، وتتكفل أبواقها وموكبها وإجراءاتها الأولى بنقلك أنت والساحة وكل ما عليها من الحاضر الواقع بكل قيمه وأنواع بطولاته إلى عالم مضى تحياه وكأنه حاضر، وكأنهم يحضرونه لك لتحياه على أنه ماض حاضر، ولكن ليس في الأمر خدعة متفق عليها. الصحيح أنها حقيقة متفق عليها، صراع حقيقي يدور أمامك، من فرط صدقه واندماج أطرافه تندمج أنت الآخر وتتبنى الأسس التي يدور حولها الصراع، وتتحمس للقيم التي تحدد أحكامك له أو عليه.
اندماج لا يحدث في العادة بسهولة ولا يتم فجأة أو ببساطة؛ فهو يستغرق زمنا وشدا وجذبا بين أن تسلم وتصدق وبين أن تستسخف وتكذب. اندماج في الحقيقة لا يتم بإرادتك أبدا وإنما أنت تجبر عليه، تجبرك عليه الحراب والمآزق والدم النازف والخطورة التي تحدق بالمصارع لدى كل خطوة، وأن ينادي شخص بمبدأ ما بمجرد كلام ربما لا يدفعك هذا للاقتناع به، ولكنك لا بد تغير من رأيك حين تراه يخوض المعارك الدامية من أجل هذا المبدأ فيعرض نفسه لخطورة الموت ببساطة دفاعا عنه.
وهكذا بنفس منطق اللعبة، بالقوة، تجد نفسك في ردة حضارية تحياها كاملة وتقتنع بها تماما حتى لتبدأ تتحمس وتنفعل لما كان يتحمس له وينفعل الأجداد الأول، وتشمئز مما كانوا منه يشمئزون، وتمنح البطولة أو تقبضها على نفس الأسس والقيم التي كانوا بها يمنحون أو يقبضون.
ومعظم الناس تنتهي ردتهم بانتهاء المصارعة، وحين يعودون إلى حياتهم الطبيعية يزاولونها كما كانوا قبلا يفعلون بقوانين العصر وتقاليده، بمقاييس الناس الكثيرين الصغار في عالم يومهم المزدحم. معظمهم يعرفون كيف يفرقون بين الساحة والحياة فينسون حماسهم الشديد للبطولة من أجل البطولة على باب «الأرينا»، وهم أنفسهم الذين بحت أصواتهم هتافا للمصارع وهو يضحي بحياته من أجل أن يمجد قيمة أو يقوم بعمل من أعمال البطولة، هم أنفسهم الذين لا يتورعون عن الكذب في اليوم التالي والخداع واستجداء الشفقة وإزجاء الملق للرؤساء. هذه مسألة وتلك مسألة أخرى. هذه ساحة بطولة وأبطال، وتلك ساحة حياة لا بطولة فيها ولا أبطال.
وهناك قلة من الناس تفشل في الاندماج والتصديق، يأبى خيالها الضيق أن يرتد وأن يتصور شيئا آخر غير ما يزاوله في حياته ويؤمن به ويراه. من أجل هذا تغادر «الأرينا» كما دخلتها ساخرة من كل ما رأت ومن الدم الذي سال، بينما تعليقاتها لا تتعدى الحاضرين والحاضرات، وعدد الفاتنات، وهل رأيت فلانة نجمة هوليوود، والشيء الوحيد الذي يؤلمها هو ثمن الدخول؛ إذ بنفس قيمته كان من الممكن للواحد منهم أن يحتسي بضع زجاجات بيرة تعود عليه بالانبساط، أو يأكل أكلة ساخنة تغذي جسده غذاء حقيقيا مضمون الفائدة.
أما أقل القليل فهم أولئك الذين تتأخر عودتهم من تلك الردة التاريخية بعض الوقت؛ إذ تكون التجربة التي خاضوها شديدة الوقع عليهم وعلى تفكيرهم إلى درجة ليس من السهل أبدا التخلص منها.
أولئك الذين يغادرون «الأرينا» وثمة زلزال قد حدث لعقولهم، تحطمت على أثره أشياء في تفكيرهم وارتبكت أشياء. يخرجون وليسوا هم نفس الأشخاص الذين دخلوا! لقد دخلوا مجرد قادمين من عالم الناس الكثيرين الصغار حاملين قيمه ومواصفاته للبطولة، وها هم قد خرجوا وقد أتيح لهم أن يحيوا في عالم آخر ملك عليهم تفكيرهم بحيث لا يستطيعون التخلص من أثره، وبحيث يقضون أياما كثيرة بعدها طلاب بطولة على نسق التي رأوها، وباحثين عن أبطال ومخاطر وأعمال مجيدة تشيب لهولها الولدان، وكأن «الأرينا» بالنسبة إليهم اكتشاف في عالم هم يحتقرونه ويشمئزون من علاقاته البشرية ومخازيه الكثيرة وضعف الرجال فيه. ها هم يساقون إلى حيث يجدون في تلك الواحة التاريخية نموذجا حيا صادقا لعصر بطل، فتسكرهم النفحات ويتمنون أن يبقوا إلى الأبد هنا، أو حين يضطرون إلى مغادرة الساحة إلى إحالة عالمهم الحاضر كله ليصبح على شاكلة تلك الواحة .
ولكنها دفقات الانفعال الأولى والحماس؛ فما هو إلا يوم أو يومان وتبتلعهم الدوامة مرة أخرى وإذا بهم يعودون آحادا من ملايين الصغار الكثيرين الذين يزدحم بهم عالم اليوم الصغير. كل المجهود الإيجابي الذي تقوم به إراداتهم تمسكا بهذا العالم وحبا فيه أن نفوسهم بعد حين تبدأ تهفو وتلح مطالبة بعودة أخرى إلى عالم الساحة والبطولة، وشيئا فشيئا يصبحون زبائن المصارعة المستديمين.
غير أنه كما هي الحال في كل أمر مشابه، تجد هناك دائما أشخاصا نادرين أندر من أن تصدق وجودهم، لا يفعلون كهؤلاء أو كأولئك. هذه القلة النادرة يبهرها عالم «الأرينا» ويستبد بها، وتجتمع عوامل كثيرة أولها إرادة وطبيعة ثورية غير مدربة على الخضوع، بل متعتها الكبرى أن تعارض وتعير وتخرج عن الحد المرسوم. وثانيها علاقات واهية بالعالم المزدحم الصغير، علاقات ليست من القوة بحيث تجذب وترغم وتكبح جماح الإرادة وتظل وراء الثوري حتى يقنع نفسه أن قمة الثورية هي الخضوع. وثالثها استعداد طبيعي يأخذ شكل الرغبة الجامحة. هذه القلة النادرة تشاهد المصارعة مرة لتظل إلى الأبد تحياها وتحيا عالمها البطل بكل ما فيه من سحر وقيم، وسرعان ما تجدها قد انضمت إلى هذا المجتمع المحدود الضيق، مجتمع المصارعين الذي لا يرحب كثيرا بالغرباء، والذي تجد كل من فيه، أو بالأصح تجد معظمهم ونوابغهم متصوفين في محراب هذه الردة التاريخية، ومنتهى أملهم في الوصول أن يكافحوا أنفسهم ونزواتهم والمغريات الصغيرة الكثيرة من حولهم لتتشابه حياتهم داخل الدائرة الزمنية مع حياتهم خارجها؛ لتكون حياتهم سلسلة متصلة الحلقات من اقتحام المخاطر وخوض الأهوال، من النخوة والشجاعة والمواجهة والإصرار على الانتصار.
وكثيرون منهم يفشلون. إنهم جميعا أبناء فقراء وأحيانا بلا آباء، خرجتهم طفولة محرومة وصدهم وعاداهم المجتمع صبية وشبابا، وفي المصارعة عثروا على أنفسهم، على الوسيلة التي يستطيع بها الشاب النكرة اليتيم أو ابن الحرام الجائع العاطل أن يفرض نفسه على المجتمع بكل ملايينه وثرائه وطبقاته، وكما يأتي الانتصار، ومن ثمة البطولة في المصارعة باختيار الموقف الأخطر ووضع النفس فيه، ثم التغلب عليه بعد هذا واقتحامه؛ فهم أيضا في سبيل فرض أنفسهم على المجتمع الذي حرمهم كل شيء يختارون الطريقة الأخطر، أخطر طريقة؛ العمل كمصارعي ثيران، ذلك الذي يعرضون أنفسهم فيه للموت الأكيد كل لحظة، ثم لا يموتون، يقهرون الموت وينتصرون، وينحني لهم المجتمع معترفا ومتحمسا ومصفقا.
والفشل يلحق البعض بل الكثرة، متسللا من نفس الطريق إلى المجد، من نفس الدوافع التي حدت بالشاب المحروم أن يمتهن المصارعة ليصبح بطلا ويشبع بعض حرمانه. من نفس هذا الطريق يدب سوس الفشل، حين يسكر الميتادور بخمر البطولة وتصبح المصارعة عنده ليست غاية على استعداد من أجلها أن يصون نفسه وإرادته ليصبح أقوى وأكثر قدرة على التحكم في ذاته، ولكن تصبح المصارعة بعد الوصول إلى القمة مجرد وسيلة لا تخدم نفسه بعد حرمانها الطويل.
وإذا كان بعض النساء وبعض الخمر وبعض النقود تحفز همة نجم المصارعة إلى الصعود، فإن ما يهوي به هي جرعات أكبر من هذه العقاقير المحفزة نفسها، ولا بد أنه مثل صادق ذلك الذي يقول: ما كان قليله يحفز، فكثيره يضيع ويفقد.
الفصل الثاني عشر
كانت المعركة بين الثور وصاحبنا ومحاوراتهما قد أخذتهما بعيدا عن مقاعدنا إلى الناحية الأخرى. والقرب والبعد مسألة مهمة، لا لإمكان متابعة الصراع عن كثب وملاحظة كل تفاصيله، ولكن لأن وجودك بعيدا عن الصراع يقلل من انفعالك به دون أن تشعر، بحيث تراقبه وليس بينك وبينه مسافة مترية فقط، ولكن مسافة نفسية أيضا تجعل الصراع يصلك وكأنه أخبار تنتقل إليك. أما وجودك على مقربة من المعركة فهو يجعلك رغما عنك تشترك فيها وتحياها، تماما مثلك حين تمر بخناقة بعيدة مهما بلغت قوتها فلن يصل اهتمامك بها إلى حد التوقف أو التوجه إليها، وحين تمر بالخناقة على نفس رصيفك فإنك رغما عنك تتوقف وتصبح جزءا منها.
وهكذا تكفلت المحاورات المتصلة بنقل مركز الصراع بحيث أصبح في الجزء من محيط الدائرة الرملية الذي يلاصق مقاعدنا، أصبحت المعركة بالنسبة لجمهور مدرجاتنا كله أكثر جدية ورهبة ووحشية. كان الثور حين يقبل مهاجما نحس لقربنا الشديد أنه لا يصوب قرنيه إلى الميتادور وحده، ولكنه يصوبهما إلينا أيضا، وكأن الميتادور متفرج معنا متطرف المقعد أو الوقفة ليس إلا. وحين كانت المعركة بعيدة كنا نتفرج ونتحمس أو يهبط حماسنا تبعا لما نراه من حركات.
ولكننا هنا فقدنا القدرة على التفرج. شلت أكفنا وحناجرنا عن أن تصفق أو تهتف. أصبحنا كصاحبنا المصارع نتنهد فرحة كلما نجح في الإفلات من هجمة، وتدق قلوبنا برعب حقيقي حينما يضيق عليه الثور الخناق ويقبل، وكأنما للمرة الأخيرة التي جهز فيها نفسه على أن يضرب الضربة القاضية وقد أصبح وجهه قريبا باستطاعتنا رؤية تفاصيل ملامحه.
يا لبشاعتها حين يقبل متخذا بها سحنة الضربة القاضية! لقد اكتشفت وأنا أتأمل ملامحه وأفعل هذا ربما للمرة الأولى في حياتي، ونادرا ما يحدث لنا أن نعيد تأمل ملامح أي كائن من الكائنات التي تعودنا رؤيتها، نادرا جدا ما نلقي نظرة فاحصة واعية نراجع بها شكل القطة في نظرنا مثلا. هذا الثور، لقد آمنت أنه أبشع المخلوقات شكلا، وكل ما في ملامحه كتل كروية بشعة اللون والتكوين، كرتان بارزتان من جانبي جبهته ثعبانيتا اللون على هيئة عيون، وكرة ذات فتحتين موضوعة على بعد كبير من الكرتين لتكون الأنف، أي أنف. وفم ليس سوى شق واسع قبيح يشطر ذلك الشيء المستطيل بلا معنى، المثلث بلا هدف، إلى شطرين وكأنما هي كتلة خشب لا تصلح من بشاعتها لشيء، قام نجار غبي بشقها بلا هدف أيضا، ووسع الشق بإسفين، هو ذلك اللسان الممدود، ناهيك حين تنقلب هذه الملامح البشعة تحت تأثير الهياج والرغبة البدائية الوحشية في التحطيم والقتل والتخريب، حين تتفتح على آخرها ثقوب الأنف وتنقلب حوافها إلى أعلى وترتعش منقبضة منبسطة. وحين تحمر كرتا العينين وينقلب الثعباني الأصفر إلى لون الدم، ويصبح الوجه المستطيل الغبي أكثر استطالة وغباء وحمقا، وشق الفم أكثر اتساعا وإسفينه اللساني قد تدلى وارما متضخما يسيل منه اللعاب. لعاب كثير يسيل من اللسان ومن الفم والأنف وحتى من العينين، وتتساقط السوائل كغضب سائل كنقمة ذلك الوحش الكاسر تلفظها عيناه، وتتفصد من كل عظمة وعضلة وظلف فيه.
كان المنظر يرعب حقا ويدفع الفتاة الكوبية للتشبث بحديد السور وكأنما تستغيث مروعة استغاثات مكتومة، لا تحاول هي وحدها بل يحاول الجميع كتمانها كل على طريقته.
وكان الثور يلهث، وهو طوال الوقت يلهث، ولهثه كان أبشع من أي شيء سمعته أو تسمعه أذناك. لا، ليس خوارا ولا شخيرا، وإنما شيء كالشهقات المتقطعة المخنوقة التي تنبعث ليس من التنفس وإنما من معاناة الألم العظيم. صوت خشن منخفض مكتوم متوال على هيئة لهث منتظم متزايد السرعة تقشعر له الأذن نفسها حتى قبل أن تنقله إلى مراكز الإحساس العليا ليبعث القشعريرة في الجسد كله. صوت لا بد يذكرك لا بشيء سمعته في حياتك أو حياة آبائك وأجدادك، ولكن بأصوات المخاطر البدائية الأولى حين كنت إنسان الغابة وحيث لا تزال بقايا عقلك البدائي تحتفظ بأمثال هذه الأنات وبأصدائها، وترتعش رعبا إذا استعادتها رغم ملايين السنين من التطور والتغير والتاريخ.
وكانت قد مضت عشرون دقيقة على بداية «الميوليتا» اعتبرها الإسبان المتناثرون حولنا في لحظات الراحة التي كانت تتم رغما عنا، وبسبب فشل أجهزتنا وقوانا في القدرة على استمرار المتابعة وتركيز الانتباه مع الانفعالات الهائلة المروعة التي تصاحبه، لحظات راحة تتبدى على هيئة تعليق طال كبته، أو آهة مسموعة تنطلق بلا أوان، أو كلمة لا معنى لها تصدر عن صاحبها بلا وعي أو هدف. اعتبرها هواة اللعبة الإسبان رقما يحطم غيره من الأرقام من ناحية الزمن، ومن ناحية القدرة اعتبروها معجزة؛ فلم يحدث في تاريخ اللعبة - أو على الأقل تاريخهم في اللعبة - أن رأوا ثورا يستمر هذه المدة كلها يهاجم بلا توقف وبلا إجهاد يجبره على الاستسلام. وكذلك لم يحدث أن بقي مصارع وقتا طويلا كهذا حافظا لقوته وخفته وتوازنه.
وكأنما الخاطر كان يدور في العقول كلها في آن واحد؛ إذ بلا مناسبة ومن غير داع ودون أن يحدث في المعركة ما يستحق، دوت «الأرينا» كلها وفي وقت واحد بموجة تصفيق مرتفعة مدوية تحس أنها ليست موجهة إلى طرف دون طرف، إنها موجهة للاثنين معا تحييهما وتحيي معهما البطولة التي جاوزا بها الحد المتعارف عليه؛ إذ لولا صمود كل منهما ما ظفر الآخر. موجة تصفيق ما لبث أن انحسرت وانتهت.
ففي تلك اللحظة انزلقت قدم الميتادور وسقط على الأرض، في نفس الوقت الذي كان الثور فيه يستدير ليواجهه.
وكعربات النجدة السريعة اندفع المصارعون المختبئون خلف العوارض الخشبية.
وتحرك الفرسان نحو باب الدخول، وطار إلى جزء السور القريب من المعركة صبيان الملعب بالحراب الطويلة.
وكانت قلوبنا - نحن الملاصقين للمعركة - تقفز من صدورنا إلى الساحة حيث تمنع الكارثة.
ولكن صاحبنا كفى الجميع مئونة أية خطوة أو إجراء آخر؛ فما كاد يسقط ويلامس جسده الأرض حتى كان قد اعتدل، والوقت كان كافيا أمامه ليقف ويواجه الثور المقبل على قدميه، ولكنه شاء لست أدري لم، ربما ليزيل من النفوس لمحة الإشفاق التي صاحبت سقوطه، وربما ليستأنف المصارعة لا على نفس المستوى الذي سقط عنده، وإنما على مستوى أعلى وكأنما ليجعل من السقطة إلى أسفل سقطة إلى أعلى؛ ليمضي صاعدا باستمرار في أعين جمهوره.
شاء أن يواجه الثور وهو على ركبتيه نصف واقف.
ولكنه لم يجلب لنفسه سوى اللعنات، وما أغرب هذا الجمهور الذي يظل يطالب ويلح في المطالبة بالمواقف الخطرة! الجمهور الذي يحرض على اقتحام الخطر هو نفسه الذي يستنكر أن يقوم صاحبنا بحركة خطرة كهذه، ولكن يبدو أن الفترة التي قضاها صاحبنا يصارع ذلك الثور الجهنمي، ويبدي في صراعه آيات بطولة حقيقية دون أن ينتظر أحدا ليحرضه على اقتحام المخاطر إنما هو من تلقاء نفسه يقتحمها ليخرج منها سليما ظافرا، هذا كله جعل الجمهور يؤمن أنه أمام بطل حقيقي من أبطال المصارعة، أمام بطل نادر، بطل لم يحظ بإعجابه فقط، ولكن ها هي ذي اللعنات التي ننصب عليه تثبت أنه ظفر أيضا بما هو أصعب من الإعجاب بكثير، بالحب؛ حب الجمهور له، الحب الذي وصل إلى درجة الإحساس بالتملك والحرص؛ فها هو الجمهور الذي يحرض المصارعين الذين لا يعرفهم على تعريض أنفسهم للخطر مع احتمال أن يذهبوا ضحية سهلة للتحريض، ها هو نفسه أصبح يحافظ على صاحبنا ويقلق على مصيره ويحرضه هذه المرة على المحافظة على نفسه.
استنتاج دفعني بنوع من الزهو؛ فها هو الشيء الذي قدرته من أول رؤية لصاحبي، هذا الشيء الذي ربطني به من أول دقيقة ودفعني من أول دقيقة أيضا كي أتابعه وأقلق عليه وعلى مصيره، ها هو ذا تثبت صحته ويثبت أني كنت على حق. ها هي الخيوط، ثلاثون ألف خيط تمتد من ثلاثين ألف نفس وتربطهم به، ها هو الإحساس الذي كنت أحسه وحدي يشاركني فيه آلاف، آلافهم جميعا، حتى الفتاة الكوبية التي سود دماءها منذ هنيهة، ها هي ذي تبدو وكأنها نسيت كل شيء أو غفرت وراحت باهتمام يكاد يعدل اهتمام كافة البشر تتابعه وتجن قلقا عليه.
كانت مواجهة الثور على تلك الصورة عملا بطوليا حقيقة، ولكنه يتطرف ليصبح نوعا من البطولة المبالغ فيها التي هي والحمق سواء بسواء. فالثور لم يكن منهكا أو فاقدا الكثير من طاقته، والصراع كان يدور سجالا بينهما بحيث يبدو ألا حل للموقف إلا أن ينتهز أيهما أية فرصة أو ثغرة يقدمها الآخر، والركوع على الركب يعطي الفرصة كاملة للثور، ويهبط بقدرة المصارع إلى ما دون النصف بكثير، وهي حركة لا يجرؤ المصارعون على القيام بها إلا قرب نهاية النهاية، وحين يكون الثور قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت تعبا وإجهادا.
وأقبل الثور بأسرع مما يتوقعه أحد، وكأنما غذت سرعته فرحة القرب من لحظة الفوز، وبدا الموقف خطيرا إلى أبعد درجات الخطورة، وكأنما الميتادور نفسه قد أدرك مدى خطورته وسخافة إقدامه على الحركة. وتصاعدت صيحات التحذير والتأوه والاستغاثة، ولمحت المئات يضربون جباههم بأيديهم تعاسة ويأسا وإحساسا بالخسارة، ودقات القلوب، الثلاثون ألف قلب وهي تتلاحق وتتعالى مضت تنطق بما لم تكن الألسنة تجرؤ على البوح به بأنه ضاع وانتهى؛ إذ أين المفر؟ وكيف النجاة؟ والثور ينقض ولا وقت للعدول عن الحركة ولا وقت للوقوف ولا أمل في النجاة.
شيء واحد فقط يطمئنني، أن إلهامي لم يهمس لي أنه سيموت.
دليل تافه وغير علمي وسخيف، ولكنه كان كل ما لدي في تلك اللحظة لأتمسك به.
وانقض الثور على العباءة محنيا رأسه.
وانثنى الشاب بآخر ما يستطيع من مدى إلى ناحية انثناءة جعلت ساقه اليسرى تستقيم.
وهكذا مر الثور هذه المرة دون أن يصيبه بأذى.
ولكن هذا كان أمرا شبه متوقع؛ فالخطورة في الحركة التالية حين يستدير الثور في طرفة عين ويقبل مهاجما من الناحية الأخرى؛ إذ حينئذ سيأتي الهجوم من ناحية ظهره بينما هو راكع على الأرض غير قادر على الحركة أو الاستدارة. إن الرد الوحيد أن يقف ويستدير ويواجهه ليستطيع أن يحدد اتجاه هجومه ويتنحى عنه، ولكنه رد مستحيل؛ فالوقت الذي سيأخذه للقيام بكل هذه الحركات أضعاف الوقت الذي سيستغرقه الثور للاستدارة والهجوم.
هكذا كان يبدو الأمر للجمهور، وهكذا حدث لنا ذلك الصمم الغريب وكأن الآذان نفخت بهواء ساخن مضغوط.
ولم نعرف، ويبدو أننا لن نعرف إلى الأبد كيف حدث هذا؛ إذ في نفس اللحظة التي كان الثور يستدير فيها كان الميتادور الشاب قد وقف على ساقيه. وهكذا حين أقبل الثور مهاجما وجد أمامه المصارع محددا خط هجومه مستعدا للتنحي في الوقت المناسب. خيل إلي أنه في تنحية الأول حين استقامت ساقه اليسرى وقد مر الثور ارتكز على اليمنى وحشد كل قواه حتى ارتفعت به عضلاتها وكأنها آلة رافعة إلى مستوى الوقوف. ولكنه مجرد فرض؛ فالقيام بحركة كهذه في حاجة إلى قوة عظمى تسري في الساق في تلك اللحظة، قوة خارقة كالمعجزة لا يمكن لإنسان ما مهما بلغت قوة إرادته أن يستحضرها، لا بد لها أن تأتي إن كانت ستجيء من تلقاء نفسها، كأي معجزة لا تواتي الإنسان إلا في حالة الضرورة الحيوية القصوى التي يستدعيها لانتشال نفسه من لحظة موت مؤكدة.
ولم تجتح «الأرينا» كما توقع الجميع موجة تصفيق عارم، لم يتصاعد هتاف فالناس تصفق وتهتف للبطولة، أما المعجزة فالرد الوحيد عليها هو الانبهار والذهول.
واستمرت الميوليتا.
الفصل الثالث عشر
عشر دقائق أخرى استمرتها بحيث لم يعد هواة الإحصاء يحسبون أو يعجبون، وبحيث كان الجمهور نفسه هو الذي أصابه التعب والإجهاد حتى كاد يلهث وهو يتفرج، بحيث شبع الناس من آيات البطولة ومآزق الخطر كجائع مضى يلتهم الطعام حتى أصيب بالتخمة وبدأت نفسه تعاف الطعام، ولم يعد يهمه إلا أن تنتهي هذه المرحلة ويحين الوقت كي يغرس المصارع سيفه بين ضلوع الثور ويخلص عليه ويخلصهم منه.
عشر دقائق طويلة كالأبد والثور العنيد أمام المصارع العنيد وكلاهما لا يرحم الآخر، وكلاهما لا يمل أو يكل وكأنما يخجله أن يضعف في حضرة خصمه. والساحة قطعاها من المحيط إلى المحيط ولم يعد فيها مكان إلا وشهد مأزقا أو خطرا أو حركة بالغة البراعة والبطولة، ومنهما معا.
لم يعد يربط الناس في الحقيقة إلى مقاعدهم وإلى المعركة اللانهائية الدائرة أمامهم إلا تلك الخيوط الخفية، آلافها المؤلفة التي تربط كلا منهم وكأنما بطريقة شخصية محضة بصاحبنا المصارع، والتي بمضي الثواني والدقائق كانت تقوى وتشتد حتى لقد ملوا المصارعة ولكنهم لم يملوا المصارع ولم تتخل عنهم لومضة متابعتهم له، أو غادرهم لثانية قلقهم الهائل عليه وعلى مصيره، حتى لقد انعكس ذلك الارتباط والاهتمام على نظرتهم للثور. قد يكرهونه أو يحقدون عليه فقد كان يحارب ببطولة هو الآخر وحذق، ولكنهم أيضا لم يحبوه أو يشفقوا عليه. الحقيقة كانت عواطفهم تجاهه تنبت فجأة وتتغير فجأة وتختفي فجأة! فاذا حاصر المصارع وبدا أنه سينقض، ارتفع لديهم حقد مفاجئ عليه يبلغ الذروة، وينخفض حالا إلى الصفر حين ينجح صاحبنا المصارع في التغلب على المأزق. وحين كانوا يرون الثور يبذل جهده المضني القاتل ويلهث لهثة المؤرق وهو يكافح ليستدير وليعود يهاجم، كانت تنبت له في أنفسهم شفقة ولكنها إلى حين. وأخيرا وكميل شمس يوم صيام طويل حار تشرخت له من الظمأ حلوق الصائمين، كميل شمس يوم كهذا للمغيب، بدا في النهاية أن التعب قد نال من الثور تماما حتى أصبح يتوقف عن الحركة مرغما.
وكاد الناس يتنفسون الصعداء لولا أنهم أدركوا أن المصارع هو الآخر كان قد هده التعب هدا. بدا هذا واضحا من الجهد العظيم الذي كان يبذله لكي يولي الثور ظهره مبتعدا عنه، حين يكف عن الهجوم ليتلقى تحية الجمهور.
وكأنما بمعاهدة غير مكتوبة كثرت النوبات التي يتوقف فيها الثور بلا حراك، والتي يتركه فيها المصارع ويستدير محييا الجمهور في بطء.
وكذلك مضى الثور يستغرق مددا أطول لكي يستعد ويعاود الهجوم فترات ونوبات أتاحت للغريمين العنيدين أن يختلسا بضع لحظات يلتقطان فيها أنفاسهما استعدادا للمرحلة الحاسمة المقبلة.
وهكذا دون أن يدوي نفير، أو يدل شيء على الحدث الخطير التالي، ترك المصارع الثور واقفا وسط الدائرة الرملية لا يتحرك، واقترب من السور حيث استبدل بالقطعة المعدنية سيفا من الصلب اللامع، وكذلك غير «الكابا» الحمراء بأخرى في لون الدم القاني.
ودارت محاورات أخرى، الخلاف الوحيد بينها وبين ما سبقها أن المصارع كان يستعمل السيف في سند العباءة وفردها بدل القطعة المعدنية. المحاورات التي يأمل المصارع منها أن يصل الإنهاك بالثور حد التوقف عن الحركة، وأن يضمن توقفه هكذا لبعض الوقت بحيث حين يبتعد عنه وينشن بالسيف على المكان المناسب للطعنة، ثم يندفع تجاهه، لا يتحرك الثور إلا قليلا، وبهذا يأخذ الطعنة إلى النهاية، إلى مقبض السيف.
وانتهت المحاورات بتوقف الثور وقد هد جسده واستنفدت قواه إلى آخر قطرة.
وحف بالزمن على قصره سكون مهيب تام.
وشملت «الأرينا» رهبة، رهبة الموقف، ورهبة الموت المقبل.
إن الموت دائما وفي كل زمان ومكان وبالنسبة لأي كائن حي لحظته أبدا لا تمر عادية.
إن الحياة كل أنواع الحياة تكاد تسكن تجاهها حدادا وخشوعا.
وهذه ليست ميتة عادية، إنها ميتة بطل! وبطولة الكائنات تقربها كثيرا من جنس البشر، دليل آخر على غرور الإنسان كأنما البطولة من صفاته وحده، وحتى لو كان البطل ثورا فقد بز بني جنسه جميعا وقام بما لم يقم به ثور.
وليست رهبة الموت فقط ولا رهبة الموت البطل.
ولكنها أيضا وأهم رهبة الموت المدبر ، رهبة القتل ، حتى لو كان القتل تتويجا لصراع فهو لا يزال، أمامنا قتلا. ها هو المصارع يستعد له ويترصد، ويتراجع إلى الخلف ويسبق عمله بالإصرار، وينشن.
رهبة الاغتيال.
حين تؤخذ الضحية على غرة، فصحيح أن الثور يرى المصارع ويرى ما يقوم به من استعدادات، ولكن إنهاكه يشله ويحول بينه وبين مهاجمته، غير أنه لو قدر له أن يعي أن هذه التحركات نفسها ليست سوى مقدمات قتله ومصرعه لاندفع يهاجم خصمه ولو مات إنهاكا، ولما وقف أبدا مستسلما لتعبه أو كالمستسلم.
لحظة رهبة حقيقية، لا بطولة فيها ولا يتحمس فيها الجمهور لطرف أو لعمل؛ إذ هو لحظتها يكون مشغولا بما هو أهم وأشمل وأخطر، بغريمه اللدود وبغريم كل كائن حي، بالموت الذي يتاح له أن يراه وأن يعرف أنه سيقع حالا، وأن هذا الكائن الحي المنتصب أمامه سيرقد بعد ثوان ميتا.
يشغل الجمهور بالموت، بل تتعدى مشغوليته الكبرى إلى ما هو أخطر من الموت، معرفة الموت قبل وقوعه، والوقت الذي سيحدث فيه والكائن الذي سيموت. إنها تجربة لا يحياها أي من الآلاف الثلاثين كل يوم. تجربة تمسه شخصيا هذه المرة وتستدعي إلى واعيته ألوانا وآلافا من الخواطر.
وذلك هو الصمت الذي كان مستتبا وشاملا، كان صمتا من الخارج.
فهو من الداخل آلاف وملايين من الخواطر والهواتف والهواجس تتشابك وتتلوى وتصرخ كملايين الحيات الزاحفة ذات الأجراس داخل آلاف الجماجم والرءوس.
وتحدث الحركة بأسرع مما يبرق البرق أو يلمع النصل ويغيب.
إذ هكذا ما كدنا نلمح المصارع وقد انتهى من تدبر موقفه وحركته القادمة واتجاهه، حتى رأيناه كإشارة ملوحة يندفع والثور يتحرك في نفس الوقت ولا يرى للتماس أو الاحتكاك أثر، وفقط حين ابتعد المصارع واندفع الثور يستدير لمحنا السيف وكأنما غرسته يد أخف من يد حاو، ولكن الطعنة لم تكن قد وصلت بالسيف إلا لمنتصفه.
وليس هذا هو المهم؛ فممكن أن تكون هناك طعنة ثانية وثالثة.
المهم أن الثور ما كاد يتلقى الطعنة ويحس بالنصل المعدني البارد قد اخترق صدره واقترب من صميم الحياة فيه، حتى حدث ما لم يكن في حسبان أحد، كأنما ضغط السيف بطرفه على زر التفجير، كأنما الطعنة فتحت أبواب مخازن طاقة كامنة هائلة لا تفتح إلا على كلمة السر تلك، كأنما الغدر الذي تمت به استدعى للوجود وحشية الوحش وأجداده وسلالاته أجمعين، كأنما حدث بهذه الحركة التي بالكاد لحظها أحد شيء طاغ عات؛ إذ جاء رد الفعل طاغيا عاتيا وحشيا أثار القشعريرة في البدن؛ فهذا الثور الذي كان الإعياء قد شله وأتى على كل قواه، انتفض منه كائن آخر كأنما لا يمت إليه بصلة، كائن قل فيه ما شئت من صفات، مجنون غاضب سفاح مجرم! قل كل ما شئت فلن تستطيع وصفه أبدا ولن أستطيع؛ إذ المفاجأة التي تم بها التغيير، والسرعة التي تعاقبت بعدها الأحداث لم تدع لأحد وقتا يتأمله ويدقق في صفاته، ومن يدقق في صفات البحر حين تندلع العاصفة؟ ومن يتأمل النار ساعة شبوب الحريق؟
انطلق الثور في غضب أعمى يهاجم المصارع في قسوة وبهدف واضح صريح كأنما كتب على جبينه أن يقتله.
وكان رد الفعل أن بدأ المصارع يجمع في ثانية شتات قواه التي بعثرها صراع عنيد طويل، ودفعته الرغبة في الحياة وصرخة الدفاع عن النفس التي انطلقت على نية الثور الواضحة وكأنها نية كائن بشري تظهر ملامحه ما ينتويه، ومضى يدافع عن نفسه دفاعا كان في الحقيقة مرحلة أكثر يأسا من الدفاع عن النفس؛ كان فقط تأجيلا للحظة الموت.
ومن خمود الشبعى المتخمين انتفضت آلاف الجماهير مستردة وعيها وانتباهها حاشدة قواها، تكاد تقف على أطراف أصابعها قلقا وذهولا وخوفا.
وفي هجمته المنتفضة الثالثة أو الرابعة اندفع السيف من تلقاء نفسه طائرا في الهواء، وكأنما قذفه خارج الصدر بركان تفجر داخله.
وأصبح الثور أكثر انطلاقا.
واندفع في اتجاه المصارع.
ولم يكن في العملية كلها سواء من جانب الثور أو جانب المصارع تكتيك أو أصول أو حساب وقواعد. كان الثور يهاجم وحين يتفاداه الشاب يغير من اتجاهه ويستمر يهاجم، ولم يكن يهاجم العباءة الحمراء وحدها، أصبح يهاجم العباءة إن وجدها وجسد المصارع نفسه إذا كان أمامه. ومزقت قرناه العباءة أكثر من مرة، وبالكاد كان يجد المصارع وقتا أو مكانا لاستبدالها.
وكان لا بد أن يحدث ما حدث.
ففي هجمته اشتبكت قرون الثور بثياب المصارع. ودفع الثور رأسه إلى أعلى، ولكن هذه الحركة البسيطة أطارت الشاب النحيف في الهواء وأسقطته على بعد أمتار. ولحسن الحظ جاءت سقطته قريبا من السور، واندفع نافذا بجلده ليحتمي بالعارضة القريبة من الثور المقبل عليه، والكلمة المكتوبة على جبينه تتوهج وكأنما تحولت حروفها إلى نار. وحين خرج ستة مصارعين لتعطيله حتى يتمكن زميلهم من الوصول إلى العارضة، اندفع الثور يكتسحهم، وبانقضاضة منه يدور عليهم مشتتا شملهم بحيث يطلق كل منهم ساقيه للريح يبحث عن عارضة تحميه.
وفعل هذا كله دون أن ينسى غريمه؛ فقد أقبل على العارضة التي يختفي خلفها، ولم يهمه أنها من الخشب؛ فقد نطحها بقرنه أكثر من مرة، وحين لم يجد فائدة وقف أمامها لا يتحرك متربصا لغريمه تربص قاتل صمم على الإجهاز.
أكدت الحادثة أن النية التي تحملها ملامحه وتتوهج نارية من عينيه نية حقيقية لن يتراجع إلا بتحقيقها، وأكدت هذا أول ما أكدته للمصارع نفسه، وبهذه الانقضاضة التي لولا ضربة حظ عشواء لأتت عليه. وفي الحال انقلب خط الدفاع عن النفس الذي كان قد اتخذه إلى غضب أحمق مجنون هو الآخر، وانقلبت عنده نية قتل الثور من نية قتل طلبا للبطولة، إلى نية قتل غريم وعدو لدود، ألد الأعداء، قاتلك.
وهكذا لم ينتظر أن يغادر الثور مكانه ليدع له فرصة الخروج، أشار إلى زملائه آمرا بنفس لهجة الغضب أن يلوحوا للثور بعباءاتهم ليبعدوه عن مكان الخروج. ولم يأبه الثور للتلويحات الأولى وكأنما هو قد حدد غريمه وطاعنه ولا يريد أن ينشغل للحظة واحدة عنه.
ولكن إصرار الزملاء وملاحقتهم دفعاه إلى التخلي عن موقفه والجري وراء العباءة.
وغادر صاحبنا مخبأه الإجباري والغضب الهائل لا يزال يجتاحه ويمتقع له وجهه كما لم يمتقع بالخوف أو رهبة الدفاع عن النفس .
وكان الجمهور أيضا قد بدأ يغضب لغضبته، ويقف معه وإن كان بالقلب وحده ضد غريمه المجرم الذي عقد العزم على الفتك به.
وبدأ جو ثان غريب يسيطر على الساحة، وخيم على الناس صمت كان له صوت لا أثر مادي له، ولكنه أعلى من كل صوت.
ولا أدري لماذا شعرنا جميعا ونحن في مقاعدنا بتحفز مفاجئ؟ لم تكن المحاورات والمناورات بين الثور والمصارع قد تغيرت، إنها هي نفسها التي كانت دائرة قبل عملية الطعن الفاشل، ولكن وقعها كان مختلفا، وكان الثور يؤدي دوره بشراسة أكثر، وبدا في رد المصارع نوع من فقدان الأعصاب، ذلك الذي ينتج حين تشد الأعصاب وتتوتر إلى آخرها حتى يبدأ بعضها يتمزق وتبدأ طاقات الصبر تنفد واحدة وراء الأخرى.
وكذلك بدأ وجهه يصبح أكثر شحوبا وتصميما.
ومن الصعب المستحيل أن أصف اللحظات القليلة التي سبقت ما حدث؛ فنحن لا يمكننا وصف ما يسبق الحادث إلا إذا كنا على معرفة سابقة بحدوثه أو على الأقل نتوقع حدوثه. كل ما أستطيع قوله إن المحاورة ظلت دائرة، وكلما طال استمرارها ظهر التخبط الأعمى في حركات الثور، والاضطراب الذي لا مبرر له في تحركات الميتادور. قال البعض إنه التعب، لقد استنفدا كل قواهما وإلى آخر قطرة. قال آخرون إن الثور بسبب النزيف المستمر قد أصيب بالعمى، وإنه لم يعد يرى فقد أصبح يهاجم بلا سبب ويتوقف بلا سبب، وتطيش هجمته مرة ويرتد مرة أخرى فجأة، وبلا توقع فيكاد يأتي على الميتادور، ولكنه كان يفعل هذا كله بدافع بدا مختلفا تماما وكأنه الحقد، الحقد الدفين المبيت، الحقد الذي يشعل في الكائنات العليا نار الحرب ويجعل الأخ يذبح أخاه.
وفجأة، أجل فجأة! هكذا تحل الأحداث دائما فجأة، فجأة! ولغير ما سبب معلوم أو مرئي انزلقت قدمه وسقط، لم يعرف أحد لماذا انزلقت قدمه أو السبب الحقيقي لسقوطه؛ فقد وجدناه فجأة ممددا على الأرض.
كان الثور قريبا منه ورأسه في اتجاهه أيضا، ورغم أن سقطته المفاجئة أعقبتها في الحال وقفة مفاجئة منا ، من الثلاثين ألف متفرج، وقفة خوف إلا أنه خوف يشوبه اطمئنان كثير؛ فقد خدعتنا نجاته السابقة، واعتقدنا جميعا وبلا استثناء واحد أنه لا بد سيحدث كما حدث في المرة الأولى، وسيهب حالا من وقفته ويستأنف الصراع. ولكن الثور في تلك اللحظات كان مقبلا عليه إقبالا أسرع من الزمن - هكذا بدا لنا - أسرع من خواطرنا، أسرع من حساباتنا، أسرع من أي شيء في الوجود؛ إذ كان له سرعة النكبة والكارثة والقضاء حين يحم.
ولكن سرعته تلك لا تنفي أبدا أنه لم يكن هناك وقت، ليس وقتا كثيرا، ولكنه ذلك الحد الأدنى من الوقت، ذلك الذي تستطيع بالكاد أن تلمحه وتحس وجوده أو مروره، وقت كان يكفي على الأقل ليعتدل الشاب، ولو أوتي نفس قدرته الأولى لكان قد استطاع أن يقف ويتفادى من الثور القادم.
ولكنه لم يقف ولم يعتدل ولا حتى رفع ذراعا أو حرك ساقا. رقدة ولو أنها لم تأخذ وقتا إلا أنها أثارت استنكارا؛ فقد أحس الجميع أنها رقدة استسلام غريبة للثور القادم المنقض، أو بالأصح لما وراء هذا الثور القادم المنقض، وكأنما بفعل صاعقة وجدانية شاملة مكتسحة. في ذلك الجزيء من الوقت أحسست لفرط تآزري معه في معركته، لفرط تبن لموقفه، لقوة الخيط الذي يصل بيني وبينه والذي كاد يسحب مني الروح لتحل بجسده، أحسست وكأنما الشلل الذي انتابه قد شلني أنا الآخر وأصابني، شلل لا تفسير له ولا تبرير، شلل ساعة حدوثه لا تستطيع أبدا تبينه أو إدراكه، لا تحس به إلا هناك حينما تجلس مثلي على مكتب تستعيد ما حدث وأمامك الوقت متسعا للتأمل والتحليل والتبرير. لطالما سمعت عن تلك اللحظة وقالها الناس أمامي وسخرت من قولهم، تلك التي يقولون عنها إن «سهم الله» قد نفذ فيهم فأوقف التفكير وشل الجسد وأعمى الروح. تلك التي تحدث لنا حين نواجه بغتة خطرا لا قبل لنا به، أو قوة غاشمة عاتية لا يمكننا أبدا مقاومتها. إنها آخر مراحل وقوفنا أمام تلك القوة. إننا أساسا كبشر لا نعترف بوجود قوة غاشمة لشيء في الكون لا قبل له به. وحين نرى تلك القوة أو نلمحها وبيننا وبينها مسافة، مسافة مترية أو زمنية أو نسبية، مسافة «أمن» نسبي؛ فأول شيء نفكر فيه أن نقاوم تلك القوة ونعاديها ونحاربها، هكذا تلقائيا وغريزيا وبصفتنا كائنات حية، حتى لو اضطررنا للهرب منها ففي الهرب معاداة وكره، تماما مثل ما في المواجهة من معاداة وكره. ونظل في حرب معها، في إحساس شامل بمقاومتها والرغبة في تحطيمها وتشتيتها حتى تنجح تلك القوة في الاقتراب منا وتهديدنا، وتخرق بهذا خط أمننا النسبي. حين يحدث هذا ونروع نحن باندحار هذا الخط وبأن هذه القوة الغاشمة قد اقتربت منا ومن تهديدنا إلى درجة أصبحنا معها تحت رحمتها، وبأن لم يعد هناك مفر ولا مهرب، وحينئذ يبدو وكأنما قانون كقوانين الجاذبية يطبق؛ فكما يجذب الجسم الكبير الأجسام الأصغر منه يحدث أن تتحكم القوة الغاشمة الأكبر في قوتنا الإنسانية المحدودة وتفرض عليها نفسها فلا تعود أجسامنا تتلقى أوامرها من عقولنا ووعينا، ولكنها تخضع خضوعا أوتوماتيكيا مباشرا لهذه القوة الغاشمة الكبرى، وبدلا من أن تحدث المقاومة بفعل العقل والوعي وغريزة الدفاع عن النفس يحدث الشلل، الشلل الكامل الشامل بفعل هذه القوة الأكيد مباشرة وبأمرها، تلك اللحظة التي نسميها مرة أن سهم الله قد نفذ فيها، أو أن القضاء قد حم والأجل قد انتهى، أو التي لنا أن نسميها لحظة انهيار خط الأمن النسبي وتحكم القوة الغاشمة فينا.
والحدث كما وقع أمامنا تم ببساطة وكأنه دورة أخرى من دورات «الميوليتا». سقطة، وارتفعت على أثرها وقفة وشهقة جماعية مرعبة، شهقة كالصرخة، كالطلقة، وكأنها العون السريع تقدمه يد الضعفاء الكثيرين غير المنظورة التي تمتد لتمنع عن الضعيف الواحد الذي انهار خط أمنه الأذى الغاشم الذي لا قبل له به. ثلاثون ألف يد غير منظورة امتدت لتساعده، ولكن كيف تستطيع أيد غير منظورة حتى لو كانت تعد بالملايين وملايين الملايين أن تمنع القدر الغاشم أن يقوم بعمله؛ فعلى أثر الشهقة تماما؛ إذ الحدث لم يأخذ سوى الوقت الذي استغرقته الشهقة، كان الثور قد وصل إليه، وبغل أسود مجنون، وباندفاعه الأهوج الأعظم، نفذت قرونه من خلال صدر الشاب المزركش إلى رمال الأرض. وكانت الطعنة الأولى التي تبيناها؛ إذ على أثرها تداخلت الأحداث والأشياء والأزمان، تأوه أناس وكأنما هم الذين أصيبوا بالطعنة، وأشاحت سيدات بوجوههن وشاركن الرجال، وسقطت قلوب ودقت أرجل وأغمي على كبار. والخوف الأكبر، الخوف الذي كان يرهبه الجميع منذ أول لحظة، ذلك العقاب القابع في مكان خفي من «الأرينا»، ثمة إحساس جامح شامل أنه أخيرا وقع، أخيرا انقض وبمخالبه العزرائيلية يضرب ويطعن ويقتل أعز مخلوق. ألف ألف انفعال يجمعها كلها شعور عارم جارف واحد أنه ضاع وانتهى، كأنما القوة الغاشمة قد اخترقت خطوط أمنهم هم الآخرين أجمعين، ولم يعودوا يملكون سوى شلل الحسرة وانفعالات الجامدين. وكيف كان باستطاعة أي منهم - باستطاعتي أنا - أن يشيح بوجهه أو يهرب من مواجهة المصير؟ ومن أين كانت تواتيني الشجاعة أن أغمض عيني عما يحدث؟ إنها المأساة، مأساتي في صاحبي، صاحب اللحظة الذي بدا لي فجأة وكأنه صاحب العمر. من أول دقيقة والهاتف اللعين في خاطري يؤكد لي أنه في هذه المرة لن يفلت، وأناضله بجنون في انتظار معجزة المعجزات، ولكني بدلا منها أرى الطعنات، أرى رأس الثور يرتفع كمقبض الخنجر، ثم يهوي ليغيب نصلا القرنين فيما كنت أعتقد أنه الأرض أحيانا، وفي ملابسه أحيانا أخرى، ليثبت لي بعد هذا بكثير أنها كلها كانت في جسده، في صدره وبطنه وجذر عنقه وتحت إبطه.
وماذا أقول؟ أأقول إن كل هذا لم يستغرق زمنا ما وكأنه عاصفة هول هبت فجأة ودارت دورة سريعة ثم اختفت، دورة أسرع من أن يلحقها الميتادورات السبعة بعباءاتهم والقدر بمعجزة من معجزاته، بل أسرع حتى من أن أتبين، مع أني كنت قد تحولت بكلي إلى عينين جاحظتين، على وجه التقريب كنه ما حدث؟ كان في رأسي من أول ومضة للأزمة طبل حزين كبير مجلل بالسواد مضى يدق في سرعة تشجب قدسية الحزن. إنه الثور هذه المرة، القوة الغاشمة الجاهلة الحمقاء هي التي تفتك، والضحية هي الكائن الإنسان الراقي الشاعر المرهف الراقد تحت رحمة الوحش الذي لا يرحم. كم بدا لي البطل ضعيفا في تلك اللحظة، طفلا، ضنى عزيزا! كم غلت في عروقي دماء أعمق وأقوى القرابات، قرابة الإنسان البشري للإنسان البشري تلك التي تدفعنا بلا وعي أو إرادة لنجدة المأزوم إذا استغاث وحتى إذا لم يستغث! لم يكن ما كنت أحسه من هلع ليختلف كثيرا لو أن المطعون كان ابني أو أخي أو أبي؛ فقد كنت في أقصى درجات الهلع وأقصى درجات الغضب وبآخر ما أستطيعه من حزن كنت أضيق، وبأقوى ما أستطيعه من هلع كنت أحقد على عدو الميتادور وعدوي وعدو كل من في الساحة وعدو البشر، القوة القاهرة العمياء الغاشمة - أية قوة عمياء غاشمة - وليس عليها هي بالذات، ولكن عليها حين نراها أقوى بكثير منا وأقدر، حين نراها في انتصار عارم ملموس ونحن في هزيمة ساحقة باردة واقعة.
وأبعدوا الثور عنه، إلى أين؟ لم ير أحد. كانت العيون كلها هناك منصبة فوق رقدته التي لم تطل، فما لبث أن أقبل زميلان له ودون أن يرفعاه وقف ومعه وقفت أرواحنا وأنفاسنا ودقات القلوب. أيكون ما رأيناه خداع بصر؟ ها هو ذا أمامنا وبعد كل تلك الطعنات يقف دون مساعدة من أحد. لا بد أنها لم تصبه، لا بد أنها جاءت عشواء وحادت عن الهدف، ولكنها آمال أيضا لم تطل؛ فقد حدث شيء؛ إذ وكأنما كان قد استنفد كل ما لديه من حلاوة الروح، انثنى فجأة برقبته وهو واقف على صدره، ووضع يده على ثديه الأيمن، وقبل أن يتهاوى كان زميلاه قد رفعاه فيما بينهما وبسرعة مضيا يعبران به الساحة تحت خيمة سكون مذهل مرعب.
وحين اقترب الموكب منا لمحت بقعة الدم في نفس المكان الذي وضع فيه يده على صدره، وجف ريقي وأحسست أن قلبي قد انتقل إلى رأسي ومضى ينبض في حيزها المحدود بقوة تسحق العقل.
وأدخلوه من باب يفتح على الساحة ومكتوب عليها «المستشفى »، ولم يمنعني ما كنت فيه من أن أدرك أني لم ألحظ وجود هذا الباب ووجود المستشفى نفسه قبلا.
ورغم ما كنت فيه أيضا وجدتني ألتفت فجأة إلى يساري حيث الفتاة الكوبية، وأكثر ما أدهشني أني وجدتها لا تزال في مكانها. كنت أتوقع أن أجدها قد قفزت الحاجز وسبقته إلى باب المستشفى، ولكنها كانت هناك لا تزال منكفئة على حديد «الدرابزين» مخفية وجهها ممسكة الحديد بقوة أذهبت الدماء من يديها حتى بدتا شاحبتين كأيدي الموتى.
ولم يدم السكون طويلا؛ فما لبثت الهمسات الملحة أن بدأت تسري وتتساءل عن مصيره وعن مدى ونوع جروحه بلا إجابات تشفي غليلا؛ إذ باب المستشفى كان قد أغلق عليه وحده ومعه الممرض والطبيب، ولم يسمح لأحد بالدخول أو حتى مجرد الاستفسار.
ومرت بضع لحظات لا زلت لا أدري ماذا كان يدور بخاطري فيها، كل ما أستطيع أن أؤكده أني كنت تائها مذهولا، ذلك النوع العميق المستمر من الذهول، مفجوعا، وكأني المفجوع الوحيد، أو كان فجيعتي أكبر من فجيعة الآلاف الثلاثين مجتمعة.
لماذا؟ لم أكن أعرف أو أدري! كان إشفاقي على نفسي من ثقل ما أحمله من هم يدفعني لمحاولة التخفيف عنها بقولي إنه لم يصب إلا بجروح ومن المحتمل جدا أن يشفى، ثم حتى لو كان قد مات فماذا يحملك على هذه الجنازة الحالكة السواد التي أقمتها داخلك والتي تهدد بقبض روحك؟
ولم تكن أقوال كهذه تدفع إلا لمزيد من الفجيعة والحزن.
غير أنه على سطح كل هذا كان يطفو إحساس آخر بالانبهار. الحقيقة أني رغم كل ما قلت وأعدت كانت جدية المصارعة وما فيها من بطولة لا تزال عندي موضع شك، وإن كان بمضي الوقت كان يضعف، إلا أنه أبدا لم ينعدم. لم ينعدم إلا في تلك اللحظة التي أدخلوه فيها المستشفى مشبعا بالطعنات ودوائر الدم الناضحة من ملابسه الأنيقة تتسع وتتسع، ذلك الفتى الشهم الرقيق الذي كان يلف ويدور في «الأرينا» ممتلئا بالحياة والقوة والصحة. لحظتها أدركت أن رسمه، ورسمهم جميعا لعلامة الصليب قبل دخولهم الساحة أبدا ليس من قبيل التدين أو الفأل الحسن. لحظتها أدركت سر الصفرة المتعاظمة التي كانت تكسو وجهه ووجوههم جميعا طول الوقت. إنهم كانوا أدرى الناس بما يختفي وراء كل تلك «الأوليهات» والتهليلات والحشود من السياح والإسبان والملابس المزركشة والتقاليد العتيدة؛ إذ هناك يختفي الموت وعلى أبشع صورة ... الموت بالإرادة، الموت بالحظ، الموت لأقل هفوة، الموت حتى ولو لم ترتكب هفوة.
وانبهاري كان سببه أني أدركت متأخرا ومفجوعا مخنوق الأنفاس بالحزن أنهم أبطال، وأن صديقي هذا الذي اخترته من أول لحظة بطل. ليست البطولة التي تستدعي التصفيق والتهليل، ولكنها البطولة التي تدفع للبكاء والدموع واحتقار النفس لما يمكن أن يكون مترسبا فيها من خوف الموت. ها هم كما رأيناهم، ها هو كما رأيناه، كان يدري بالخطر الأكبر الكامن ليس في هذا اليوم بالذات، ولكن في كل يوم، في كل مرة يطأ رمل الدائرة بقدمه، في كل حياته، ومع هذا لا يتراجع، ويقدم، ويلف ويدور ويواجهه حتى يسقط، سقطة حقيقية، سقطة في بحر من دمه.
كانت المصارعة والغربة واليوم والدنيا كلها قد انتهت تماما بالنسبة إلي. كل حماسي ورغبتي وقدرتي، حتى أن أفتح العين وأنظر وأعقل قد انتهت. كنت أحيا بجماع نفسي هناك على باب المستشفى داخل تلك الحجرة ذات الباب المنخفض التي نقلوه إليها. هل لا زال يتنفس؟ هل بدأ النزيف الداخلي؟ هل مات؟
وكذلك كان الجميع إنصافا للحق، كنا جميعا هكذا وكأن الخيوط التي كانت تربطنا به قد قويت فجأة وتماسكت حتى جذبت منا كل الوعي والانتباه، والصمت أيضا كان لا يزال هناك، والهمسات تخرج خافتة وتحدث خافتة.
ولكني لم أتوقع ما حدث.
وازداد ذهولي عمقا وأنا ألمح الأنظار قد بدأت تتجه شيئا فشيئا إلى الثور الذي كان هناك لا يزال واقفا، عليه ينصب حقد ستين ألف عين.
والسؤال المسيطر هو ماذا يمكن أن يحدث؟
وما حدث هو نفس ما يحدث في كل مرة؛ فليست تلك أول مرة يسقط فيها ميتادور، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة.
كان لا بد أن تستمر المصارعة.
واعتقدت تماما أنها ستستمر بلا جمهور؛ فالجمهور كان منصرفا عن الساحة واهتمامه كله قد تركز على الباب المنخفض المغلق، وبقلبه إذ هو لا يستطيع ببصره كان يتابع لاهث الأنفاس ذلك الصراع الآخر الذي لا بد يدور في تلك الدقائق داخل الحجرة، لا بين المصارع والثور، ولكن بينه وبين ما هو أقوى وأبشع وأكثر وحشية من كل ثيران الدنيا مجتمعة.
الفصل الرابع عشر
في تلك اللحظات، وبخطوات لا حماس فيها، وبرعب، تقدم مصارع آخر، ذلك الذي فشل في قتل ثوره الأول الذي كانوا يسمونه البرتغالي. تقدم من الثور ومعه العباءة والسيف وقبل أن يتوسط الساحة كان الأخير قد انطلق نحوه مهاجما.
ومع أني ظللت مشدودا بكلي إلى الصراع الأكبر داخل حجرة المستشفى، إلا أنه رغما عني وبحكم وجودي وسط تلك الكتلة الحية الضخمة التي تكون جماهير «الأرينا» وجدت نفسي أتابع بإهمال شديد وبلا حماس، لا ما يدور في الدائرة الرملية ولكن ما يحدث للجماهير؛ إذ كان ما يحدث شيئا لم أستطع تصديقه ولا استطاع عقلي إلى الآن هضمه واستيعابه، بالتأكيد هم لم يولوا المحاورة الدائرة في الساحة أول الأمر اهتماما يذكر، ولكن بعد دقائق قليلة كان قد بدأ اهتمام، وبعد دقائق أقل كان الاهتمام قد استحوذ على عقولهم تماما، ولم تكد تمضي خمس دقائق حتى تصاعدت أول «أوليه». كدت أقف صارخا محتجا لاعنا هذا الجمهور الجاحد مطالبا إياه بالعودة لتركيز إرادته وهلعه وانتباهه مرة أخرى إلى الشاب الراقد في الداخل يصارع الموت من أجلهم، ولكن حتى لو كنت قد وقفت وصرخت ومزقت نفسي لما كان لما أفعله أثر، لكأني كنت أريد أن أقف بجسدي لأمنع ماء البحر من التدفق، أو لأوقف موجه العاتي، لأرغمه أن يهدأ حدادا على سفينتي الغارقة. إن السكون حدادا معناه الموت، والحياة والبحر والموج لا بد أن تستمر؛ ولهذا كان لا بد أيضا أن تستمر المصارعة وتستمر الصيحات تتعالى، ويستمر الصراع يمتص انتباههم؛ فقد كانوا هم الآخرون لا يزالون أحياء. صحيح كان الحقد الهائل لا يزال ينصب على الثور، وصحيح كان جزء كبير من المتابعة هدفه أن يشهد كل منهم في النهاية بعينيه مصرع ذلك الذي صرع بطله وحبيبه، ولكن هذا لم يمنع أنه في سبيل تلك المتابعة نسي تماما بطله وحبيبه.
ومع أني كنت أتابع فقط بحكم الوجود والعدوى وبلا إرادة، إلا أن ما استرعى انتباهي حقيقة هو الرعب العظيم الذي كان مسيطرا على «البرتغالي»، والحقد العظيم أيضا. كانت عملية أخذ بالثأر أكثر منها مصارعة. كان ثمة دم قد سال ولم تعد المسألة رياضة أو إثارة. هكذا في النهاية انكشفت اللعبة على حقيقتها العارية المجردة، وأصبحت عملية قتل، إما قاتل أو مقتول، هكذا بلا مواربة أو إخفاء للنوايا أو استعراض.
ومات الثور في النهاية. مات دون طعنة واحدة أصابته من البرتغالي. فجأة توقف عن جريه هنيهة ما لبث بعدها أن سقط كتلة واحدة على جانبه رافعا ساقيه في الهواء، لافظا أنفاسه لا بد بتأثير الطعنة التي كالها له الميتادور الأول، والتي كانت السبب في هياجه ومصرعه.
وبقلب مفعم بالمرارة والدهشة رحت أتابع عودة الاهتمام بالبطل الصريع في فترة الاستراحة، والمحاولات الكثيرة التي بذلت لمعرفة مدى إصابته. وتلفت، كانت الفتاة قد اختفت ولم أستطع أن أقطع إن كانت قد مرت أمامي في طريقها للخروج، ولكني أحسست لاختفائها بنوع من عرفان الجميل؛ فعلى الأقل في وسط الجمهور المتوحش الحاشد ها أنا ذا أعثر على إنسانة.
ولم تسفر محاولات الاستفسار عن جديد. كان جميع الواقفين أمام الباب المنخفض يكتفون بهز الرءوس وزم الأفواه في صمت مبيت حزين.
وحين بدأ الدور الثاني وانتهت الاستراحة، خيل إلي من الأصوات الكثيرة التي بدأت تتصاعد من «الأرينا» والزعيق والتحفز الذي قوبل به دخول الثور أن الحادث قد خفت حدته كثيرا، وأن بعضهم لا بد قد نسيه، وآخرين لا بد قد أرغموا أنفسهم على نسيانه؛ ربما لكيلا تفسد ذكراه تمتعهم الكثير المقبل، غير أني كنت على يقين أنهم إنما يفعلون هذا بقشرة وعيهم الممتدة فوق السطح، أما من الداخل فهم أبدا لم ينسوا ولن ينسوا.
وابتدأ الشوط وانتهى، وكذلك بدأ الثالث، وفي لحظة خيل إلي أن أحدا من الجمهور لم يعد يذكر الشاب الصريع؛ فمن أعماقهم كانوا يتابعون الأشواط، وبكل ذرة من كيانهم أصبحوا يلوحون ويهتفون، وكذلك قل إلى درجة الانعدام الكامل عدد الواقفين أمام الباب المنخفض.
وبمصرع الثور الثالث وبلا أحداث أخرى انتهت الفييستا، وبدأ الناس، أقلية قليلة تتسابق للخروج، والأغلبية تتلكأ وقد عاد الحديث عن الميتادور الصريع، وكله بالطبع أسف وحسرة وتذكر لمواقفه وشجاعاته.
وعند الباب العاشر، أقرب باب إلى حجرة المستشفى، تجمع جمهور حوالي الخمسمائة أو أكثر قليلا يهدفون أن يروا الميتادور حين تقبل عربة الموتى وتنقله؛ فإلى تلك اللحظة لم يكن الباب قد فتح ولا تسرب عنه خبر.
وأخيرا فيما يشبه الموجة انتشر بين الواقفين خبر؛ إذ كان الباب قد فتح وأطل منه رأس. الخبر كان أنه لا يزال حيا وإن كان يعاني من صدمة شديدة، وإن كان قد أصيب بسبعة جروح وكسر وتهتك. وما كاد الخبر ينتشر حتى كان قد انصرف لسماعه نصف الواقفين، وبدأ الازدحام يخف ولم يصبح ثمة واجب كثير أمام عساكر البوليس الإسباني الخيالة الذين كانوا يتولون المحافظة على النظام.
وما كادت ربع ساعة أخرى تنقضي حتى كان قد انصرف أغلب الواقفين، ولم يعد سوى بعض المتسكعين وبعض من لا عمل وراءهم أهم من مشاهدة خروجه.
وهنا وفي تلك اللحظة فقط لمحت الفتاة الكوبية واقفة بجوار أحد العمدان وبصرها مسدد إلى الباب، وهي دائبة النظر إلى ساعتها.
ودون أن أفكر كثيرا ذهبت إلى حيث تقف، وبلهفة قابلتني أنا الذي خفت أن تشيح بوجهها عني وسألتني وذكرت لها ما سمعت، ولم يزد ما ذكرته أو يقلل من لهفتها وتطلعها واضطرابها.
وفي الدقيقة التي مضت على وقوفي معها رأيتها تتطلع مرتين إلى الساعة.
وحتى قبل أن أسألها أجابتني أنها للحظ السيئ لا بد أن تسافر الليلة إلى لشبونة وأن طائرتها ستغادر المطار في الثامنة، وأنها لا بد أن تذهب قبل هذا لفندقها والساعة كانت السابعة إلا ربعا . كانت حالتها تدعو للرثاء حقا، تمد رأسها إلى آخر ما تستطيع ناحية الباب العاشر، ثم ترتد إلى باب المستشفى ومنه إلى الساعة، ثم إلى السيجارة تمتص دخانها بقوة وكمد وشراهة.
واندفعت مرة مسرعة إلى باب الخروج، ولكنها بعد بضع خطوات توقفت وعادت إلى حيث كانت واستجمعت يدها ودقت العمود بقبضتها دقة رن لها خاتمها رنينا مكتوما وسقط فصه. وبضيق أشد تناولته وقذفته بقوة داخل حقيبة يدها.
وتمنيت أن تبكي ولكنها لم تفعل، وحينئذ قلت لها لماذا لا تذهب وتلحق بطائرتها؟ وهنا وفي ضوء الشمس المتبقية من العصر لمحت عينيها تحمران - فقط كان احمرارا - واختنق صوتها وهي تقول: من تظنني؟
وآثرت أن أسكت.
وظهرت عربة الإسعاف عند الباب، وجذبت من صدرها نفسا عميقا وألقت بسيجارتها. وعلى أطراف أصابعها شبت لتستطيع أن ترى عبر الرءوس الكثيرة التي تجمعت لا تدري من أين. وقفت لتشهد عملية نقله إلى العربة.
غير أنه لا هي ولا أحد من أصحاب الرءوس وصاحباتها أتيح له أن يشهد شيئا؛ فقد فتح باب حجرة المستشفى ودخلت العربة إلى منتصفها، وظلت عشر دقائق على وضعها ذاك، ثم مضت مغبشة الزجاج لا يرى خلاله أحد شيئا.
ولا أعرف إن كانت الغمغمة التي وصلتني وهي تندفع خارجة في أعقاب العربة كلمة وداع.
ولكنها في لمح البصر قد اختفت.
وبخطوات مثقلة وكأنما بحديد مضيت إلى الخارج. وكنت أحسب المصارعين أناسا يحيون بين العربات الفاخرة والسهرات والفيللات؛ فقد فجعت حقيقة وأنا أرى بعد عربة الإسعاف بدقائق سيارتين من سيارات التاكسي قد وقفتا أمام الباب وشحن فيها المصارعون وصبيانهم كل ستة في عربة، واعتقدت أنهم ذاهبون لا بد إلى المستشفى، وخطر لي أن أستقل عربة وأتبعهم لأعرف أي مستشفى هو، لكن الفكرة بدت لي في لحظتها شاذة وغير معقولة.
وأنا في الطريق من الحلبة إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى وسط المدينة وجدتني وجها لوجه أمام عوض، كنت قد تركته في المغرب وها هي الصدف المحضة تجمعنا في مدريد.
ولو كنت قد قابلته في فرصة أخرى لفرحت للقائه كما لم أفرح في سفرتي كلها؛ فليس أحب إلى قلب الإنسان من أن يصادف صديقا في غربة، فما بالك إذا كان الصديق عوض أخف أهل الأرض دما وأكثرهم مرحا وتفتحا للحياة واستمتاعا بها. إذا غصت معه إلى الأعماق غاص معك وإن شئت أن تعبث وتطفو إلى السطح سبقك.
سألني عما بي وقد رآني واجما، ولكني لم أستطع إجابته فالحقيقة لم أكن أعرف.
وابتلعتنا مدريد الهائلة بشوارعها وأناسها وسياحها وأمسيتها تلك وليلتها. ولم أستطع أبدا أن أنسى، بل كان يحز في نفسي أن كل هؤلاء الناس لا يذكرون أن عوض مرح، وأنه يعتبر مصارعة الثيران عملا وحشيا لا يليق بعالم اليوم، عالم القرن الحادي والعشرين.
وافترقنا في الثانية صباحا على موعد أن ألقاه في الصباح.
وحين أصبحت وحدي في الحجرة الضيقة التي عثرت عليها في ازدحام فنادق مدريد بمثل ما تعثر على الإبرة في كومة القش، حجرة مليئة بصور القديسين، وهناك صورة كبيرة نوعا للعذراء أسفلها مصباح كهربائي، ولكن بلاتينه الداخلي يضيء بنور أحمر خافت على هيئة صليب، جعل حركة رسم الصليب قبل الدخول إلى الساحة تعود تدق على ذاكرتي وتدق. حين احتوتني الحجرة شعرت برغبة في البكاء، رغبة لا علاقة لها البتة بحادث اليوم، ولكنها مجرد شجن خاص وضيق. ولكنني استسخفت الرغبة، بل استسخفت المسألة كلها. ما هذا الجنون؟ ولماذا أحمل وحدي تلك الجنازة السوداء الخانقة في صدري؟ وهل أنا مسئول عن أرواح الناس وما يحدث لهم؟ وماذا كان باستطاعتي أن أفعل ولم أفعله لأوقف الكارثة؟
إن ما حدث قد حدث، وإذا كان الناس قد نسوه وتفرقوا بعد الاحتفال إلى لهوهم وحياتهم، بينما مضت به وحده عربة الإسعاف بين الموت والحياة إلى المستشفى؛ فتلك هي لا بد سنة الناس هنا، بل هي سنة الحياة! فليس مفروضا أن تتوقف لأن أحدهم مات أو أصيب ولو كان الميت بطلا.
خواطر وردود على الخواطر كنت أقولها لنفسي محاولا أن أبعد شبح ما حدث عن تفكيري، محاولا أن أبعد هذا الإنسان النحيف الرقيق عن وعيي بلا جدوى، كانت الصور تعود وتصر على العودة كنتف متفرقة من فيلم طازج لا تزال عالقة به أملاح التحميض، ونمت.
وفي الصباح صحوت، وكان أول ما فعلته بعد تناول الشاي في المقهى القريب أني اشتريت الجرائد ورحت أقلب صفحات أولاها إلى أن وصلت إلى ما خيل إلي أنه صفحة الرياضة، وأنا لا أعرف الإسبانية، ولكني من جذورها المشتركة مع الإنجليزية والفرنسية استطعت التعرف على الخبر. كان في ركن من الصفحة بعنوان على ثلاثة أعمدة ولم أجد فيه ذكرا لكلمة الموت.
وفي جريدة ثانية كان الخبر منشورا على عمود في الصفحة الأولى ومعه صورة، ومرة أخرى عاودتني خيبة الأمل. كنت أتوقع أن أصحو فأجد الخبر قد عم المدينة، ولا حديث للناس والجرائد إلا عنه، وها هم أناس يزدحم بهم المقهى يتناولون إفطارهم في صمت جاهل وقور.
«الفصل الأخير»
غادرت المكان تاركا الجرائد ما عدا إحداها، تلك التي ذكرت عنوان المستشفى الذي يرقد فيه، ومضيت أسير في الشوارع بلا هدف وقد قررت أن أخلف موعدي مع عوض.
كانت الشوارع مزدحمة بأناس كثيرين أيضا؛ آلاف الناس الصغار الكثيرين ماضين مكهربين مكربجين إلى أعمالهم دون كلمة واحدة عما حدث بالأمس وعن الميتادور الصريع.
وفجأة قررت أن أذهب إلى المستشفى، ورمقني سائق التاكسي بنظرة مستطلعة وأنا أشير إليه دون أن أنطق إلى العنوان المكتوب في الجريدة وقد وضعت تحته خطا، وفي الطريق قال كلاما كثيرا بالإسبانية ممزوجا ببعض كلمات إنجليزية - لا بد علمه إياها التعامل مع الأمريكان - كلاما فهمت منه أنه يعلق على ما حدث للميتادور ويريد رأيي، واكتفيت بهز رأسي، وحين يئس غمغم ببضع كلمات خمنت أنها لا بد سباب.
وزعمت لبواب المستشفى أني طبيب مصري وأني أريد مقابلة أستاذ الجراحة، وفي قسم الجراحة سألت الراهبة بالإشارة عن المكان الذي يرقد فيه الميتادور، وأشارت إلى ممر جانبي كانت تقف في نهايته مجموعة قليلة من الرجال بينهم سيدة عجوز وصبي لا يتعدى العاشرة، وحولهم وقريبا منهم كانت تتناثر بضع باقات ، واقتربت. كانت رءوسهم منخفضة، ولكن اقترابي دفع بعضها إلى الارتفاع.
كانت الحجرة مغلقة وعلى أكرتها لافتة معلقة لا بد كانت أمرا بمنع الزيارة.
ووقفت قريبا من المجموعة ذات العيون المستطلعة صامتا مثلهم، منكس الرأس خجلا؛ ففي لحظتها كنت قد أفقت على سؤال: ماذا أتى بي إلى هذا المكان؟ ومن أنا بالنسبة للجريح الراقد في الداخل؟ أو حتى بالنسبة إلى هؤلاء الناس؟
وفتح باب الحجرة وخرج طبيب سرت بجواره بضع خطوات، وحييته، وأسعدني أنه يعرف الإنجليزية، وزعمت له هذه المرة أني صحفي عربي، وأني أريد أن أبرق بالخبر إلى جريدتي، وسألته عن حالة المصارع، فقال:
Grave . - Internal hoemorrhage? - Two, one in the chest and another in the abdomen. - External ones too. - Prognosis nil then. - Scientifically yes ... unless. - Unless what? - Something happens, you know, a miracle for example!
وتوقفت عن السير، وتابع الطبيب طريقه.
وتحرك واحد من المجموعة الواقفة كان أكبرهم سنا ولكنه أكثرهم صحة، حياني بالإسبانية، وهززت رأسي، وبمزيج من الإنجليزية والفرنسية والإيطالية قدم إلي نفسه. كان المحرر الرياضي لجريدة لم أهتم بمعرفة اسمها، وكانت رائحة البراندي الإسباني تفوح منه، وسألني عما قاله الطبيب وأخبرته بالحقيقة. إنه يعاني من نزيف داخلي وخارجي في الصدر والبطن معا، وإنه علميا لا يمكن أن يعيش، ولم تبق على حد تعبير الطبيب سوى المعجزة.
قال بازدراء غريب: ومن أين تأتي المعجزة؟
قلت: من السماء.
ورفع بصره إلى السقف وثبته هناك بعض الوقت، ثم عاد يواجهني وقال: قبل أن أعمل محررا كنت مصارع ثيران، وتحدثوا في العلم والمعجزات كما يحلو لكم، ولكنه لحظة أن سقط أمامي في الساحة وشلته السقطة عن أن يحرك يدا أو ساقا أمام الثور المقبل عرفت أنه انتهى ومات.
وكانت باقات أخرى من الزهور قد بدأت تفد فاستطرد: زهور وزهور وزهور. كفنوه بالزهور. دعوا الزهور تصنع المعجزة التي ينتظرها الأطباء. من أي بلد أنت يا سنيور؟ أنا لا يهمني من أي بلد أنت، ولكني أريدك أن تكون شاهدا على المأساة. أنا لا أستطيع أن أكتب هذا في جريدتي وإلا فصلت، وأنا في حاجة إلى العمل لآكل، وأنا قد جربت الجوع. أنا نشأت في ملجأ أيتام الفرنسيسكان وأعرف ما هو الجوع. أنا مصارع قديم، بطل ! إسبانيا كلها والمكسيك والبرتغال كانت تهتف جميعها لي، ولكنني أخيرا اكتشفت المهزلة، كذب كذب كذب كل ما تقرؤه عن التقاليد الإسبانية في الفروسية وشجاعتهم التي خلقت مصارعة الثيران. ليس هناك شعب أشجع من شعب. قل لي إني شارب ومخمور ونحن الآن في .. كم الساعة الآن؟ التاسعة. اذكر كل ما تراه هنا ولا تنسه فأنت الشاهد، شاهدي. لقد كنت أحب هذا الولد أنطونيو، كان ابني الذي لم أخلفه، وكنت أعرف أنه سيموت. إن الكثرة منهم تعيش، ولكن الشجاع الحق هو الذي يموت، وفي كل عام نفقد عددا من الشجعان، أتعرف لماذا نفقدهم؟ إنها لعبة كبيرة جدا، لعبة عالمية ما تراه في الساحة هو الفصل الأخير فقط منها. وإذا لم تصدقني فتصور إسبانيا بلا مصارعة ثيران. من المجنون الذي يأتيها؟ إن إحصاءاتنا الرسمية تقول إن بلادنا تستقبل في الصيف موسم المصارعة ربع مليون سائح يوميا أو ربما خمسين ألفا، لا أذكر الرقم. لعنة الله على الأرقام! كذا ألف ينفقون كذا مليون دولار. ألغ المصارعة تلغ الدولارات. أقم حفلات المصارعة واستحضر ثيرانا متوحشة واجعلها تنفرد بالرجال، ماذا يحدث؟ الرجال يقتلون الثيران.
ولكن لا بد أن تقتل الثيران بعض الرجال، وبغير أن تقتل الثيران بعض الرجال فلا لذة في المصارعة ولا متعة. أتصدق أن هؤلاء الناس الذين يجيئون من كل مكان إلى «الأرينا» يأتون لكي يروا الرجل ذا السيف يقتل الثور الأعزل؟ إنها كذبة كذبة. إنهم يأتون على أمل أن يقتل الثور المتوحش الرجل ذا السيف، وحبذا لو حدث القتل أمامهم. إنهم لا يجاهرون برغبة كهذه لأنها تبدو شاذة كريهة غير لائقة بالرجل المتحضر، ولكنها وأقسم لك الرغبة الكامنة في صدورهم. عرهم من ملابسهم ونفاقهم وتظاهرهم لتجدها ملتوية على نفسها كالثعبان هناك، نحن نعرف هذا وأصحاب الفنادق يعرفون هذا، وشركة كوك تعرف هذا، ومصلحة السياحة عندنا تعرف هذا، والبنوك والحكومة والدولة والكنيسة تعرف هذا، كلها تعرف أن كذا رجل سيقتلون في هذا الموسم كذا ثور، وأن كذا ثور ستقتل على وجه التقريب كذا رجل . ولا أحد أبدا يفعل شيئا لمنع هذا القتل، بالعكس إنها كلها تتعاون وتتسابق لكي يتم القتل على أكمل صورة. الحكومة تصنع الدعاية في الخارج وتدعو الناس من جميع أنحاء الأرض كي يحضروا إلى إسبانيا لرؤية المصارعة؛ أي لحضور القتل، وشركة طيراننا تنقلهم، وأصحاب فنادقنا يصنعون كل ما في وسعهم لراحة المدعوين، وشركات السياحة تهيئ لهم بجوار المشاهدة نزهات ونزوات، والبلدية تقيم «الأرينا» وتؤجر المقاعد. والكل سعيد، السياح ينفقون بسعادة، ونحن نقبض بسعادة، والتفرج على المصارعة متعة العمر، وماذا يهم بعد هذا إذا كانت تلك السعادة كلها مقابل أرواح خمسة أو عشرة أو عشرين رجلا كل عام؟ وخاصة ونحن إذا مات أحدهم، أو أصيب بالعجز الكامل هللنا له وضججنا وتوجناه بطلا وعاملناه معاملة لا يحظى بها شهيد الواجب والجندي في الميدان. أنا لا أعرف من أين أنت قادم ولا يهمني أن أعرف، ولكني أرجوك أن تكون الشاهد، شاهدي، وأن تنظر إلى ما وراء هذا الباب، فلو كان الأمر بيدي لوضعت على الحجرة أو على قبره لافتة مكتوبا عليها بالخط الكبير: هنا يرقد شهيد مصلحة السياحة الذي قضى وهو يؤدي الواجب المقدس، واجب تكديس النقود في أيدي شركات الطيران ومديري الفنادق وأعضاء المجلس البلدي والمؤسسات ومساهمي البنوك وأصحاب الكاباريهات وشركات السفر والسياحة. أنت لا تصدق. إذا شعرت أني أكذب وأبالغ فحدق في هذه الباقات من الزهور واقرأ. أليس هذا كارت لويجي كاستيللو نائب ومدير بنك سبيلا؟ أوليست هذه باقة اتحاد أصحاب سيارات التاكسي؟ إنها أكبر من هذا. لا بد أيضا أن تكتب: هنا يرقد شهيد المؤامرة العالمية لإلصاق مؤهلات ومميزات بطولية خاصة للشعب الإسباني، تمهيدا لتقبل الرأي العام المتمدين فكرة المصارعة بين الرجال والثيران، كمقدمة لا بد منها أيضا لكي يتقبل ذلك الرأي العام نفسه فكرة أن يسمح في عصرنا هذا لثور متوحش أن يصرع إنسانا ويمزقه بطريقة قانونية جدا وبطولية جدا وممتعة جدا، جدا جدا.
لقد انفردت طويلا بالكلام مع أني لا أريد الكلام، أريد البكاء! ولكني في حاجة لمعجزة كي أستطيع؛ فقد تعلمت ألا أبكي؛ ولهذا أسكر، ولهذا أنا سكران وأريد أن أسكر أكثر، أريد أن أبكي على هيئة أن أشرب؛ فأنطونيو كان أعزهم، لقد رأيته وسنه خمسة عشر عاما، وكان صغيرا ومن أول لحظة عاملته كابني، ولكنهم اختاروه هذه المرة ليقتلوه.
لقد قرأت لا أذكر متى ولا أين ولا يهمني أن أذكر، أن في مصر عادة قديمة، أنهم في كل عام يختارون أجمل فتاة لديهم لتلقي بنفسها في نهرهم النيل ليكثر ماؤه ويفيض، ولكن قرون الثور فظيعة فظيعة! أنت لم تجربها، لم يصبك الرعب، ما هو أكثر من الرعب، تفكك العقل، وتشتت أجزائه هلعا، لا من الطعنة في حد ذاتها ولكن من الفكرة، من الموقف، من الوحش الغاشم ذي العيون الواسعة البلهاء، وقرني الشيطان البارزين من رأسه، هنا في فخذي مسني الوحش فخرب ساقي، وهنا في صدري مسني الرعب منه فخرب روحي، لو أزحت ضلوعي يا صديقي لما وجدت وراءها شيئا. أنا إنسان مخرب وأنت شاهدي، أنت باستطاعتك في جريدتك أن تكتب، اكتبها، المؤامرة، واترك لي أنطونيو فأنت لم تعرفه، أنت لم تره وهو يداعب القطة ولا هو ينتحي ركنا معزولا من قاعة أي احتفال، ولا رأيت الخجل يعتريه حين يزلف لسانه وينطق الكلمة بلهجة تكشف عن أصله القروي المتواضع. أما أنا فأستطيع، سأفعلها مرة، وبدلا من الأخبار سأكتب مقالا، فقط يلزمني أن أكف ليلتها عن الشراب، قسما سأكف ليلتها عن الشراب من أجلك يا أنطونيو، وبحبي لك يا أنطونيو، وبحبي لك يا ابني الذي لم أخلفه ولم أتزوج أمه، قسما سأفيق ليلة وأقول الحقيقة كلها يا أنطونيو.
نامعلوم صفحہ