60

وأذكر أنني استحلفتها يوما إذا تنافس أمامها مرشح يمشي على قدميه إلى صندوق الانتخاب ومرشح آخر يصل إليه في سيارته «الرولز رويس»، فمن منهما يظفر بصوتها؟

فأسرعت والدتها تجيب عنها: «أنا أقول لك ولا حاجة بك إلى كلامها: صاحب السيارة ولا خلاف!»

فلما حمل الراية في هذا الخلاف رجل «من جنسي» كانت شماتتها أكبر من شماتة الغلبة في الرأي، وطفقت تستعيده إلى قضية المرأة تارة وإلى قضية الألم تارة أخرى كلما أوشكنا أن نفرغ منهما، فلما أردت أن أحسم هذا «النزاع» المدبر أخيرا وقلت للأستاذ: «إنني قد أرى معك أن الآلام أكثر من الأفراح في الحياة.» صفقت بيديها، وضحك «الزهاوي»، ولم أمهله حتى حسبت عليه هذا الضحك حجة تفند دعواه، فسألته: «ألعلك لا تنتصر كثيرا مثل هذا الانتصار؟»

ولسنا بصدد الإفاضة في هذه المسألة لبيان ما أعتقد في نصيب الحياة من اللذة والألم، ولكنني أوجز ما عنيت بكثرة الألم مع إنكار طبيعة الألم في الحياة؛ عنيت أن الحوائل دون الفرح قد تتكاثر وتتكرر، ولكنها لا تمنع أن طبيعة الحياة بغير حائل هي الفرح والرجاء. •••

ورأيت بقية النقائض في هذه «الشخصية» - التي لا تعرف التوافق بينها وبين نفسها - يوم زرته بمسكنه في حجرته المفروشة إلى جوار صحيفة الأهرام، فقد كان نصير السفور الأكبر يخاطب زوجته من وراء ستار كثيف يحجبها عن النظر ، ويكاد يحجب صوتها الخفيض لو لم نجتهد في الإصغاء إليه!

ولم أكد أفرغ من التحدث إليه في جملة عقائده حتى تحققت أنها وثبات كوثبات اللاعب الرياضي في ساعة واحدة: صعود وهبوط ثم هبوط وصعود، ثم عود إلى الصعود وعود إلى الهبوط، كأنما كان كل وقت من أوقاته نموذجا مختصرا لأدوار التطور في العمر كله، لولا أنها أدوار لا تتسلسل على اطراد.

وعلمت بسفره في اللحظة الأخيرة، فأسرعت إلى محطة العاصمة أودعه، وتمنيت أن أراه مرة أخرى في القاهرة فقال: «ذلك ما أرجوه، وأحب إلي أن أراك في بغداد.»

ثم تمت النقائض جميعا بعد سفره ببضعة أشهر، إذ سألني أحد قرائه في «تونس» عن رأيي في أدبه، فأبديت ذلك الرأي كما اعتقدته، وقلت إنه في بحوثه الفكرية أرجح منه في معانيه الشعرية.

وكان من الحق أن يغتبط نصير العقل على العاطفة بهذا الثناء الذي لا غنى فيه، من وجهة نظره، لو استقام على السواء في إيمانه بالعقل دون الشعور والخيال، ولكنه غضب مما كان خليقا أن يرضيه، وجاءني البريد من بغداد بخطاب عليه توقيع مستعار، يقول كاتبه: إن مجلة «لغة العرب» للأب «الكرملي» تنوي أن تتناول ديوانك بالنقد اللاذع في لفظه ومعناه، وإن «الزهاوي» صديق للكرملي في وسعه أن يثنيه عما ينتويه!

إن في هذه المناورة «البريئة» دلالة على طيبة في غضب الرجل أظرف وأطرف من طيبته في رضاه، وإنها - ولا ريب - لن تصدر من قلب يضمر الكيد، أو يكون له من الكيد حظ أوفر من حظ الطفل البريء!

نامعلوم صفحہ