وهنا موضع إيضاح لا غنى عنه في سياق هذه الفصول؛ فقد تقدم غير مرة أننا كنا ننكر السيادة العثمانية، ونكره أن يكون الاعتراف بها مبدأ من مبادئ الوطنية المصرية، فمن الواجب أن نلفت الأنظار هنا إلى الفارق بين كراهة الدولة العثمانية وكراهة سيادتها، وإنما كان استقلال مصر مطلوبا عندنا كاستقلال الدولة العثمانية، بل كان استقلال مصر مقدما بالطلب على استقلال الدولة إذا وجبت المقارنة بين المطلبين.
وأذكر في هذا السياق أنني كنت أعتقد أن تشبث الدولة العثمانية بسيادتها على الأمم الأخرى يضيع عليه جهودها في غير طائل، ويعرضها للمتاعب على غير جدوى.
ومن المصادفات العجيبة أن الرأي الذي أخذ به «مصطفى كمال» زعيم الترك العظيم بعد الحرب العالمية الأولى في سنة 1920، كان هو الرأي الذي دعوت إليه قبل ذلك بثماني سنوات، وهو اعتماد الدولة على بلادها الآسيوية، وإعفاء نفسها من المشكلات والجهود التي يسوقها إليها الاحتفاظ بالسيادة على أمم البلقان، فكتبت في مجلة «البيان» - سنة 1912 - مقالا بعنوان «مستقبل الدولة العثمانية» قلت فيه: «كذلك زلزلت الصدمة قلوب العثمانيين فيئسوا من الدنيا، كأن أوروبا هي كل الدنيا، ولو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوروبا، لحق لهم ألا يرجوا منها بعد الآن ثمرا، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوروبية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها، فلا تتحول أنظار محمد الفاتح البتة إلى القسطنطينية.»
وهذا رأينا القديم في مسألة السيادة العثمانية على الأمم الأجنبية، فأحرى به أن يكون هو رأينا الأقدم في مسألة السيادة على هذه البلاد.
لقد كنت أومن بهذه العقيدة وأنا أشد ما أكون غيرة على الدولة العثمانية واهتماما بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن أجل ذلك شغلت نفسي بقراءة مئات الصفحات في ذلك التاريخ وأنا لا أعدو الرابعة عشرة، ومن أجله كتبت ما كتبت عن مستقبلها؛ لأنه - على ما اعتقدت - هو المستقبل الوطيد الذي تستقر فيه على أساس المنعة والتقدم والسلام.
وجئت إلى القاهرة وأنا أسمع اسم «محمد فريد» الوطني المخلص، ولا أنسى اسم «محمد فريد» العالم المؤرخ!
ولقيته مرات في المجتمعات الكبيرة والمجتمعات الصغيرة، ولكني لم أتحدث إليه في مجلس خاص غير مرة واحدة.
وكان ذلك في مكتب صحيفة «الدستور».
كان هذا المكتب في منزل بدرب الجماميز إلى جوار ديوان المعارف العمومية.
وكان الدور الأرضي منه مخصصا للمطبعة، والدور الثاني على قسمين: أحدهما مسكن الأستاذ الجليل محمد فريد وجدي بك صاحب الدستور، والآخر مكتب التحرير والإدارة.
نامعلوم صفحہ