قشعريرة كالموت تزحف على جسمي، كأول مرة دخلت مشرحة كلية الطب ورأيت جسدا ميتا كأول مرة رأيت المومياء المحنطة في التابوت القديم.
وقلت: التحنيط علم عرفه قدماء المصريين منذ خمسة آلاف عام.
وقالت «فيرا»: كان «لينين» عظيما.
وقلت: نعم، ولكني أكره الوثنية وعبادة الأجساد المحنطة.
الفصل السادس
إيران قبل الثورة
كانت رحلتي الأولى لإيران (في نوفمبر 1968) رحلة علمية طبية، محصورة داخل جامعة طهران، أجلس وسط أعضاء المؤتمر الأطباء، أسماؤهم وألقابهم معلقة فوق صدورهم، أستمع إلى أوراق طويلة مكررة عن الصحة والمرض، ثم أخرج من الجامعة لتحملني عربة خاصة تسير بي في طريق واحد مستقيم يوصلني إلى حجرتي الصغيرة بالفندق. وهذه الحياة العلمية البحتة لا أطيقها خاصة وأنا خارج الوطن؛ فالعلم ليس هدفي الوحيد حين أسافر؛ فالعلم يمكن أن يحصل في الجامعات المصرية أو في المكتبات أو في بيت، وليس من الضروري أن يسافر الإنسان إلى بلد آخر ليقبع بين جدران جامعته ويتلقى العلم. أما المعرفة وهي شيء آخر غير العلم فتقتضي أول ما تقتضي الفرار من بين جدران الجامعات والمكتبات إلى الحياة والناس والشوارع، ومن هنا تكون للسفر أهمية كبيرة.
ورغم انحصار مهمتي داخل جامعة طهران ورغم إدراكي الشديد لانعدام الرغبة في كثرة الحركة والتنقل هنا وهناك، ورغم تلك المحاولات التي تحدث في كل بلد تقريبا، والتي تشد الأجانب والسياح شدا إلى الواجهة المطلية من البلد سواء كانت أحجارا أو أشخاصا تحجروا في الوضع الذي صنع لهم، يرددون صدى الأصوات كالقباب الأثرية الخاوية.
لم أكن أعرف تماما إلى أين أنا ذاهبة، لكني رأيت بناء كبيرا مواجها لهذا الجامع كتب على بابه بالفارسية: «دانشكدة أدبيات» ومعناها كلية الآداب، وقلت لنفسي: لعل هذا هو الباب إلى الأدب الفارسي، ودخلت وسألت عن أفضل أديب في إيران، فقالوا لي إنه عميد الكلية، فاشتريت كراسة جديدة وذهبت للقائه في مكتبه الفاخر، وجلست معه نصف ساعة لم أدون في الكراسة كلمة واحدة عن الأدب، ثم خرجت مسرعة من الباب الخلفي للجامعة، وبهذا تفاديت باب العربة الذي يتصيدني بعد انتهاء المحاضرات لأحمل كالوديعة الثمينة إلى الفندق.
كان المطر قد بدأ ينهمر فدخلت إلى مطعم صغير تفوح منه رائحة «الشيلو كباب»، وكانت الموائد مكتظة برجال ونساء أمامهم أطباق كبيرة كالصواني عليها أسياخ الكفتة المصنوعة من أصناف متعددة من البقول والخضر ولحم الخروف؛ فالخبز الإيراني الكبير كالفطير المشلتت والبصل واللفت الأحمر. وجلست إلى جوار مجموعة من الشباب يختلف عن الشباب الذي رأيته داخل الجامعة؛ فالملامح أكثر خشونة، والشعر مقصوص، وفي عيونهم نظرة متحفزة فيها سخط وفيها غضب، وأنا أحب هذه النظرات في الإنسان أحيانا، فكأنما خلق الإنسان في نظري ليثور ويغضب، ولعلها نظرة خلفها لي عمر عشته في ظروف تقتضي دائما السخط والغضب والثورة .
نامعلوم صفحہ