أول رحلة إلى العالم الأحمر
ركبنا القطار من هلسنكي إلى ليننجراد، كل أربع نساء في حجرة، وكل حجرة بها أربعة أسرة: اثنان منهما في الدور العلوي، وقفزت بهيجة الأفغانستانية إلى السرير العلوي، وقفزت إلى السرير المقابل وقالت بهيجة: أنت رشيقة جدا، هل تزوجت؟ قلت: نعم، ثلاث مرات، وعندي طفلان، وأنت؟ قالت: عندي سبعة أولاد من زوجين، وضحكت، ثم صمتت طويلا وقالت بعد فترة وفي صوتها حزن: لا زلنا نهدم القيم البالية في مجتمعنا لنبني مجتمعا جديدا يتمتع فيه الناس بالعدالة. لا يمكن أن يهدأ الناس إذا حكموا بالقوة، قد يبدو عليهم الهدوء ولكن إذا ما نبشت السطح وجدت الثورة.
وسمعنا ضجة بممر القطار فقفزنا إلى الخارج ورأينا «روزا» الأرجنتينية تحتضن الجيتار وتغني بالإسبانية: أنا سجين أكسر قيودي وأخرج إلى الهواء. وافترشت أرض القطار من حولها نساء أمريكا اللاتينية ورحن يرددن معها مقاطع الأغنية.
وسرت عدوى الغناء إلى النساء وبدأت كل مجموعة تغني أغنية بلغتها الشعبية، غنت النساء العربيات: والله زمان يا سلاحي، وغنت النساء السوفييتيات كاتيوشا، وغنت أوكيتا وونتي أنتو نشيد شعب فيتنام، وغنت تشارلي الزنجية الأمريكية: وجهي أسود ولكن قلبي أبيض. وعلا صوت النساء على صوت القطار، وارتفعت في الجو أصوات ونغمات بمختلف اللغات واللهجات، واختلطت الألحان العربية بالروسية بالأفريقية بالأمريكية بالإسبانية بالإنجليزية بالفرنسية بالفيتنامية، ووجدت نفسي أردد مع النساء لحنا لا أعرف كلماته ولا أعرف لغته، وأصبحنا مجموعة واحدة من بلد واحد، وتلاشت الفروق الصناعية التي تفصل الإنسان عن الإنسان.
وكانت فالنتينا رائدة الفضاء تجلس وسطنا ولها سرير صغير كسرير النساء، وفي الدرجة الثانية بالقطار أنظر إلى وجهها، وأدهش للبساطة الطبيعية تكسو الملامح الهادئة.
ثم سمعنا صوتا يعلن من ميكرفون القطار أننا اجتزنا حدود فنلندة وأصبحنا في أرض الاتحاد السوفييتي، أخرجت رأسي من نافذة القطار في استطلاع، وفي خيالي لهذا البلد صور كثيرة، بعضها من القراءات والكتب وبعضها أقوال سمعتها. الأقوال المتضاربة تصيب من يسمعها بتساؤل عن الحقيقة، ورغبة في أن يذهب بنفسه ليرى بعينيه ويحكم على الواقع.
وأدرت عيني في كل مكان خارج نافذة القطار، أنظر إلى الشجر والأرض والبيوت وألتقط أي شخص يظهر في شارع أو حقل أو بيت، أدقق إليه النظر رغم حركة القطار، وأنظر إلى ملابسه وحذائه، لماذا الحذاء بالذات؟ ولكن كم سمعت من إشاعات!
وكان كل شيء يبدو كما كان، الأرض هي الأرض والأشجار هي الأشجار والناس هم الناس، ولولا ذلك الصوت الذي أعلن اجتياز الحدود لظننت أننا لا زلنا في فنلندة.
وعدت لسريري لأنام قليلا، ثم استيقظت فجأة على صوت القطار وهو يقف، وهنا بدأت أحس أننا في الاتحاد السوفييتي. كان رصيف المحطة مزدحما بالرجال والنساء والأطفال يحملون الزهور ويرحبون بوفود النساء ويلتفون حول فالنتينا، وأخذت أدقق النظر في الناس. كانوا يرتدون ملابس جميلة وفي وجوههم نضارة وفي عيونهم بريق، وجذبتني وجوه الأطفال النضرة. هؤلاء هم أهالي قرية «لوجيكا» أول قرية سوفييتية على الحدود.
وسارت وفود النساء تتقبل التحيات والزهور إلى استراحة المحطة الفسيحة حيث صفت الموائد، وجلست فالنتينا وسطنا، وبدأت سدادات زجاجات الشمبانيا تتطاير مفرقعة في الهواء، وتطايرت معها الضحكات والقفشات، وأكلت النساء من كل بلاد العالم الكافيار الروسي واللحم والفراخ، وشربن معا أنخاب الصداقة والحرية والسلام.
نامعلوم صفحہ