رحلة في زمان النوبة
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
اصناف
وكان علينا أن نرسل عشاء للريس محمد، فنزلنا من المضيفة في الظلام ومعنا بطاريتان، وتحسسنا طريقنا وسط الحجارة والرمال والأرض الطينية ذات الشقوق الكثيرة، إلى أن بلغنا حقل الذرة إلى ضفة النهر، وننادي على محمد فلا من مجيب، ونعرف أننا أخطأنا فنعود أدراجنا وسط الذرة والضفادع تقفز بين أرجلنا، إلى أن نصل إلى مكان مكشوف فنعاود السير شمالا، ثم نخترق غابة الذرة إلى الضفة وننادي فيرد محمد ونمشي في الطين السميك ونعطيه عشاءه، وفي العودة ضللنا الطريق صعودا ودرنا حول حديقة مسورة وصعدنا هضبة بمشقة إلى أن وجدنا مجموعة السلالم المؤدية للمضيفة، وحين نظرنا إلى المضيفة من أسفل كانت مضيئة كالمعبد الإغريقي بأعمدتها البيضاء.
والمالكي هي أكبر عمديات عرب العليقات، وتشتمل على 17 نجعا كان سكانها 1281 شخصا حسب تعداد 1960، وهي أغنى قرى العليقات؛ لأنها تحتل الضفة الغربية للنيل بعد ثنية كورسكو؛ ومن ثم فهي منطقة إرساب للطمي، بينما النهر ينحت على الجانب الشرقي عند عمديتي السنجاري وشاتورمة؛ لهذا فالسهل الفيضي كبير في المالكي، بل كان يزداد بنمو بعض الجزر الشاطئية كجزيرة كرونجو، أما بقية عمديات العليقات فتقع في مناطق جبلية ذات ضيق في سهولها الفيضية، باستثناء وادي العرب الذي قال عنه الرحالة بوركهارت 1812م إنه «زكى الزرع»، والغالب أن بلاد العليقات هي من أفقر أجزاء النوبة؛ ولهذا سهل على العليقات كبدو رحل الاستقرار الكامل فيها، ويعوض الفقر البيئي للمنطقة أنها كانت تقع على الدروب الصحراوية المتجهة إلى شمال السودان؛ ومن ثم كانت مهنة دلالة القوافل التجارية بين مصر والسودان مصدرا أساسيا لحياة العليقات فترة طويلة من الزمن، مثلهم في ذلك مثل بعض عشائر العبابدة التي سبق ذكرها، ويؤكد العليقات انتسابهم إلى عقيل بن أبي طالب، ولهذا طلبوا من الحكومة تغيير اسمهم إلى العقيلات، وسنعود إلى هذا الموضوع في القسم الثاني من هذا الكتاب.
الفصل التاسع
قراءة الماء
فيما سبق تكلمنا عن بعض المشكلات التي تعرضنا لها أثناء إبحارنا في النيل، وفي بقية الرحلة إلى توشكى والعودة منها إلى كلابشة سوف تصادفنا لحظات حرجة كثيرة، تصل بنا إلى حدود الخوف والفزع، وربما كان هذا هو الوقت المناسب الذي نتكلم فيه عن هذه التجارب غير السارة تحت عنوان «قراءة الماء»؛ لأن تصفح وجه النيل بشكل دقيق هو الطريق الآمن لملاحة سالمة.
بدأت بنا رحلة السفينة «عمدا» من غرب سد أسوان، وأثناء بداية سيرها الوئيد شاهدنا سيدتين من أهل النوبة تجذفان قاربا صغيرا - فلوكة - وحدهما عبر الاتساع الكبير للنيل جنوب السد مباشرة، ودهشنا للحنكة والقوة التي كانت تظهر في تسييرهما القارب في ممرات مائية بين عشرات الجزر الجرانيتية التي تملأ مسار النيل، هذا المنظر الفريد هو قليل الحدوث في معظم بلاد النوبة، باستثناء المنطقة الشمالية وخاصة في منطقة الشلال، وبسبب صعوبة الملاحة بين جزر الشلال وصخوره الظاهرة والغاطسة وممرات الماء المندفعة بين الصخور والدوامات التي تتكون نتيجة سقوط الماء سنتيمترات معدودة؛ أصبح «الشلالية» - سكان منطقة الشلال - وكذلك سكان أمبركاب؛ مشهورين بإتقان فنون الملاحة وقراءة الماء، لا يكاد ينافسهم فيها أحد، لدرجة أن معظم قباطنة السفن في النوبة هم من منطقة الشلال، ومعظم ملاحي مراكب الشراع من أمبركاب.
أشكال الماء ومدلولاتها
وقراءة الماء خبرة تكتسب بكثير من المران على مر الزمن، وقد أعطاني أحد البحارة من منطقة أمبركاب - التي هي منطقة ملاحة وعرة - بعضا من الخبرة في قراءة الماء، مثلا المياه الساكنة قد تبدو لأول وهلة مياها جيدة للملاحة النهرية، لكنها في الحقيقة مياه خطرة؛ لسببين: فإما أنها مياه عميقة تحف بها صخور سفلية فيما يشبه الخندق، وتصبح من مولدات الدوامات في طرفة عين؛ وإما أنها تتكون نتيجة جسر صخري غائر على عمق قليل، وفي هذه الحالة تسحب المياه القارب ببطء، ثم بسرعة شديدة حتى يرتطم بالجسر الصخري العائر، فتقلبه أو تلقي به إلى دوامة كبيرة سريعة تجعل القارب تحت رحمة الماء، وهناك منعرجات كثيرة مليئة بالدوامات الخطرة التي يزيد قطر الواحدة منها عن خمسة أمتار، وتنفتح مراكزها في صورة ماصات - شفاطات - واسعة عميقة لها صوت غير محبوب، والغالب أن هذه الدوامات لا تتكون فرادى، بل في مجموعات تسلمك إحداها للأخرى، بحيث تستطيع أن تخل بتوازن المراكب الصغيرة أو تقلبها!
وفي وقت الفيضان يصبح لون مياه النيل بنية طينية في درجات لونية مختلفة؛ اللون الغامق هو ما كان في الجزء الأوسط من النهر، حيث التيار الجارف قادر على أن يحمل معه ذرات الطمي، بينما يصبح رائقا بعض الشيء قرب الضفاف، وقد تنعكس على صفحته خضرة المزروعات القريبة من الضفة، أو صفرة التلال الرملية، أو دكنة الصخور الجرانيتية، وبعض حمرة صخور التكوينات النوبية. وإلى جانب هذا كله تظهر أشرطة من الماء تبدو بيضاء أو زرقاء باهتة، وهي تعبر عن مياه عميقة خطرة على الملاحة؛ لأنها تولد دوامات في أحيان كثيرة إذا ما صادفت حاجزا طينيا أو صخريا غائرا تحت السطح، والسير ضد تيار الماء الجارف فيه الكثير من المجازفة، ولا يجب عبور النهر في خط عمودي، بل بزاوية يقدرها الملاح حسب قوة دفع التيار المائي، كما أنه ليس مستحبا عبور النهر وقت الظهيرة؛ لأن الماء يبدو وكأنه يفور ويغلي نتيجة التسخين الشديد للماء وتبادل المياه السطحية والعميقة في نحو الفترة بين الثانية والرابعة بعد الظهر، ويؤدي الفوران إلى انعكاسات الضوء المبهر من كل مكان على سطح الماء، والخلاصة أن التيار والفوران يؤديان إلى إبطاء واضح في حركة القوارب؛ مما يستدعي جهدا على المحركات واستهلاكا زائدا للوقود.
وأحسن مياه للإبحار هي المياه الجانبية التي يسميها البحارة «الليان»؛ حيث تقل سرعة الماء نتيجة للاحتكاك بالضفاف والقاع غير البعيد، ولكن هناك خطورة بالنسبة لقوارب المحركات التي تغوص مراوحها أسفل قاع القارب؛ مما يؤدي إلى تعلق المراوح بالطين، أو الاصطدام بأي بروز ناتئ يؤدي إلى توقف المراوح أو التوائها، أما المراكب الشراعية فهي آمنة في الليان، ومع ذلك فإن السير في الليان - مع مراقبة شكل الماء وسبر غوره بين الحين والآخر بالمدراة - أحسن من السير ضد التيار أو مناطق الدوامات.
نامعلوم صفحہ