رحلة في زمان النوبة
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
اصناف
2
ولأن الزراعة في مصر والسودان الشمالي معتمدة اعتمادا كليا على النيل، فقد كان تنظيم استخدام مياه النيل غالبا أمر يتعلق بمصر والسودان، والاتفاقية السائدة للآن هي الاتفاقية المصرية السودانية، التي تحدد إمدادات كل منهما من مياه النيل، وفي الوقت الراهن ظهر على السطح في كل بلاد الجفاف، وبخاصة الشرق الأوسط، الأهمية العظمى للمياه كاستراتيجية قومية قد تتسبب في نزاعات وحروب، ليس فقط بين العرب وإسرائيل، بل هي كامنة كمشكلة بين الكثير من بلاد الشرق الأوسط، ومن بين هذه المشكلات اهتمامات إثيوبيا بتنظيم استخدام الروافد النيلية في الهضبة الحبشية، ومن ثم فإن استراتيجية المياه المصرية السودانية يجب أن تدخل اختبار التفاوض من أجل اتفاقية جديدة للمياه بين كل دول حوض النيل. (1) أين النوبة في كل هذا؟
إنها في صميم وقلب الموضوع؛ فبحيرة ناصر أو بحيرة السد العالي في مصر والسودان هي الآن المنظم المعتمد لتوزيع المياه، وستظل البحيرة كذلك في ظل أي اتفاقية جديدة للمياه بين مصر والسودان وبقية دول النيل لفترة زمنية تمتد بضع عشرات السنين.
إذن النوبة، كإقليم بحيري الآن، هي حقيقة جغرافية واقعة يجب التعامل معها لتنميتها بشريا واقتصاديا، وعلينا أن نستفيد من معرفة كيف تأقلم النوبيون على الحياة في بيئتهم الخشنة، بصيغة تلقائية ناجمة عن التحاور مع الظروف الطبيعية والبشرية التي كانت تطرأ باستمرار.
شكل 1-1: وتذبذب المنسوب بين الحد الأعلى والأدنى لكل سنة لفترة 30 سنة (1964-1994).
وخاصة خلال كل النصف الأول من القرن العشرين، بعد إنشاء سد أسوان، المهم أنهم استطاعوا التكيف والمحافظة على التراث اللغوي والشعري والغنائي والمعماري ... إلخ، كل ذلك داخل الإطار الجغرافي لإقليم النوبة.
لكن حين انتقل النوبيون إلى مهجر بعيد عن مواصفات بيئتهم نتيجة لنشأة بحيرة السد العالي، فإنهم لم يستطيعوا التكيف، أو ربما لم يجدوا آلية لإعادة صياغة حياتهم، كل شيء كان جديدا، كل شيء مادي ونفسي، لم يكن هناك النيل الذي ورثوه.
فترة امتدت آلاف السنين، لم تكن هناك مجموعات الناس التي اعتادوا عليها كأبناء الصعيد من زراع وصيادين، والعبابدة والبشارية بإبلهم يستقرون ويتعايشون معهم، ويتبادلون المنفعة بضعة أشهر كل عام. لم يعد لديهم مزارات أوليائهم التي كانت تجمع الناس على تباعد قراهم في الموالد مرة كل عام، ربما أيضا لم يعد عندهم خبز الدوكة، وافتقدوا أيضا بعض أنواع الطعام التقليدية، وفوق كل هذا افتقدوا بيوتهم ذات الأحواش الواسعة التي كانت مملكة النساء، وافتقدوا أخيرا الشعور بالأمان رغم ضباع النوبة القديمة وذئابها وتماسيحها وزواحفها، ربما في النهاية افتقدوا روح النوبة. لقد كان الإنشاد والغناء، والضرب على الطار والطمبورة، والشعر والرقص أشياء تلقائية احتفالية بمناسبات حياتية، لكنه الآن أصبح متحفيا لا يظهر إلا على مسرح يقال له تراثي، يدفع أجرا للمنشدين والراقصين، ويجمدهم في حركات محدودة من هز الأذرع والدق بالقدم والإنحاء للناظرين!
نستطيع أن نمضي في هذه المفارقات كثيرا، لكن ما نريد أن نقوله: إن حياة المهجر في النوبة الجديدة في كوم أمبو هي فترة لا يرتاح لها النوبيون كثيرا، صحيح هناك ميزات أهمها إنهاء عزلة النوبة وسهولة الحركة بالقطارات إلى أي مكان، لكن ما إن ينفتح الكلام مع كثير من النوبيين عن هذا الموضوع، إلا أبدوا حسرة على النوبة القديمة، مع كثير من الرغبة في العودة إليها من جديد، على أن تكون هناك ركيزة لإقامة معايشهم: زراعة أو عمل في السياحة، أو غير ذلك من الأعمال التي قد تظهر حين يعرك الإنسان الطبيعة وأرض الواقع.
ولكن علينا أيضا أن نتبين بدقة ووضوح عدة مواضيع أهمها:
نامعلوم صفحہ