رحلہ فی فکر زکی نجیب محمود
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
اصناف
سابعا:
هب أن جماعة قد ارتطمت سفينتهم على جزيرة مهجورة لا أثر فيها للحياة، ولكنهم وجدوا على أرضها آثار أقدام ليست من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناسا غيرهم كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقا لا صعوبة فيه ولا التواء: لكل أثر مؤثر، فإن رأينا أثرا ولم نجد بيننا مؤثره، أيقنا أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجودا في غير مكاننا، وها نحن أولا: ننظر فنرى فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العد، تفرض علينا فرضا أن أحدا غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة، وهو يتصل بها في كل حين ليحدث هذه الآثار.
ثامنا:
يختتم مفكرنا مقاله بتحديد مجال للعلم وآخر للدين، ويتساءل: ماذا يضيرك إذا ما عللت بالعلم ما يمكن أن يعلله، وأن ترجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كل ما يصادفك من خوارق ومعجزات؟! يقول الماديون أن إدخال «الله» في مجرى الطبيعة عجز وقصور عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان الأول كان يفسر كل شيء بقوة الآلهة لقلة محصوله من العلم، فكان إذا اكتسب شيئا من العلم يعلل به ظاهرة ما، أسقط هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم. وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع، كما أخذت العقيدة في تأثير الله في سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى يشمل الكون جميعا، ويفسر «الظواهر» كلها بغير استثناء، وهم بناء على ذلك يرفضون رفضا قاطعا أن يعللوا شيئا إلا على أساس واحد: هو قانون الطبيعة، ويلفظون من حظيرتهم كل من يحاول أن ينسب شيئا إلى قوة أخرى غير قوة الطبيعة وقوانينها، وقديما كان العالم، أو إن شئت الكاهن، يفسر كل شيء بقوة الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسر شيئا على غير هذا الأساس: فهل نرى فرقا بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟ كلا! فكلاهما متعصب محدود الفكر، ضيق النظر!
لعل أقرب إلى روح العلم الصحيح، أن نتناول الأبحاث أحرارا من كل قيد، فلا نفترض لأنفسنا أساسا معينا للبحث لا نعدوه، أعني أنه لا ينبغي أن نحكم على أنفسنا أن نفسر كل شيء بكذا، وكذا، وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين، الذين كانوا ينظرون في السماء ويبحثون في النجوم، على شرط أن يكون بحثهم مقصورا على ما هو معروف من النجوم، فإن ظهر كوكب أو نجم جديد أنكروه ورفضوه!
ذلك تلخيص واف للمقال الهام الذي نشره مفكرنا في مجلة «الرسالة»، ولم ينشر بعد ذلك قط، رغم قيمته الكبيرة في إبراز جانب «التدين الخالص»، الذي سيطر على تفكيره في أولى مراحله الروحية، التي أغفلها كثير من الباحثين، مركزين على المرحلة الثانية، التي بدأت بالمنطق الوضعي بجزأيه، وخرافة الميتافيزيقا ... إلخ، حتى أصبح اسم زكي نجيب محمود و«الوضعية المنطقية» مترادفين، أو كالمترادفين؛ مع أنها ليست سوى مرحلة سبقتها مرحلة، ولحقت بها مرحلة ثالثة تجمع الاثنين في مركب واحد! (5) الجبر الذاتي
تصل هذه المرحلة الأولى إلى قمتها مع رسالته للدكتوراه بعنوان: «الجبر الذاتي» عام 1947م، وهي التي وصفناها في مكان آخر بأنها «الوجه الميتافيزيقي للدكتور زكي نجيب محمود»؛
33
ذلك لأن نظرية «الجبر الذاتي» نظرية ميتافيزيقية في صميمها.
34
نامعلوم صفحہ