رحلہ فی فکر زکی نجیب محمود
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
اصناف
ولا يفوته أن ينبهنا إلى أن الروح لا تدرك بالحواس فهي «تتعالى عن إدراك العيون! وكيف تريدها على الظهور أمام مقلتيك ، وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ ... أما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر!»
31
وهي إذا كانت تأبى أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها؛ فالروح، إذن، مع كمال خفائها، وشدة غموضها عن العين يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان ...
32
ومعنى ذلك أنه إذا كانت الروح لا تدرك بالحواس؛ فإن هناك طريقا آخر للوصول إليها، ولا ينبغي إنكار وجودها بحجة أننا لا نراها، ولا نلمسها ... إلخ، وتلك هي الفكرة التي سوف يطورها بعد ذلك في نقده لديفيد هيوم في رسالته للدكتوراه التي سنعرض لها بعد قليل. أما الآن فإن علينا أن نتوقف قليلا عند مقال هام كتب في هذه المرحلة ودافع فيه عن المعجزة. (4) دفاع عن المعجزة
كتب مفكرنا خلال الثلاثينيات مقالا بعنوان «بين المعجزة والعلم» على هيئة حوار أجراه مع نفسه، يرد فيه على ما يزعمه بعض المفكرين من وجود تعارض بين المعجزة وقوانين الطبيعة، ومن ثم ينكرون المعجزات التي وردت في الكتب المنزلة، مثل أن الشمس وقفت ليوشع، أو أن البحر قد انشق بعصى موسى، أو أن السيد المسيح كان يبرئ الأكمه والأبرص بلمسة منه ... إلخ، فذلك كله، في رأيهم، يتعارض مع العلم وقوانينه. ولقد قام مفكرنا في هذا المقال بتحليل القوانين العلمية منتهيا إلى أن المعجزة لا تبطل القانون العلمي، ويمكن أن نلخص مضمون المقال في النقاط الآتية:
أولا:
انتهى العلم إلى أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم، بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، شأنها شأن الكائنات الحية سواء بسواء، بل أن هناك من بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها موجودات تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، لكن إذا كانت الذرة الفردية على شيء من الحياة، وأنها قد تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى النظام الدقيق في سيرها. كما أن الإنسان الفرد حر في تصرفه، إلى حد بعيد، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ، وهي فكرة سوف يطورها مفكرنا بعد ذلك في رسالته عن «الجبر الذاتي».
ثانيا:
إذا افترضنا أن القوانين الطبيعية يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرا ولا تبديلا عما رسمه لها قانونها الأعلى: فمن ذا الذي يزعم أن المعجزة كسر للقانون الطبيعي، وأنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ افرض أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها، سقطت من فروعها إلى الأرض، بفعل قانون الجاذبية هذا، لكن هب أن يدا امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض، فلقفتها فحالت بذلك بينها وبين الأرض: أيكون ذلك كسرا للقانون؟ كلا! القانون لا يزال قويا سليما، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل.
نامعلوم صفحہ