رحلہ فی فکر زکی نجیب محمود
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
اصناف
وإذا كانت الدعوة إلى الاستخدام العقلي الحر عند مفكري التنوير عموما قد أفرزت نتيجة هامة، كما سبق أن ذكرنا، هي الاهتمام بالعلم الطبيعي، وتفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا علميا؛ فإننا نجد نفس الدعوة العقلية عند زكي نجيب محمود، قد ارتبطت بالاهتمام بالعلم (وقد سبق أن رأينا أن العلم عقل في نهاية المطاف)، حتى أصبحت هذه القضية الشغل الشاغل عند مفكرنا منذ أكثر من أربعين عاما، قد أطلق صيحته «أنا مؤمن بالعلم كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه ولا على الناس شيئا ...»
10
حتى قوله : «أنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا بالعلم، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، فأنا أدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة ...»
11
غير أن الاهتمام بالعلم عند زكي نجيب محمود لا يتوقف عند تفسير ظواهر الطبيعة تفسيرا علميا، وإنما يتعداه إلى إشاعة التفكير العلمي بين الناس، بحيث ينظرون بأساليب فكرية جديدة إلى مشكلاتهم ومشكلات مجتمعهم؛ ومن هنا فإننا نجد مفكرنا الكبير لا يرضى عما أحدثته الثورة المصرية، عام 1952م، من تغييرات هائلة في الهيكل الاجتماعي؛ لأن ذلك في رأيه لم يكن كافيا لإحداث نهضة حقيقية، فما دامت أساليب التفكير البالية قائمة، فلا أمل لنا في إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، بالغا ما بلغت ثورتنا على الإقطاع أو أصحاب رءوس الأموال أو الأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء ... إلخ، ومن هنا كتب يقول: إننا نريدها ثورة فكرية يتغير منها المنوال الفكري، الذي سار في الماضي وهو يقارن بين الثورة في صناعة النسيج ماذا تعني؟ والثورة في المجتمع فيقول ...
12 «... إذا كانت لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، فهل تحدث ثورة في صناعة النسيج إذا نحن أبقينا على الأنوال القديمة كما هي، ثم زدنا كمية القماش المنسوج، وغيرنا من ألوانه وزخارفه، ومن طريقة توزيعه على الناس، فإذا كان القماش الناتج من تلك الأنوال القديمة يوزع على المدن وحدها نشرناه في القرى، أو كان يخص الأغنياء وحدهم جعلنا منه للفقراء نصيبا، وكان للكبار وحدهم فصنعنا شيئا منه للأطفال؟! أيجوز لنا في مثل هذه الحالة أن نقول إن ثورة قد حدثت في صناعة النسيج؟!
كلا! فالثورة الحقيقية هي ثورة فكرية، وهي تعني أن نقوم بتغيير «أنوال» التفكير القديم، التي ظلت باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها ... الذي أزعمه أن منوالنا الفكري لم يتغير، وأن النمط الذي نسوق نشاطنا الفكري في إطاره ما زال كما كان منذ قرون. وهذا المنوال قوامه عناصر كثيرة لعل أهمها جميعا الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، كما تتمثل كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى العرف أو التقاليد. وبناء على هذا الموقف تكون الفكرة صوابا، إذا استقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو في الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة؛ ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل الأقدمين، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول المأثور. ولن تكون لنا ثورة فكرية إلا إذا أحللنا نمطا جديدا محل هذا النمط القديم، فيكون معيارنا هو: ما هي النتائج العملية المستقبلية التي تترتب في حياتنا الفعلية، على هذه الفكرة أو تلك مما يقدمه لنا رجال الفكر.
13
وهو هنا يريد لنا ثورة حقيقية لا مجرد تعديل لأوضاع اجتماعية معينة؛ فالثورة الحقيقية هي «ثورة فكرية» تأخذ بأساليب جديدة في التفكير، وتستحدث لنفسها منطقا جديدا، أهم معالمه أن تكون الخبرة المباشرة (عقلية كانت أو حسية) هي نقطة الابتداء، ولا تكون نقطة الابتداء أقوالا حملتها موجات الزمن؛ ذلك لأن «عبقرية الإنسان هي في مواجهة للحياة الجديدة بالجديد المبتكر. ولقد أراد الله لهذا الإنسان أن ينظر إلى أمام؛ ومن ثم كانت أبصارنا في جباهنا ولم تكن في مؤخرة رءوسنا.»
14
نامعلوم صفحہ