ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

محمد إبراهيم جندي d. 1450 AH
99

ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

اصناف

ومن نافلة القول أنه بفضل السلسلة الخارقة من تسميات جيلمان، بداية من

V-A ، وحتى أوميجا-سالب، كان من المحتم أن يتفوق اسم «الكواركات» على اسم «الآسات». لكن هذا لا يعني أن مجتمع الفيزياء تفاعل مع اقتراح جيلمان بحماس، وإنما استقبله بفتور من ينبأ بحمل غير مرغوب فيه. فعلى أي حال، أين كانت تلك الجسيمات التي تحمل شحنة جزئية من قبل؟ فعمليات البحث الدءوب في كل شيء من بيانات المعجلات وحتى باطن أصداف المحار لم تسفر عن شيء. ومن ثم، فإنه حتى بعد أن مجدت صحيفة «نيويورك تايمز» الكواركات في مقال نشر عام 1967، نقل عن جيلمان قوله إنه من المحتمل أن يتبين أن الكوارك ليس سوى محض «تلفيق رياضي مفيد».

وهكذا جاء عام 1967، عندما قرر فاينمان أخيرا العودة إلى حبه الأول، فيزياء الجسيمات، حتى يرى ما يمكنه التعامل معه من مشكلات مثيرة. وعلى الرغم من أنه كتب كلمات مجاملة لجيلمان في مقال نشرته صحيفة «تايمز»، فإنه لم يظهر حماسا كبيرا تجاه البحث الذي قام به جيلمان طيلة السنوات الخمس السابقة من أجل دفع ميدانه للأمام. كان شديد الانتقاد لاكتشاف أوميجا-سالب، وبدت الكواركات غير مثيرة، حتى إنه عندما طرح تلميذه السابق سويج فكرة الآسات، لم يظهر فاينمان أي حماس للفكرة أيضا. لقد اعتبر أن جهود العلماء النظريين لالتماس الراحة في التحدث بلغة نظرية المجموعة أشبه بعكاز للاستعاضة عن الفهم الحقيقي. وكان وصفه لأسلوب الفيزيائيين لتكرار أنفسهم مستخدمين لغة الرياضيات بأنه أشبه «بحديث الأطفال، عندما يقولون بوو-بوو».

ومع أنه يجوز لنا أن نرتاب في أن ردود أفعال فاينمان كانت مشوبة بالحسد، فإن الاحتمال الأرجح أن ريبته الفطرية كانت مجتمعة مع عدم اهتمامه الأساسي بما كان علماء الفيزياء النظرية الآخرون يفكرون فيه. لهذا كان يعتنق بشدة فكرة أن بيانات التفاعل القوي كانت محيرة للغاية بحيث لا يمكنها أن تسمح بتفسير نظري نخرج منه بشيء، وكان قد عزم على تحاشي جميع الصراعات النظرية الفاشلة التي سادت فترة الستينيات، ومن بينها فكرة الديمقراطية النووية وتعارضها مع الجسيمات الأساسية. كان يجد متعته في حل المسائل بنفسه. وعلى حد قوله في ذلك الوقت، متبعا مبدأ «التجاهل» الذي اعتنقه بعد فوزه بجائزة نوبل: «ليس علي إلا أن أفسر الظواهر المنتظمة للطبيعة، ولست ملزما بتفسير أساليب أصدقائي.» ومع ذلك فقد بدأ من جديد في تدريس منهج في فيزياء الجسيمات، وكان هذا يعني عودته إلى ذلك الميدان. ومن منظور فاينمان، يعني هذا العودة إلى دقائق البيانات التجريبية.

تبين أن هذا كان هو الوقت المناسب للقيام بذلك. فقد ظهر معجل جسيمات جديد في شمال كاليفورنيا، بالقرب من ستانفورد، وهكذا لم يكن بعيدا جدا عن كالتك. كان هذا المعجل الجديد مبنيا بتقنية مختلفة لاستكشاف الجسيمات المتفاعلة بقوة. فبدلا من ضرب تلك الجسيمات بعضها ببعض ومتابعة ما يحدث جراء ذلك، كانت ماكينة «سلاك»، حسبما أطلق عليها بعد ذلك، تعجل الإلكترونات على مسار طوله ميلان وتجعلها تصطدم بالأنوية. ولما كانت الإلكترونات لا تشعر بالقوة القوية، فقد أمكن للعلماء قراءة عمليات اصطدامها بسهولة أكبر، دون أن تعوقهم ألغاز التفاعل القوي. وبهذه الطريقة كانوا يأملون في سبر غور النواة مثلما فعل إرنست رذرفورد قبل ذلك بخمس وسبعين عاما عندما اكتشف وجود النواة عن طريق تصويب الإلكترونات نحو الذرات. وفي صيف عام 1968، قرر فاينمان زيارة معجل «سلاك» أثناء رحلة لزيارة شقيقته ومعرفة ما يحدث هناك بنفسه.

كان فاينمان يفكر بالفعل في كيفية التوصل لمنطق يفسر البيانات التجريبية بشأن الجسيمات المتفاعلة بقوة، وأرى أنه كان متأثرا بعمله في مجال الهيليوم السائل. ولعلك تتذكر أنه كان قد حاول فهم أسلوب تصرف المنظومة الكثيفة من الذرات والإلكترونات داخل سائل ما عند درجات الحرارة المنخفضة وكأن الذرات ليست في حالة تفاعل بعضها مع بعض.

ثمة سلوك مشابه إلى حد ما أشارت إليه نتائج التجارب المبكرة التي تضمنت تبعثرا معقدا للجسيمات المتفاعلة بقوة عند اصطدام بعضها ببعض. وعلى الرغم من تردده في تفسير البيانات باستخدام نظرية أساسية ما، أو ربما بسبب ذلك التردد، أدرك فاينمان أن باستطاعته تفسير بعض السمات العامة دون الرجوع لأي نموذج نظري تفصيلي معين. وكان من بين آثار نتائج التجارب أن عمليات التصادم حدثت في الغالب داخل نطاق الجسيمات التي اشتركت فيها، كالبروتونات، وليس عند نطاقات أصغر من ذلك. وقد استنتج أنه لو كانت البروتونات بها مكونات داخلية، لما أمكن لتلك المكونات أن تتفاعل بقوة بعضها مع بعض عند مقاييس أصغر، وإلا لظهر ذلك واضحا في بيانات النتائج. لذا، يمكن للمرء أن يختار تخيل الجسيمات المتفاعلة بقوة، أو «الهادرونات»، حسب الاسم الذي أطلق عليها، باستخدام نموذج للعبة أطفال بسيطة: صندوق مليء بالمكونات، أطلق عليها اسم «بارتونات»، لا تتفاعل فيما بينها بقوة عند نطاقات صغرى لكنها بشكل أو بآخر مقيدة بأن تبقى في نطاق الهادرونات.

كانت الفكرة هي ما نسميه «التفسير الظاهري للأشياء»؛ بالتحديد، كانت مجرد وسيلة لفهم البيانات، لمعرفة هل بإمكان المرء سبر غور ركام الجسيمات بحثا عن عناصر انسجام، من أجل التوصل لبعض الأدلة التي تفتح لنا طريقا نحو قوانين فيزيائية أساسية، مثلما فعلت من قبل الصورة التي قدمها فاينمان للهيليوم السائل. وبطبيعة الحال، كان فاينمان يعلم بأمر كواركات جيلمان وآسات سويج، لكنه لم يكن يسعى لإنتاج فهم أساسي عظيم إلى حد ما للهادرونات؛ لقد أراد ببساطة فهم كيف يمكن استخلاص بعض المعلومات المفيدة من التجارب. وهكذا، لم يبذل فاينمان أي جهد لربط صورة البارتون التي قدمها بجسيماتهما.

أدرك فاينمان عيوب الصورة التي قدمها، واختلافها عن البناء الطبيعي للنموذج. وعلى حد قوله في أول أبحاثه عن هذا الموضوع: «نشأت تلك المقترحات في الدراسات النظرية من عدة اتجاهات وهي لا تمثل نتيجة للتفكير في أي نموذج بعينه. إنها استخلاص للسمات التي توحي بها النسبية وميكانيكا الكم وبعض الحقائق العملية، بصورة تكاد تكون مستقلة عن أي نموذج.»

على أي حال، أتاحت له الصورة التي ابتكرها التفكير في عملية تجنبها أغلب علماء الفيزياء، الذين كانوا يحاولون تفسير البيانات باستخدام نموذج أساسي. هؤلاء العلماء ركزوا على أبسط الاحتمالات جميعا، وفيها يدخل جسيمان في تصادم ويخرج جسيمان من المنطقة. إلا أن فاينمان أدرك أن هذه الصورة المبسطة من الممكن أن تسمح له بالتنقيب عن عمليات أكثر تعقيدا من ذلك. وفي تلك العمليات، لو أجرى المجربون عملية تصادم مباشرة بين الهادرونات بعضها وبعض باستخدام قدر كاف من الطاقة بحيث ينتج عن هذا كمية كبيرة من الجسيمات، فإن بإمكانهم حينئذ أن يأملوا في قياس طاقة وزخم بعض الجسيمات الخارجة على الأقل. وقد يعتقد المرء أنهم في تلك الحالة لن يحصلوا على الكثير من المعلومات المفيدة. غير أن فاينمان زعم، وقد حفزته صورة البارتونات التي ابتكرها، أن تلك العمليات، التي سماها «العمليات الضمنية»، قد تكون جديرة بالفعل بالتفكير فيها ووضعها في الاعتبار.

نامعلوم صفحہ