ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

محمد إبراهيم جندي d. 1450 AH
100

ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

ريتشارد فاينمان: حياته في العلم

اصناف

لقد أدرك أنه عند الطاقات العالية جدا، يمكن لتأثير النسبية أن يجعل كل جسيم، في إطار الجسيم الآخر، يبدو وكأنه «فطيرة»؛ لأن الأطوال تتقلص على امتداد اتجاه الحركة. علاوة على ذلك، فإن تأثيرات تمدد الزمن سيكون معناها أن تبدو الحركات الجانبية لكل بارتون على حدة حول تلك الفطيرة وكأنها تتباطأ إلى حد الثبات في مكانها. وهكذا من الممكن أن يبدو كل هادرون، بالنسبة للهادرونات الأخرى، وكأنه مجموعة من الجسيمات الأشبه بالنقطة الموجودة في حالة سكون داخل الفطيرة. إذن، بافتراض أن التصادم اللاحق سوف يشترك فيه أحد البارتونات من كل فطيرة في حالة تصادم، وتمر باقي الهادرونات ببساطة بعضها من خلال البعض الآخر، يمكن للفيزيائيين فهم العمليات الضمنية التي يقاس فيها جسيم واحد فقط خارج من التصادم قياسا تفصيليا، وتتطاير بقية الجسيمات ولا تسجل لتوزيعها سوى سمات عامة فقط. وطرح فاينمان فكرة أنه لو كانت هذه الصورة للتصادم صحيحة، فإن كميات معينة خاضعة للقياس، مثل زخم الجسيم الخارج المقاس في اتجاه الشعاع الحادث، لا بد أن يكون لها توزيع بسيط.

يشتهر لوي باستير بمقولته: «الحظ الطيب منحة لا يتلقاها إلا صاحب العقل المتأهب.» وكان عقل فاينمان متأهبا تماما عندما زار «سلاك» عام 1968. كان العلماء التجريبيون هناك عاكفين على تحليل البيانات التي بين أيديهم، وكانت أولى البيانات التي تخرج عن الإلكترونات عالية الطاقة التي تتبعثر عند اصطدامها بأهداف من البروتونات، محدثة رذاذا هائلا من الجسيمات الخارجة، وفق أطروحة لعالم نظري شاب كان يعمل هناك اسمه جيمس بيوركن، ومعروف عالميا باسم «بي جيه». كان بيوركن عالما نظريا عبقريا صاحب عزيمة لطيف المعشر كثيرا ما يتحدث بلغة غير مألوفة، لكن استنتاجاته كانت جديرة بالإنصات إليها. وكان في سلاك في ذلك الوقت.

بين بيوركن عام 1967، مستعينا بأفكار تفصيلية من نظرية المجال، وكثير منها نشأ أصلا من فكر جيلمان، أنه لو اكتفى المجربون فقط بقياس خصائص الإلكترونات الخارجة من تلك التصادمات، لوجدوا عناصر انتظام في توزيعها ستكون مختلفة تماما لو كان البروتون مكونا من مكونين أشبه بالنقطة عما لو لم يكن الحال كذلك. وأطلق على عناصر الانتظام تلك اسم «خصائص القياس».

وعلى الرغم من أن العلماء التجريبيين المشتركين في تجارب سلاك لم يفهموا بحق التبرير النظري التفصيلي لفرضية بيوركن للقياس، فإن مقترحاته زودتهم بالفعل بأسلوب نافع في تحليل بياناتهم، وهكذا بدءوا في التحليل. والعجيب أن البيانات توافقت مع تنبؤاته. إلا أن هذا الاتفاق لم يضمن صحة افتراضات بيوركن المبهمة إلى حد ما. فلعل آليات أخرى يمكنها إحداث نفس التأثيرات.

عندما زار فاينمان سلاك كان بيوركن خارج المدينة، فتحدث مع العلماء التجريبيين مباشرة، الذين أعطوه بالطبع فهما أفضل للنتائج من حيث سبب وكيفية اشتقاق بيوركن لها. ولما كان قد فكر من قبل بالفعل في التصادمات الأكثر تعقيدا للهادرونات بعضها ببعض، أدرك فاينمان أن تصادمات الإلكترون بالبروتون ربما كانت أيسر في تحليلها، وأن القياس المرصود ربما كان له تفسير فيزيائي بسيط من زاوية البروتونات.

في ذلك المساء، كانت النشوة تملؤه بعد ذهابه إلى حانة تعر (لا يزال هناك بعض الجدل حول هذا الأمر)، وعندما عاد إلى غرفته بالفندق، تمكن من إيضاح أن سلوك القياس كان تفسيره في واقع الأمر بسيطا: في الإطار المرجعي الذي بدا فيه البروتون أشبه بفطيرة في أعين الإلكترونات الوافدة، لو أن الإلكترونات ارتدت من كل بارتون على حدة، وكان كل منها مستقلا عن البقية بصفة أساسية، فإن دالة القياس التي اشتقها بي جيه يمكن فهمها على أنها ببساطة احتمالية العثور على بارتون ذي زخم معلوم داخل البروتون، وزنه يساوي مربع الشحنة الكهربية الموجودة على ذلك البارتون!

كان هذا تفسيرا أمكن للتجريبيين فهمه، وعندما عاد بي جيه من رحلة تسلق الجبال إلى سلاك، كان فاينمان لا يزال هناك فسعى للالتقاء ببي جيه كي يطرح عليه مجموعة من الأسئلة حول ما كان يعلمه وما لم يكن يعلمه. ويتذكر بي جيه جيدا اللغة التي استخدمها فاينمان، وكيف كانت مختلفة عن الأسلوب الذي كان يفكر هو به في الأمور. وقد قال عن ذلك لاحقا: «لقد كانت لغة سهلة، مغوية، يمكن للجميع أن يفهموها. ولم يستغرق الأمر وقتا على الإطلاق حتى بدأت عربة نموذج البارتون في التحرك.»

من نافلة القول أن فاينمان كان راضيا ومنفعلا في آن واحد لشعوره بقدرة صورته البسيطة على تفسير البيانات الجديدة. أدرك هو وبي جيه أيضا أنه من الممكن استخدام أدوات استكشاف أخرى للبروتونات للحصول على معلومات مكملة عن تركيب البروتونات باستخدام الجسيمات التي تتفاعل ليس بطريقة كهرومغناطيسية مع البارتونات، وإنما عن طريق التفاعل الضعيف، وهي النيوترينوات. وعاد فاينمان من جديد إلى قلب نشاط الميدان، وفي ذلك الوقت نشر أول أبحاثه حول الفكرة، بعد توصله إليها بعدة أعوام، وكان تحليل «التشتت العميق غير المرن»، وهو الاسم الذي صار يطلق عليه، هو محور تركيز النشاط بأسره.

بطبيعة الحال، صارت الأسئلة المحورية عندئذ هي: هل البارتونات حقيقة واقعة؟ وإذا كانت كذلك، فهل البارتونات هي الكواركات؟ وأدرك فاينمان أن الإجابة عن السؤال الأول إجابة كاملة عسيرة، مع العلم بالبساطة المتناهية لنموذجه واحتمال أن تكون الظواهر الفيزيائية الفعلية أكثر تعقيدا من ذلك. وبعدها بسنوات، وفي كتاب نشره حول ذلك الموضوع، ذكر مخاوفه صراحة قائلا: «جدير بالذكر أنه حتى إذا كان ما في جعبتنا من أوراق سيكتب له البقاء وستثبت صحته، فإننا مع ذلك لم نبرهن بعد على وجود البارتونات ... سوف تكون البارتونات دليلا نفسيا مفيدا من حيث العلاقات التي علينا أن نتوقعها، وإذا استمرت تؤدي ذلك الدور في إنتاج توقعات أخرى صائبة فلسوف تبدأ بالطبع في التحول إلى شيء واقعي، وربما كان واقعيا بنفس قدر أي بنيان نظري آخر ابتكر لوصف الطبيعة.»

أما السؤال الثاني، فكانت صعوبته مضاعفة؛ أولا: استغرق الأمر بعض الوقت، وسط ذلك المناخ الذي كان فيه الانحياز النظري العام معارضا للجسيمات الأساسية، قبل أن يبدأ الناس إظهار استعدادهم لمناقشته بجدية. وثانيا: حتى إذا كانت البارتونات تمثل الكواركات، فلم لم تفصح عن نفسها بوضوح، كي يراها الجميع، وتنطلق من التصادمات عالية الطاقة؟

نامعلوم صفحہ