Returning to the Quran: Why and How
العودة إلى القرآن لماذا وكيف
اصناف
العودة إلى القرآن
لماذا ... وكيف؟
مجدي الهلالي
نامعلوم صفحہ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ..
فلقد أكرم الله ﷿ هذه الأمة بخير رسالة أرسلها إلى البشر، ضمّن فيها ﷾ كل ما يكفُل للإنسان العيش السعيد الآمن في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧].
هذه الرسالة عندما استمع إليها نفر من الجن أدركوا قيمتها العظيمة، وفهموا المقصد من نزولها، فسارعوا إلى قومهم ليخبروهم بما عملوا .. فماذا قالوا لهم؟
﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠ - ٣٢].
ولم يكن هؤلاء النفر من الجن وحدهم هم الذين أدركوا قيمة القرآن؛ ففي تاريخنا أسطر من نور تقُصُّ علينا أن جيلًا كاملًا قد أحسن استقبال القرآن، وتعامل معه على أنه منهج حياة، جاءهم من عند مالك الحياة - رحمة منه وفضلًا - ليُعينهم على السير فيها بما يُحقق لهم السعادة في دنياهم وأخراهم.
فهم الصحابة - رضوان الله عليهم - المقصد العظيم من نزول القرآن؛ فتعاملوا معه من هذا المنطلق، وأتوه من أوله، فأعطوه عقولهم وقلوبهم وأوقاتهم، فأحسن القرآن وفادتهم، وأكرمهم بكرمه البالغ، وأعاد صياغتهم من جديد، ليخرجوا من مصنعه أُناسًا آخرين، لم تشهد البشرية لهم نظيرًا فدانت لهم الأرض، وسادوها في سنوات معدودات.
ومضى الزمان، وابتعد المسلمون شيئًا فشيئًا عن القرآن قائدًا وموجهًا، ومصنعًا للتشكيل والتغيير، واشتغلوا عنه بأمور أخرى، ولم يُعطوه من أوقاتهم وأنفسهم ما أعطاه الجيل الأول له، ولم يأتوا أمره من أوله، فما انطلقوا في تعاملهم معه من القصد الأسمى لنزوله .. فماذا كانت النتيجة، وماذا حصدت الأمة من وراء ذلك؟
لقد كانت لنتيجة الطبيعية لإغلاق مدرسة القرآن وتوقف ماكيناته عن العمل أن كل ما بناه الجيل الأول وحققه من مجد وعز تلاشى وأصبح أنقاضًا، وصرنا في ذيل الأمم لا قيمة لنا، ولا اعتبار لوجودنا، فأصبحنا أضيع من الأيتام على مائدة اللئام.
وتطبيقًا للقاعدة " ومن ثمارهم تعرفهم " فلقد عرفنا حُسن تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع القرآن من خلال الثمار العظيمة التي تحققت فيهم وفي أمتهم.
وتطبيقًا لنفس القاعدة على الواقع الحالي للمسلمين نجد أنه ومع وجود بعض الانشغال بالقرآن حفظًا وتلاوة إلا أن ثمار هذا الانشغال لم تظهر للوجود بصورة واضحة، وهذا يدل على أن هناك حلقة مفقودة في تعاملنا مع القرآن، وأن المطلوب معه أمر آخر بالإضافة إلى ما نفعله.
إننا وباختصار شديد نحتاج إلى عودة حقيقية إلى القرآن فندخل إلى عالمه ومصنعه، لتُعيد ماكيناته تشكيلنا من جديد، وتغيير ما بأنفسنا، ليُحقق الله وعده الذي لا يُخلف، فيُغير - سبحانه - ما حاق بنا من بؤس وعذاب وضياع.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
1 / 1
وهذا الكتاب " العودة إلى القرآن، لماذا وكيف؟ " يتناول هذا الموضوع، والذي يبدأ في فصله الأول بالحديث عن الهدف الأسمى من نزول القرآن، وفي فصله الثاني يستعرض جوانب الهداية القرآنية، أما الفصل الثالث فيُجيب عن تساؤل البعض عن كيفية التغيير القرآني، ويأتي الفصل الرابع والذي بعنوان " القرآن بين الأولين والآخرين " ليُقدم لنا النماذج التي تخرحت من مدرسة القرآن، ويستعرض كذلك تاريخ هجر القرآن، ووصول الأمر إلى ما وصل إليه الآن. والفصل الخامس بعنوان " حاجتنا إلى القرآن"، والسادس بعنوان " عقبات في طريق العودة "، ثم يأتي الفصل السابع مُبيِّنًا الوسائل العملية للعودة إلى القرآن تحت عنوان " كيف نعود إلى القرآن؟ " أما الفصل الثامن والأخير فهو بعنوان " معينات على الطريق ".
نسأل الله ﷿ التيسير والسداد والقبول ..
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧].
1 / 2
الفصل الأول
لماذا أنزل الله القرآن؟
1 / 3
خلق الله ﷿ المخلوقات من أرض وسماء، وجبال ودواب، وماء وهواء، و... قبل خلق الإنسان، وجعلها منقادة لعبادته، لا تعرف خالقًا سواه، ولا إلهًا غيره .. تُسبحه وتسجد له، قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: ٤٤].
وخلق ﷾ الملائكة وهم من خواص خلقه، وجعلهم مقربين إليه يقومون بتنفيذ أوامره في تدبير أمور الكون .. وهم كسائر مخلوقاته في حالة دائمة من التسبيح والعبادة له سبحانه ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩].
خلق آدم:
ومع عبادة الكون كله لله وتسبيحه الدائم له، فإنه ﷾ أراد أن يخلق مخلوقًا جديدًا يعبده باختياره بعد أن يُعطيه عقلًا لا يوجد مثله في سائر مخلوقاته، ويودع فيه من الملكات والمقومات ما يستطيع من خلالها أن يصل لمعرفة الله ﷿، لدرجة لم يصل إليها مخلوق آخر - بما في ذلك الملائكة - وبجانب هذا العقل جعل له ﷾ نفسًا تُحب الشهوات، ولا تنظر إلى عواقب الأمور .. تُريد أن تاخذ حظها من كل عمل يقوم به هذا المخلوق .. تُحب الراحة، وتكره التكليف.
وبين العقل والنفس يوجد القلب الذي يُعد بمثابة الملك: يُصدر الأوامر فُيسمع له الجميع ويطيع .. ففيه مركز القيادة والإرداة واتخاذ القرار، ولقد خلقه الله ﷾ بإرادة حُرَّه، وأعطاه مزية حرية الاختيار، وطالبه بعبادته في الغيب في ظل هذه المعطيات.
أخبر ﷾ الملائكة هذا الأمر ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠].
فاستعظمت الملائكة أن يوجد مخلوق لا يعبد الله عبودية تامة كبقية الخلائق، وأن يوجد مكان في الوجود يُعصى فيه الإله ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠].
1 / 4
ثم بيَّن ﷾ للملائكة قدرات هذا المخلوق الجديد، وإمكانيات عقله ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣١ - ٣٣].
وطلب ﷾ من الملائكة السجود لآدم تشريفًا وتكريمًا له .. فانصاعت الملائكة للأمر إلا إبليس رفض التنفيذ ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٣٤].
كيف لمخلوق يرى الله ﷿، وآثار قوته وقدرته وقهره أن يرفض له أمرًا؟!
لكنه الكبر والحسد، فعندما سأله المولى ﷿ عن سبب رفضه للسجود ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢].
فكان العقاب الأليم: اللعن والطرد من رحمة الله والعقوبة بالحبس الأبدي في النار ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾ [الأعراف: ١٨].
طلب إبليس:
عرف إبليس مصيره وبدلًا من أن يُبادر بالتوبة عما فعله، ازداد حقدًا وحسدًا وكراهية لآدم ﵇، وطلب من الله ﷿ أن يمهله في تنفيذ العقوبة طوال مدة الحياة الدنيا، لينتقم لنفسه من آدم وبنيه، ويسوقهم معه إلى النار ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [ص: ٧٩ - ٨١].
وبعد أن تمت الموافقة على طلبه، أقسم اللعين أن يعمل جاهدًا طوال هذه المهلة على إغواء بني آدم، وصدهم عن الصراط المستقيم بكل الطرق الممكنة ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٦، ١٧].
الهبوط إلى الأرض:
أسكن الله ﷿ آدم الجنة وجعلها داره، وخلق له زوجته حواء، وأباح لهما الجنة كلها إلا شجرة واحدة ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٣٥].
بدأ إبليس عمله مباشرة فهو لا يُريد أن يُضيع وقتًا من المهلة التي أخذها، واستهل ذلك بالوسوسة إلى آدم وزوجه بالأكل من الشجرة المحرمة، وادعى بأنها شجرة الخلد والملك، وأقسم لهما بالله على ذلك.
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠، ٢١].
1 / 5
لم يكن آدم وزوجته يظنان أن هناك من يُقسم بالله كاذبًا، فأكلا من الشجرة لتنكشف لهما عوراتهما وينتصر عليهما اللعين .. حينئذ شعر آدم وزوجته بعِظم الجُرم الذي ارتكباه ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٢ - ٢٣].
ندم آدم وزوجه ندمًا شديدًا، وتابا توبة صادقة إلى الله، فقبِل سبحانه توبتهما ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٣٧].
ولكن لابد من اختبار آخر كي يعودا إلى دارهما - الجنة - مرة أخرى، فكانت الأرض هي مكان الاختبار الجديد ليهبطا عليها وتبدأ منها رحلة العودة، ويهبط معهما إبليس ليستمر في عمله الذي طلب من أجله المهلة: ﴿قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ [الأعراف: ٢٤، ٢٥].
هبطوا جميعًا إلى الأرض ليبدأ الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٨، ٣٩].
المشهد العظيم:
قَّدر الله ﷾ لآدم عددًا محدودًا من الذرية يهبطون تباعًا إلى الأرض ليؤدوا الاختبار - اختبار العودة إلى الجنة - وقبل هبوطهم أخذ عليهم جميعًا العهد والميثاق على عبادته ﷾، ولقد وافق الجميع على ذلك وشهدوا بأنفهسهم على هذا العهد ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٢، ١٧٣].
أخبر ﷾ الجميع بأنهم سيعودون إليه مرة أخرى ليسألهم عن العهد والميثاق والمهمة، التي أنزلهم إلى الأرض من أجلها ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: ٢٩].
ولقد جعل الله ﷿ هذا العهد الذي وافق عليه الجميع مركوزًا في داخلهم: فطرة تميل بهم إلى الحق، وإلى عبادته ﷾ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠].
بدأت ذرية آدم في الخروج إلى الأرض مجموعة بعد مجموعة لأداء الاختبار، وعندما تنتهي الواحدة وتنقضي مدة اختبارها ووجودها على الأرض تُنزع أرواحها وتذهب إلى القبور التي تُعد بمثابة ساحات انتظار حتى ينتهي الجميع من أداء الامتحان.
1 / 6
يتوالى هبوط الناس إلى الأرض وخروجهم منها إلى أن يأتي آخر عدد قدره الله ﷿، فيؤدى الاختبار ويكتمل امتحان الجميع، فينتهي دور الأرض كقاعة امتحان فتتزلزل، وتُخرج منها ليبدأ يوم الحساب وإعلان النتائج: إما النجاح والعودة إلى الجنة، أو الرسوب والحبس في النار.
ماذا فعل الناس على الأرض؟
خرجت الأجيال إلى الأرض بفطرة سليمة، مُهيأة لعبادة الله ﷿، ولكن إبليس اللعين لم يكن ليتركهم ينجحون في امتحان العودة إلى الجنة .. وكيف يتركهم وقد طلب المهلة من الله ﷿ لا ليرتاح، بل ليُضل الناس جميعًا ويسوقهم معه إلى النار؟ فهو يعتبر كل فرد ينجح في الفرار منه، والعودة إلى الجنة، دليل على أفضلية آدم عليه، وأحقيته بالسجود له - كما طلب الله منه - لذلك فهو يعمل جاهدًا على غواية الجميع من خلال ذريته، وألا يفلت أحد من قبضته، فتراه لا يترك فرصة للإضلال إلا ويستغلها.
مدخله الأساسي النفس البشرية وما فيها من جوانب ضعف كثيرة، وولع بالشهوات، وحب للراحة، فيدخل إلى القلب من خلالها ليستولي على إرادته فيصير أسيرًا له يأمره وينهاه كيفما شاء ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١٩].
وللأسف الشديد فقد اتبعه خلق كثير ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٦٠ - ٦٢].
اتبعوه بإرادتهم بعد ان زين لهم الدنيا وزخرفها، وأنساهم ربهم وما طالبهم به ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ [المجادلة: ١٩].
فانتهت حياة الكثيرين منهم نهاية مظلمة، وانكشفت لهم الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان وانتهاء فترة الامتحان ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٩، ١٠٠].
حب الله لعباده:
بالرغم من اتباع الغالبية العظمى من الناس لعدو الله إبليس، ونبذهم عبادة ربهم إلا أنه ﷾ لم يشأ أن يعاقبهم على ذلك بحرمانهم مما حباهم به، فنعمه عليهم مستمرة، ورعايته لهم قائمة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣].
لا يتربص بهم، ولا يأخذهم حال معصيتهم ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٦٧].
بل يُمهلهم ويُعطيهم الفرصة تلو الفرصة ليعودوا إليه قبل فوات الأوان ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: ٦١].
يصبر عليهم وهم يتمادون في العصيان والكفر .. يحلم بهم لعلهم يفيقون ويثوبون إلى رشدهم .. يُمسك السماوات أن تقع على الأرض والبحار من أن تُغرقها غضبًا منها على العصاة ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: ٤١].
لم يتركنا نواجه الشيطان بمفردنا، بل جعل لكل منا ملكًا يحضُّه على فعل الخير.
1 / 7
قال ﷺ: " في القلب لمَّتان: لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمَّة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، ونهي عن الخير، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تلا قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ (١) [البقرة: ٢٦٨].
ومن صور رحمته وحبه لعباده أنه ﷾ قد جعل باب التوبة مفتوحًا أمام الجميع، فلا يُغلقه أمام الإنسان - أي إنسان - إلا في اللحظات الأخيرة من حياته، وعند نزع الروح، وانتهاء فترة الامتحان.
الرسائل السماوية:
ومن دلائل حب الله لعباده كذلك: تلك الرسل التي أرسلها لهم على مر الأزمان، تُذكِّرهم بما خُلِقوا من أجله، وأنهم سوف يعودون إليه شاءوا أم أبَوا ليُحاسبهم عما فعلوه .. يُرغبهم فيها بنعيم الجنة إن هم أطاعوه، ويُنذرهم بالنار ليخافوه ويستقيموا على أمره ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: ١٦].
واختار ﷾ خير عباده من البشر ليقوموا بتبليغ رسالاته إلى الناس: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦].
وأعطى كل رسول من رسله دليل على صدقه فيما جاء به من ربه لكيلا يشك الناس في أمره ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ [هود: ٦٣].
كيف تعامل الناس مع هذه الرسائل؟
كل مره يرسل الله فيها رسالة إلى طائفة من عباده مع رسول من رسله يستجيب القليل لنداء الرسول ويُطيعونه فيما جاء به من ربه، ويمتنع الكثير عن طاعته استجابة منهم للشيطان.
يستمر التكذيب فيمهلهم الله ﷿ لعلهم يستجيبون لدعوته، ويُنقذون أنفسهم من سوء المآل، ولكنهم في الغالب يظلون على عنادهم فيحق عليهم وعيد الله، فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: ٤٤].
وهكذا تتوالى الرسائل من السماء إلى أهل الأرض أن أفيقوا قبل فوات الأوان .. لا تتبعوا الشيطان ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ [الشورى: ٤٧].
إذن فجوهر الرسائل كلها هو هداية الناس إلى الله، وإلى صراطه المستقيم، وإنقاذهم من طريق الشيطان.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤]. وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: ٤٦].
_________
(١) حديث ضعيف: أخرجه الترمذي في سننه (ج٥/ص٢٢٠ ح٢٩٨٨)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع الصغير (١٩٦٣).
1 / 8
الرسالة الأخيرة:
كانت الرسائل التي أرسلها الله ﷿ للبشر تُخاطب قومًا من الأقوام في فترة زمنية محددة، حيث كان التقدم الحضاري والاتصال بين الأمم محدودًا، وبعد الرسالة التي أرسلها الله ﷾ مع عيسى ابن مريم لبني إسرائيل ازداد انحراف الناس أكثر وأكثر، واحتاجت البشرية إلى رسالة تُخرجها من الظلمات إلى النور فكان القرآن .. ذلك الكتاب الذي أرسله الله ﷿ للبشرية جمعاء في كل زمان ومكان حيث يتلاءم مع ما يحدث في الأرض من تقدم علمي وحضاري غير مسبوق.
فالهدف الأساسي من نزول القرآن: هداية الناس إلى الله وإلى طريقه المستقيم، والعيش على الأرض بأمان، والعودة إلى الجنة بسلام.
قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: ١٨٥].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ١٧٤، ١٧٥].
رسالة منطلقها الرحمة الإلهية بالناس لانقاذهم من النار وإخراجهم من الظلمات ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ١].
أعظم رسالة:
لأن القرآن هو رسالة الله الأخيرة للبشرية، فقد أرسله ﷾ مع خير رسله، وتولى بنفسه حفظه من التبديل والتحريف ليستمر في أداء دوره حتى قيام الساعة.
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ [الحجر: ٩].
أنزله ﷾ بلغة عربية عذبة، سلسة، بحيث يستطيع أي إنسان أن يفهم الحقائق الأساسية لتلك الرسالة مهما كان حظه من الثقافة، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢].
ولقد جعلها الله ﷿ رسالة موجزة ليسهل حملها وحفظها وقراءتها.
وكونها رسالة موجزة فلابد من قراءتها بتأن وتؤدة حتى يتمكن السامع والقارئ من فهم المقصود منها ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: ١٠٦].
ولأنها لا تُخاطب العقل فقط، بل الوجدان أيضًا، كان الأمر بترتيلها والتغني بها لتكون اكثر تعمقًا في النفس، قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤].
يسرها الله للقراءة، فلا تحتاج إلى أماكن محددة أو أزمنة خاصة لتُقرأ فيها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر: ١٧].
ولكي يتم دوام الاستفادة منها كان من الضروري أن يداوم المسلم على قراءتها يوميًّا، فكان التحفيز وشحذ الهمم لذلك برصد الجوائز لكل من يقرأ فيها حرفًا فيكون ذلك دافعًا لقراءتها، ومن ثَمَّ حدوث المقصود من نزولها.
ولقد جعل ﷾ مواضيعها الأساسية مكررة في كثير من السور بأساليب مختلفة لتتم بها التذكرة في أي موضع يلتقي فيه المسلم مع القرآن، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ [الفرقان: ٥٠].
ولأن المعنى هو المقصود من القراءة كان الأمر بالإنصات لها، وتدبرها، وإعمال العقل في فهم المقصود من خطابها، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩].
1 / 9
كل هذا وغيره ليحدث المقصد الأعظم من نزول القرآن، ألا وهو هداية الناس إلى الله ﷿ واستنقاذهم من طريق الشيطان، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧].
1 / 10
الفصل الثاني
جوانب الهداية في القرآن
1 / 11
أنزل الله ﷿ القرآن لمقصد عظيم، ألا وهو هداية البشر إليه وإلى طريقه المستقيم، وقيادتهم إلى جنته ورضوانه، وإنقاذهم من إبليس ومن المصير الذي يقودهم إليه.
يقول تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦].
فالقرآن حبل الله الممدود بين السماء والأرض، مَن تمسَّك به نجا من الهلاك كما قال ﷺ: " أبشروا، أبشروا! أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: نعم قال: فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضللوا ولن تهلكوا بعده أبدًا" (١).
إنه المصباح الذي اجتبى به ﷾ هذه الأمة، فلا سبيل لهدايتها إلا به، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: ٤٤].
مفهوم الهداية:
القارئ للقرآن المتدبر لمعانيه، يجده كثيرًا ما يصف نفسه بأنه نور وهدى للناس .. فماذا تعني كلمة الهداية، وكيف تكون؟
قال ﷺ لعلي بن أبي طالب ﵁: " يا علي، سل الله الهدى والسداد، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك السهم" (٢).
فمعنى الهداية بصفة عامة: معرفة الطريق الصحيح الموصل للهدف الذي يسعى المرء لبلوغه.
فإن كان الأمر كذلك، فما هو هدف المسلم في الحياة وكيف يبلغه؟
أليس الهدف هو: رضا الله ﷿ ودخول جنته، كما في الدعاء " اللهم إني أسألك رضاك والجنة "؟
ولقد أخبرنا ﷾ بأنه ليس هناك إلا طريق واحد يؤدي إلى هذا الهدف، ألا وهو: الصراط المستقيم.
قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
والطرق التي تُحيط بالصراط كثيرة، ويقف على رأس كل منها شيطان يدعو الناس إليه، كما أخبرنا بذلك المعصوم ﷺ.
فعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: خط رسول الله ﷺ خطًّا بيده، ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيمًا " وخطَّ عن يمينه وشماله ثم قال: " هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (٣) [الأنعام: ١٥٣].
هذا الطريق المستقيم ينبغي على المسلم أن يعرفه من بين الطرق الأخرى المحيطة به، وأن يسير فيه طيلة حياته حتى يلقى ربه ..
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه ابن حبان (١/ ٣٢٩، برقم ١٢٢)، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة (رقم ٧١٣).
(٢) حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد (١/ ٨٨ رقم ٦٦٤)، والنسائي (٨/ ١٧٧، رقم ٥٢١٠)، والحاكم (٤/ ٢٩٨ رقم ٤٧٧٠٠)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم ٧٩٥٢).
(٣) أخرجه الإمام أحمد (٧/ ٤٣٦ برقم، ٤٤٣٧)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
1 / 12
فكيف له ذلك؟
لم يشأ ﷾ أن يترك الإنسان بدون دليل يدله على الصراط، ويهديه إليه .. فكان القرآن.
قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠].
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩].
ولقد بيَّن ذلك رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه عنه النواس بن سمعان، قال: " ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا ولا تتعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعى على رأس الصراط كتاب الله، والداعى من فوق واعظ الله فى قلب كل مسلم» (١).
كيفية الهداية القرآنية:
هداية القرآن للإنسان تتم من خلال كشفه وإنارته لكل الجوانب التي تتعلق بحركة الإنسان الخارجية، وكذلك كل ما يوجد بداخله من جوانب غامضة، وأسئلة حائرة، وتصورات خاطئة. فالقرآن يكشف هذه الجوانب، ويوجهها الوجهة الصحيحة، وهو ما يعبر عنه " بسُبل السلام "، فهدفه الأساسي الوصول بمن يتبعه إلى بر الأمان في كل ما يتعلق به من أمور الدنيا قبل الآخرة.
يقول تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦].
فمن خلال القرآن يحدث الانسجام بين المرء وفطرته المجبولة على عبادة الله ﷿، وبه يحدث السلام بينه وبين نفسه، وبينه وبين من حوله من أفراد، وكذلك مع الكون المحيط به، ومع كل ما في يديه من أدوات مثل الأولاد والمال.
هذا على سبيل الإجمال.
أما على سبيل التفصيل: فعندما يوجد الإنسان في الدنيا، ويبدأ عقله في النمو والتمييز والإدراك، ويصل إلى سن البلوغ، فمن الطبيعي أن تتوارد على عقله تساؤلات كثيرة تتردد داخله من مثل هذا النوع وغيرها:
١ - من الذي خلقني وخلق الناس جميعًا؟ ما اسمه، وكيف أتعرف عليه، وما الدليل الذي يؤكد على أنه الخالق، فهناك الكثير من الآلهة المزعومة؟! [من هو الله؟].
ولماذا خلقني هذا الإله، وميزني عن سائر ما أجد من مخلوقات؟ ما المطلوب مني؟! [واجبات العبودية].
٢ - اسمع عن شخص اسمه محمد ﷺ، قد أرسله الله ﷿ إلى البشر، معه رسالة منه - سبحانه - فمن هو هذا الرسول، وما دوره، وما طبيعة رسالته التي يحملها؟
٣ - أرى الناس تتسابق على جمع المال، وعلى التمتع بما في الدنيا من زينة، ومع ذلك أراهم يموتون دون أن يأخذوا من دنياهم شيئًا، فلماذا إذا يتكالبون عليها؟
وأرى كذلك أُناسًا قد حُرموا الغنى، وآخرين حُرموا الصحة، وآخرين حُرموا الأولاد ..
فلماذا لا يكون الجميع سواسية؟ ... وماذا بعد الموت؟ [قصة الوجود].
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه أحمد (٤/ ١٨٢، رقم ١٧٦٧١)، والحاكم (١/ ١٤٤، رقم ٢٤٥)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (٣٨٨٧).
1 / 13
٤ - أشعر بنوازع ودوافع تدفعني إلى الفجور، والاستئثار بكل خير والتطلع لما عند الآخرين، وأشعر كذلك بصوت من داخلي يؤنبني على بعض ما أفكر فيه وأقوم به .. فمن أنا؟ وما الذي يحدث بداخلي؟ وكيف تهدأ أمواج الخواطر والتطلعات، وأحلام اليقظة التي تضطرم في كياني؟ [من هو الإنسان].
٥ - أشعر في بعض الأحيان وكأن هناك من يدفعني لفعل الشر، ويعمل على إبعادي عن القيام بأعمال الخير، وهذا لا يأتي إلا من عدو .. فمن هو هذا العدو؟ وكيف أتقيه؟ [من هو الشيطان؟].
٦ - أجد نفسي في كون فسيح مليئ بالمخلوقات من نبات وحيوان وجماد، فما علاقتي به، وكيف أتعامل معه؟ وهل ما أراه بعيني فقط هو الموجود في هذا الكون أم هناك مخلوقات لا أراها، فأنا لا أرى الهواء مثلًا ولكنني أشعر بوجوده!! [التعرف على الكون].
٧ - ألاحظ أن الكون من حولي يسير وفق نظام دقيق: فالشمس تُشرق في الصباح وتغرُب في المساء، والفصول الأربعة تتوالى بدقة متناهية، ودورة حياة الإنسان تسير بنظام ثابت، وكذلك الحيوان والنبات .. فهناك إذن نظام وقوانين تحكم كل شيء، فما هي تلك القوانين؟ وكيف أعرفها لأستفيد بها؟ [القوانين الحاكمة للكون والحياة].
٨ - أجد نفسي بين أبوين وأشقاء وجيران، ثم زوجة وأولاد وزملاء .. فما شكل العلاقة التي ينبغي أن أتعامل بها مع هؤلاء؟! [حقوق العباد بعضهم على بعض].
٩ - أجد الكثير من الناس حولي تائهين يسيرون في طرق متعددة، بعضهم لا يعتقد بأن هناك إلهًا للكون، والآخر يدَّعي أن إلهه فلان، وتتعدد المزاعم، ويُثيرون الشُبهات حول الإله الحق .. فلماذا لا يتَّبع الناس الحق، وكيف ندعوهم إليه؟ [لماذا لا يتبع الناس الحق؟].
١٠ - أسمع عن أُناس جاءوا إلى الدنيا قبلي ثم خرجوا منها ... فماذا كان حالهم؟ وماذا فعلوا من صواب لأقوم به، ومن خطأ فأجتنبه؟ [العبرة من قصص السابقين].
مثل هذه الأسئلة وغيرها ينبغي أن تتردد في ذهن كل عاقل يبحث عن سر وجوده، وبالإجابة عنها يهتدي المرء إلى سُبل السلام، ويعيش في سكينة وطمأنينة.
ولأن القرآن كتاب هداية فقد أفرد للإجابة عن هذه الأسئلة العشرة مساحات كبيرة فيه، وكررها في مواضع متعددة ليتم بها دوام التذكر، وفي الصفحات القادمة سيتم بمشيئة الله وعونه وفضله عرض نماذج للإجابة عن هذه الأسئلة من خلال القرآن ليستأنس بها الواحد منا عندما يبدأ عهده الجديد مع القرآن بالبحث عن جوانب الهداية فيه.
الجانب الأول للهداية القرآنية
التعرف على الخالق (من هو الله؟)
وواجبنا تجاهه (واجبات العبودية)
التعرف على الخالق من أهم جوانب الهداية، بل إنه المفتاح الذي يفتح الباب للجوانب الأخرى. وإن كنَّا نحن المسلمين قد عرفنا من هو الإله الحق - رب العالمين - فإن هذه المعرفة تحتاج إلى كثير من التفاصيل لتترسخ مدلولاتها داخلنا، فينعكس ذلك على شكل العلاقة بيننا وبينه ﷾.
فعلى سبيل المثال عندما يتعرف الواحد منّا على شخص ما معرفة عامة، فإن نظرته له ستكون نظرة عادية مثله مثل غيره لا تلفت انتباهه، فإذا ما اقترب منه وازدادت معلوماته عنه وعن قدراته، وخبراته وشهاداته، أو المنصب الذي يتولاه، فإن هذا من شأنه أن يزيده احترامًا وهبية وتقديرًا لهذا الشخص مما سينعكس على طريقة تعامله معه، والتي بلا شك ستختلف كثيرًا عما كان من قبل.
1 / 14
المعرفة طريق الخشية والإجلال:
فعلى قدر معرفة الله ﷿ تكون الخشية منه، وعلى قدر الخشية تكون المراقبة، والمبادرة إلى الخيرات، وترك المنهيات، كما في الدعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) (١).
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠، ١٩١].
فبينت هذه الآيات أن التفكر في خلق السماوات والأرض قاد هؤلاء الصالحين إلى المعرفة ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾، وأن المعرفة قادتهم إلى الخشية ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
ونلمح ذلك المعنى في قوله تعالى على لسان سيدنا موسى ﵇ وهو يخاطب فرعون ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: ١٩]، ففرعون لا يعرف الله ﷿، لذلك لا يخشاه ولا يحسب له حسابًا، وموسى ﵇ يُريد أن يعرِّفه به حتى يخشاه فينتهي عما يفعله.
وكذلك فعل نوح ﵇ مع قومه ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: ١٣ - ١٦].
وعندما سأل موسى ربه: يارب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي (٢).
كيف نعرف الله؟
الله ﷿ أخبرنا بأنه ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣].
وأنه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
وأنه: ﴿لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠].
فما السبيل إذن إلى معرفته؟!
نعم لا يعرف الله إلا الله ﷾ كما قال ﷺ: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (٣).
ومع ذلك فقد أتاح لنا ﷾ جزءا من المعلومات عنه بدرجة تتحملها عقولنا من خلال ما أخبرنا به من أسمائه وصفاته، والتي أودع مظاهرها وآثارها في مخلوقاته، وبقدر التتبع لهذه الآثار وربطها بالأسماء والصفات تكون المعرفة.
فالقاعدة تقول: " من آثارهم تعرفونهم "، فعندما يصف الناس شخصا ما بأنه محسن - مثلًا - فإن هذا الوصف لن يقع موقعه في النفس إلا إذا رأيت آثار إحسانه .. وكلما تتبعت تلك الآثار وشاهدتها بنفسك يزداد يقينك بصحة هذا الوصف .. ولله المثل الأعلى.
فالله ﷿ لا نستطيع أن نراه في الدنيا، ولكنه ﷾ خلق هذا الكون كله وجعله يدل عليه، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣]. وأخبرنا ﷾ بأن له أسماء وصفات أودع آثارها في كونه ومخلوقاته.
إذن فالطريقة السهلة لمعرفة الله ﷿: أن نتعرف على آثار أسمائه وصفاته، قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢٠، ٢١]. وعلى قدر التتبع والتفكر في هذه الصفات تزداد المعلومات عن الله ﷿ فينعكس ذلك على القلب بزيادة جوانب العبودية فيه.
_________
(١) حديث حسن: أخرجه النسائي (٦/ ١٠٦، رقم ١٠٢٣٤)، والترمذي (٥/ ٥٢٨، رقم ٣٥٠٢)، والحاكم (١/ ٧٠٩، رقم ١٩٣٤)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (١٢٦٨).
(٢) إسناده صحيح: أخرجه الدارمي في سننه (١/ ١١٤ برقم ٣٦٢)، وابن المبارك في الزهد، ص (٧٥)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح، وهو منقطع إلى عطاء.
(٣) حديث صحيح: أخرجه مسلم (١/ ٣٥٢، رقم ٤٨٦)، وغيره.
1 / 15
دور القرآن في معرفة الله:
من أهم سمات القرآن أنه كتاب تعريف بالله ﷿ فأكبر مساحة فيه تتحدث عنه سبحانه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله.
أما الطريقة التي ينتهجها القرآن في تعريف الناس بربهم عن طريق أسماءه وصفاته فتتلخص في هذه النقاط:
١ - التعريف بالصفة.
٢ - وصف الصفة.
٣ - عرض آثار هذه الصفة.
٤ - العبودية المستحقة لها، وكيفية القيام بها، مع بيان صور الانحراف عنها.
نماذج تطبيقية:
١ - أخبرنا القرآن بأن الله واحد - أحد - (صفة الوحدانية).
وصف القرآن هذه الصفة بعدة أوصاف منها أنه ﷾ لا شريك له، ولا إله إلا هو، ولم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
- من آثار تلك الصفة:
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢].
وقوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: ٩١].
وقوله: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان: ١١].
ويرشدنا القرآن إلى العبودية الواجبة لهذه الصفة ألا وهي توحيده ﷾، وإخلاص العبادة له.
قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥].
ويحذرنا من الوقوع في الشرك بالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ١١٦].
ويبين لنا مظاهر الشرك بالله، وعاقبة المشركين في الدنيا والأخرة.
قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨].
٢ - الله ﷿ أخبرنا بأنه الوهاب - الرزاق - المنان - البر - المعطي -والتي يجمعها صفة الإنعام.
- وصف الصفة: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣].
- مظاهر الصفة وآثارها في الكون والنفس:
مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك: ٢٣].
وقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعً﴾ [الجاثية: ١٣].
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: ٢١].
- العبودية المطلوبة: الشكر.
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨].
صور الانحراف عن العبودية: الإعراض عن الشكر (الجحود ونكران النعم).
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢].
٣ - الله ﷿ أخبرنا بأنه عزيز- قهار- قاهر- ويجمعها صفة العزة والقهر.
وصف الصفة: والله غالب على أمره - يفعل ما يريد - إن الله بالغ أمره.
آثار الصفة: مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٦].
1 / 16
وقوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشورى: ٤٩، ٥٠].
- العبودية المطلوبة: الاستسلام والانكسار لله ﷿.
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: ١٨٨].
من صور الانحراف عن هذه العبودية:
مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل: ٥٨].
٤ - الله ﷿ وصف نفسه بأنه الملك.
وصف الصفة: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٢٨٤].
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: ٢].
من آثار تلك الصفة: قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦].
العبودية المطلوبة: طاعة أوامره.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨].
- من صور الانحراف عن هذه العبودية: الفسوق والعصيان.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٧].
الجانب الثاني
الرسول والرسالة
من جوانب الهداية في القرآن: التعريف برسولنا ﷺ، وبالرسالة التي حملها إلى البشر.
قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ١].
فرسولنا ﷺ بشر مثلنا، كلفه ربه بحمل رسالته وتبليغها إلي الناس.
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: ١١٠].
وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١].
هذا التبليغ يشمل شرح الرسالة القرآنية، وتفصيل المجمل منها.
قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤].
ولقد قام ﷺ بهذ الدور خير قيام، فالناظر إلى سنته يجد أنها مكملة للقرآن ومفصلة له كما جاء في الحديث: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" (١).
ففي القرآن والسنة عصمة من الضلال كما قال ﷺ: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتى" (٢).
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه أحمد (٢٨/ ٤١٠) برقم (١٧٢١٣) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (٢٦٤٣).
(٢) حديث صحيح: أخرجه الحاكم (١/ ١٧٢، رقم ٣١٩) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (٢٩٣٧).
1 / 17
ولقد تعرض الرسول ﷺ لكثير من المضايقات، واتُّهم بالعديد من الاتهامات والافتراءات فصبر على ذلك حتى نصره ربه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الروم: ٦٠].
وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧].
تربيته ﷺ على تمام العبودية:
وكما يُعرفنا القرآن برسولنا ﷺ ودوره العظيم، فإنه كذلك يُبين لنا كيفية تربيته ﷺ على تمام العبودية لربه، ليكون لنا نعم الأسوة.
مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٨].
وقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: ١٣٠، ١٣١].
واجبنا نحوه ﷺ:
وفي القرآن تعريف بما هو مطلوب منًا تجاهه صلى الله علي وسلم.
فمن ذلك: طاعته ﷺ.
قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [آل عمران: ٣٢].
ومن لوازم طاعته ﷺ السير في طريقه، واتباع سنته:
قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧].
وعلينا كذلك حبه، وتوقيره، والصلاة عليه.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١].
الرسالة القرآنية:
ومع التعريف برسول الله ودوره، وواجبنا نحوه، يأتي التعريف بالقرآن ذاته ليُدرك الناس مدى أهميته:
فالقرآن كتاب هداية كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩].
يُخاطب العقول فيُقنعها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٧٤].
ويؤثر على المشاعر فيؤججها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧].
يزيد الإيمان: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: ٢].
ويبني اليقين الصحيح: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِين﴾ [الحاقة: ٥١].
الجانب الثالث
التعريف بالإنسان (١)
خلق الله ﷿ الإنسان وجعله مكونا من عقل وقلب ونفس وجوارح.
العقل:
أما العقل: فلقد جعله ﷾ محلًا للعلم والمعرفة، به كرَّم الإنسان على سائر مخلوقاته، وأودع فيه من الأسباب والقدرات ما يمكنه من الوصول إلى معرفته بدرجة لم يصل إليها مخلوق من قبل، وليس أدل على هذا من تلك الاختراعات التي وصل إليها العقل كالحاسب الآلي ومركبات الفضاء ... إلخ.
_________
(١) سيتم بمشيئة الله بسط القول في هذا الموضوع في الفصل الثالث: القرآن والتغيير.
1 / 18
والأمر اللافت للانتباه أن الأبحاث الحديثة قد أثبتت أن الإنسان لا يستخدم إلا جزءا يسيرا من قدراته العقلية، فلا تزال في العقول إمكانات هائلة معطلة ..
ولا شك أن أي عاقل لا يستخدم عقله ولا يستفيد مما حباه الله به قد أهان نفسه، وسفهها بحرمانها فائدة هذا العضو الشريف.
نعم، إن الناس يتفاوتون في قدرات عقولهم، ومع هذا التفاوت فإن الحد الأدنى عند كل عاقل كفيل بأن يُعينه على معرفة الله ﷿.
من هنا نجد أن القرآن يُعلي من شأن العقل، فتراه يستحث قارئه على استخدامه، فنجد الكثير من الآيات تنتهي بقوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
ولأجل أن يستخدم الإنسان عقله في الوظيفة التي خُلة لها نجد القرآن يدعوه إلى تحرير هذا العقل من أسر التقاليد والأعراف الخاطئة، مثل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: ٢٣، ٢٤].
فتحرير العقل واستخدامه فيما خُلق من أجله مع ضبطه بضوابط الشرع من أهم الوظائف التي يقوم بها القرآن، فمن خلال الفكر الصحيح يصل المرء إلى صحة النقل، فقضية الوحدانية على سبيل المثال خاطب فيها القرآن العقل، كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤].
فالقرآن إذن يُعرِّف الإنسان بقيمة عقله ويُعلي من شأنه، ويحترمه ويدعوه إلى استخدامه في التفكر، وفهم المقصود من الخطاب، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
والقرآن كذلك يعرض صورا لأناس أهانوا عقولهم، وعطلوها، فأصبحوا شر الدواب، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: ٢٢].
النفس:
من تعريفات النفس أنها مجموعة الشعوات والرغائب داخل الإنسان، ومن طبيعتها أنها تحب الراحة وتكره التكليف، وتعمل على الحصول على شهواتها وحظها في كل فعل يقوم به العبد ... لا تنظر إلى العواقب، كالطفل الذي يلح على أبويه في الحصول على شيء قد يكون فيه حتفه، فهي كما وصفها القرآن ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣].
- شحيحة، تحب الاستئثار بكل خير، قال تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨].
- لديها قابلية للفجور والطغيان إذا ما أُرخي لها العنان، ولديها كذلك القابلية للانكماش والحذر إذا خوفت، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧، ٨].
أما الهوى فهو ما تميل إليه النفس من شهوات ورغائب.
إذن فالنفس هي العقبة الكئود بيننا وبين الله ﷿، ولقد خلقها الله ﷾ بهذه الصفات ليختبر مدى عبوديتنا له .. وهنا يأتي دور القرآن العظيم في تعريف الناس بأنفسهم ونقاط ضعفها وخطورتها، وما فيها من قابليات، ويُرشدهم إلى طريق تزكيتها، ومجاهدتها على القيام بطاعة الله بصدق وإخلاص.
1 / 19