Religious Rulings on the Epidemic and Plague: A Jurisprudential Study of the Rulings Related to the Coronavirus
الأحكام الشرعية المتعلقة بالوباء والطاعون مع دراسة فقهية للأحكام المتعلقة بفيروس كورونا
ناشر
خير زاد للنشر والطباعة
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
٢٠٢٠ م
پبلشر کا مقام
القاهرة - مصر
اصناف
المقدمة
الحمد لله الواحد القهار، خلق الداء والدواء والمنافع والمضار، بيده الخير والشر، والنفع والضر، والنهي والأمر، لا إله إلا هو العزيز الغفار، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقدوة المتوكلين، وعلى آله وصحبه الأبرار.
أما بعد:
فهذه ورقات يسيرة، جمعت فيها ما يحتاجه السائلون، في أحكام الوباء والطاعون، وذلك بعد تفشي الأوبئة، وكثرة انتشارها في هذه الأزمنة، ومن آخرها ما حل في البلاد الصينية، وانتشر في شتى بقاع الكرة الأرضية، حتى حل بالبلاد العربية، من الفيروس الموسوم بـ «فيروس كورونا».
فاستعنت بالله في جمع ما تفرق، وتأليف ما تشتت، من مسائل هذا الباب وأحكامه، مع الحرص على الإيجاز والاختصار، والبعد عن التفصيل والإكثار، لعل ما كتبته يكون فاتحة للعلماء والباحثين، لمزيد من البحث والتنقيب، والتحرير والتقريب، لمسائل هذا الباب وأحكامه (^١)،
_________
(^١) وهذا ما حدث والحمد لله رب العالمين فقد ظهرت بعد كتابة هذا البحث كثير من الرسائل والأبحاث، وعقدت بعض المؤتمرات لمناقشة الأحكام الشرعية المستجدة في النازلة الحاصلة، ولعل القارئ يجد عذرا لي في عدم ذكر بعض المسائل التي لم تكن مطروقة على الساحة وقت كتابة البحث، وذلك لأن كتابته كانت في وقت مبكر، وهذه المسائل إنما استجدت فيما بعد، وقد سخر الله لها عدد من العلماء والباحثين الذين بينوا أحكامها، ووضحوا مسائلها، والحمد لله رب العالمين.
1 / 5
خصوصًا مع مسيس الحاجة إليه، وشح الكتابات فيه، والله أسأل العون والإمداد، والتوفيق والسداد، ومنه أرجو النفع والفائدة، والأجر والعائدة، فهو سبحانه خير مسئول، وأفضل مأمول.
وجعلته على فصول أربعة:
الفصل الأول: حقيقة الطاعون والوباء وفضله والمسائل المتعلقة بذلك.
الفصل الثاني: أحكام البلد المصاب بالطاعون والوباء والمسائل المتعلقة بذلك.
الفصل الثالث: سبل رفع الطاعون والوباء ودفعهما والمسائل المتعلقة بذلك.
الفصل الرابع: بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالوباء والطاعون.
أبو عبد العزيز هيثم بن قاسم الحمري
مملكة البحرين - حرسها الله -
الأربعاء ٩/ ٧/١٤٤١ هـ - الموافق ٤/ ٣/٢٠٢٠ م
للتواصل بالملحوظات: hq-١٩٩١@hotmail.com
1 / 6
الفصل الأول
في حقيقة الطاعون والوباء
وفضله والمسائل المتعلقة بذلك
1 / 7
• المسألة الأولى: تعريف الطاعون والوباء والفرق بينهما:
اختلف العلماء في تعريف الطاعون وتحديد ماهيته، ولهم في ذلك مسلكان اثنان:
المسلك الأول: تعريف الطاعون بالمرض العام المهلك، وهذا التعريف عام يشمل كل مرض معد واسع الانتشار يؤدي للموت العام، وقد سلك هذا المسلك جمع من العلماء وأهل اللغة، وتنوعت عبارتهم في ذلك:
فمنهم من عبر عنه: بالمرض العام كما فعل ابن الأثير (^١)، وابن منظور (^٢)، وصاحب المصباح المنير (^٣).
ومنهم من عبر عنه بالوباء، كما فعل الجوهري (^٤)، وابن الملقن (^٥)، والكرماني (^٦)، والقرطبي (^٧)، والداوودي (^٨)، والفيروز آبادي (^٩)، والعيني (^١٠).
_________
(^١) النهاية (٣/ ١٢٧).
(^٢) لسان العرب (١٣/ ٢٦٧).
(^٣) المصباح المنير (٢/ ٣٧٣).
(^٤) الصحاح (٦/ ٢١٥٨).
(^٥) التوضيح (٦/ ٤٣٤).
(^٦) الكواكب الدراري (٥/ ٤٢، ٩/ ٦٩).
(^٧) المفهم (٣/ ٧٥٧).
(^٨) بذل الماعون (ص: ٩٦).
(^٩) القاموس المحيط (ص: ١٢١٣).
(^١٠) عمدة القاري (٥/ ١٧١).
1 / 9
وعبر عنه ابن العربي: بالوجع الغالب الذي يطفئ الروح (^١).
وقال أبو الوليد الباجي: مرض يعم كثيرًا من الناس في جهة من الجهات … ويكون مرضهم واحدًا (^٢).
وقال ابن حزم: هو الموت الذي كثر في بعض الأوقات كثرة خارجة عن المعهود (^٣).
وهذا المسلك هو الذي ارتضاه صاحب عون المعبود (^٤)، ومال إليه الشيخ ابن عثيمين ﵀ تعالى (^٥).
المسلك الثاني: تعريف الطاعون بنوع خاص من الأوبئة المعدية القاتلة، وهو ما ينتج عنه القروح والبثور الجلدية، وانتفاخ الغدد وتوهجها، وغالبًا ما تكون هذه الأورام خلف الأذن والآباط واللحوم الرخوة.
وممن سلك هذا المسلك في تعريف الطاعون ابن عبد البر (^٦)، والنووي (^٧)،
_________
(^١) المسالك في شرح موطأ مالك (٣/ ٥٧٣).
(^٢) المنتقى شرح الموطأ (٧/ ١٩٨).
(^٣) المحلى بالآثار (٣/ ٤٠٣).
(^٤) عون المعبود وحاشية ابن القيم (٨/ ٢٥٥).
(^٥) شرح رياض الصالحين (٦/ ٥٦٩).
(^٦) الاستذكار (٣/ ٦٨).
(^٧) تهذيب الأسماء واللغات (٣/ ١٨٧).
1 / 10
والقاضي عياض (^١)، وابن القيم (^٢)، وابن حجر العسقلاني (^٣)، وابن نجيم المصري (^٤)، والخرشي المالكي (^٥)، والزرقاني (^٦)، والغزالي (^٧)، والبندنيجي (^٨)، وإبراهيم الحربي في غريب الحديث (^٩).
وقد ذكر القاضي عياض (^١٠)، ومثله ابن حجر العسقلاني (^١١)، وابن حجر الهيتمي (^١٢)، أن الطاعون مع كون حقيقته مختصة بالمرض المذكور إلا أنه قد يطلق على غيره من الأوبئة بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت (^١٣).
وقد جاء في حديث عائشة ﵂: «فناء أمتي بالطعن والطاعون» قالت: فقلت يا رسول الله! هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال:
_________
(^١) إكمال المعلم (٧/ ١٣٢).
(^٢) الطب النبوي لابن القيم (ص: ٣١).
(^٣) فتح الباري لابن حجر (١٠/ ١٨٠).
(^٤) ضبط أهل النقل (ص: ٤).
(^٥) شرح مختصر خليل (٤/ ١٥٥).
(^٦) شرح الموطأ (١/ ٤٦٣).
(^٧) انظر: بذل الماعون (ص ٩٨).
(^٨) المصدر السابق (ص: ٩٨).
(^٩) المصدر السابق (ص: ٩٥).
(^١٠) إكمال المعلم (٧/ ١٣٢).
(^١١) فتح الباري لابن حجر (١٠/ ١٨٠).
(^١٢) الفتاوى الكبرى (٤/ ٢٧).
(^١٣) فتح الباري (١٠/ ١٨٠) الفتاوى الفقهية الكبرى (٤/ ٢٧).
1 / 11
«غدة كغدة الإبل …» (^١).
ووصف النبي ﷺ للطاعون بغدة كغدة البعير، يؤيد ما ذهب له الفريق الثاني من اختصاص الطاعون بالطاعون المشهور الذي يكون فيه تورم الغدد انتفاخها، ومما يؤيده كذلك: حديث العرباض بن سارية ﵁: «يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا ﷿ في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا، فيقول ربنا ﷿: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم» (^٢)؛ فوصف إصابتهم بالطاعون بالجروح يؤكد كذلك ما ذهب له الفريق الثاني، والله أعلم.
وإذا نظرنا لتعريف أهل الطب والاختصاص للطاعون، نجد أن الأطباء القدامى يعرفون الطاعون بما عرفه به أصحاب القول الثاني، وهو: الأورام والقروح التي تظهر على وجه مخصوص، كما نقل ذلك الذهبي وابن القيم في كتابيهما في الطب النبوي عن أهل الطب (^٣)، وهذا ما ذكره ابن سينا في كتابه قانون الطب حيث قال: «إذا
_________
(^١) أحمد (٢٦١٨٢)، صححه الألباني في الإرواء (١٦٣٨).
(^٢) أحمد (١٧١٥٩) والنسائي (٣١٦٤) حسنه الألباني في صحيح الجامع (٨٠٤٦).
(^٣) انظر: الطب النبوي للذهبي (ص: ٢٦٥) والطب النبوي لابن القيم (ص: ٣٠).
1 / 12
وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن وخلف الأذنين والأرنبة وكان من جنس فاسد سمي طاعونًا» (^١). وذكر ابن سينا أن الطاعون كان يطلق على كل ورم يكون في الأعضاء الغددية اللحم والخالية، ثم أصبح يطلق على كل ورم قتال … يعرض في أكثر الأمر في الأعضاء الضعيفة مثل الآباط والأربية وخلف الأذن (^٢).
وأما في الطب المعاصر، فإن منظمة الصحة العالمية، وهي أعلى منظمات الصحة الدولية، تعرف الطاعون بأنه: مرض تسببه بكتيريا حيوانية المنشأ تدعى اليرسنية الطاعونية، وينتقل الطاعون عن طريق لدغ البراغيث المصابة أو بالملامسة أو بالرذاذ الخارج من الجهاز التنفسي للمصاب بالطاعون الرئوي.
وفي موقع وزارة الصحة للمملكة العربية السعودية: الطاعون هو مرض معدٍ شديد الخطورة تسببه بكتيريا، وينتقل عن طريق البراغيث؛ حيث كان يعد من الأمراض الوبائية شديدة الانتشار، والذي أودى بحياة الملايين في السابق.
وتجعل منظمة الصحة العالمية للطاعون ثلاثة أشكال رئيسة:
١ - الطاعون العقدي (الدملي أو الدبلي)، وهو ينجم عن لدغة
_________
(^١) القانون في الطب (١/ ١٠٨).
(^٢) المصدر السابق (٣/ ١٦٤).
1 / 13
برغوث مصاب بعدوى المرض وتظهر أعراضه في الجلد بظهور انتفاخات وأورام وقروح، وغالبًا ما تكون تحت الإبطين وأعلى الفخذ وخلف الأذنين والرقبة، وهذا النوع هو الأشهر، وهو المتعارف عليه قديمًا.
٢ - الطاعون الدموي تلوث الدم: وهو ينتج عن عدم علاج الطاعون الدبلي، حيث تنتشر العدوى في الدم وينخر الأنسجة ويحول لونها إلى الأسود، وتظهر القروح والأورام.
٣ - الطاعون الرئوي: وهو الذي يصيب الرئتين (^١).
والخلاصة في أقوالهم في مسألة التفريق بين المرض والوباء والطاعون:
أن أي إصابة في جسم الإنسان تسبب خللًا او اضطرابًا في شيء من وظائفه، تسمى (مرض)، ثم إن هذا المرض قد يقتصر تأثيره على الشخص المصاب وهو (المرض غير المعدي)، وقد يكون معديًا بحيث ينتقل لغيره وهو (المرض المعدي).
وهذا المرض المعدي إما أن يكون انتقاله محدودًا، فينتقل من الفرد المصاب إلى أشخاص محدودين في نطاق محدود على الوجه
_________
(^١) راجع: الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية على الشبكة العنكبوتية، والمحتوى التثقيفي في الموقع الرسمي لوزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، وانظر كذلك: بذل الماعون في فضل الطاعون (٩٢ - ١٠٠) مع مقدمة المحقق ص: (٢٢ - ٢٣) ودائرة معارف القرن العشرين (٥/ ٧٣٧).
1 / 14
المعتاد، وإما أن يكون انتشاره سريعًا وواسعًا ويتفشى في المجتمع على خلاف العادة، فهذا الأخير هو الذي يعبر عنه أهل اللغة والطب بـ (الوباء) (^١)، ثم إن انضاف لهذا الوباء أن يكون مع سعة انتشاره قاتلًا مميتًا، فهذا ما يرى كثير من أهل اللغة والفقه أنه يسمى (طاعونًا)، بينما يرى فريق آخر من العلماء وأهل اللغة أن الطاعون نوع خاص من أنواع الأوبئة الفتاكة، وهو ما ينتج عنه قروح وأورام رديئة تخرج على وجه مخصوص، فليس كل وباء فتاك يعتبر طاعونًا في اصطلاحهم.
وهذا القول في وجهة نظر الباحث هو الأقوى؛ وذلك لورود النص الشرعي الواضح في تفسير الطاعون به، كما سبق بيانه، قال ابن عبد البر ﵀: «وأما قوله: «المطعون شهيد» فهو الذي يموت في الطاعون، وقد جاء تفسير الطاعون في حديث عائشة قالت قال رسول الله ﷺ: «إن فناء أمتي بالطعن والطاعون» قالت: أما الطعن فقد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط من مات منه مات شهيدًا» (^٢).
وبناء على الاختلاف في نظرة العلماء لمفهوم الطاعون، وقع
_________
(^١) انظر في تعريف الوباء: العين (٨/ ٤١٨) المحيط (٢/ ٨٥) النهاية (٥/ ١٤٤) التعريفات (ص: ٣٥) لسان العرب (١/ ١٨٩) مفاتيح العلوم (ص: ١٩٠) المجموع المغيث (٣/ ٣٧٧) معجم لغة الفقهاء (ص: ٤٩٨) مختار الصحاح (ص: ٣٣٢).
(^٢) الاستذكار (٣/ ٦٩).
1 / 15
الاختلاف في تنزيل الأحكام الشرعية الواردة في الطاعون على كثير من الأمراض الفتاكة التي تنتشر بين الناس.
• المسألة الثانية: هل فيروس كورونا يعتبر طاعونًا:
بناء على ما تقدم من الاختلاف في تعريف الطاعون، يقع الخلاف في تصنيف (فيروس الكورونا) وغيره من الأوبئة المنتشرة هل تعد طاعونًا أم لا؟ وقد ذهب إلى أن (فيروس كورونا) في حكم الطاعون فضيلة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي العام للمملكة العربية السعودية، وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد البدر، وفضيلة الشيخ سليمان الرحيلي حفظهم الله جميعا، وسبق أن أفتى فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان في وباء أنفلونزا الخنازير بأنه في حكم الطاعون ومن مات فيه من أهل الإسلام كان شهيدًا، وإذا رجحنا هذا القول ونظرنا لما ذكره أهل الطب المعاصر في أشكال الطاعون فإن فيروس كورونا النازل يشبه أن يكون من النوع الثالث من أنواع الطاعون، ألا وهو الطاعون الرئوي، والله أعلم.
على أن الأظهر من أقوال أهل العلم كما سبق بيانه أن الطاعون نوع خاص من أنواع الأوبئة، ولا تنطبق أوصافه على فيروس كورونا المعاصر، كما جاء وصفه في السنة النبوية: «غدة كغدة البعير»، ويؤكد هذا ما ذُكِرَ من دخول هذا الفيروس إلى المدينة النبوية قبل عدة سنين، وسيأتي بيان أن من خصائص الطاعون عدم دخول المدينة المنورة، والله أعلم.
1 / 16
• المسألة الثالثة: الطاعون وخز أعدائنا من الجن:
جاء في حديث أبي موسى الأشعري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «فناء أمتي بالطعن والطاعون». فقيل: يا رسول الله! هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهداء» (^١)، والوخز: طعن غير نافذ.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطاعون منه ما يكون بسبب الجن، ومنه نوع آخر يكون بسبب الأدواء والتغيرات الطبيعية (^٢)، وذهب ابن حجر للجمع بين الأمرين فأصله من الجن وينتج عنه التغيرات الظاهرة في البدن (^٣).
قال ابن القيم: «وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يدل عليها، والرسل تخبر بالأمور الغائبة» (^٤).
_________
(^١) أحمد (١٩٥٢٨)، وصححه الألباني الإرواء (١٦٣٧).
(^٢) انظر: بذل الماعون (ص: ١٠٦ - ١٠٧) ونسب هذا القول للكلاباذي في معاني الأخبار.
(^٣) انظر: المصدر السابق (ص: ١٠٨)
(^٤) زاد المعاد في هدي خير العباد (٤/ ٣٦): وقال ﵀: «في كون الطاعون وخز أعدائنا الجن حكمة بالغة، فإن أعداءنا منهم شياطينهم، وأما أهل الطاعة منهم فهم إخواننا، والله أمرنا بمعاداة أعدائنا من الجن والإنس، وأن نحاربهم طلبًا لمرضاته، فأبى أكثر الناس إلا مسالمتهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم، حيث استجابوا لهم حين أغووهم وأمروهم بالمعاصي والفجور والفساد في الأرض فأطاعوهم، فاقتضت الحكمة أن يسلطهم عليهم بالطعن فيهم، كما سلّط عليهم أعداءهم من الإنس، حيث أفسدوا في الأرض ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فهذه ملحمة من الإنس، والطاعون ملحمة من الجن، وكل منهما بتسليط العزيز الحكيم، عقوبة لمن يستحق العقوبة، وشهادة ورحمة لمن هو أهل لها، وهذه سُنة الله في العقوبات؛ تقع عامة فتكون طهرًا للمؤمنين وانتقامًا من الفاجرين» ا. هـ نقلًا عن بذل الماعون (ص: ١٥٣).
1 / 17
وقد جعل المفرقون بين الطاعون والوباء هذا الأمر من خصائص الطاعون، فالأوبئة تكون من الأسباب الظاهرة، بخلاف الطاعون فهو من وخز أعدائنا من الجن.
• المسألة الرابعة: منشأ الطاعون:
عن أسامة ﵁ قال النبي ﷺ: «إن هذا الوجع رجز أو عذاب أو بقية عذاب عذب به أناس من قبلكم» (^١)، وفي رواية أخرجها الشيخان: «رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل» (^٢)، وفي رواية عند الشيخين: «ثم بقي بعد بالأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى»، وفي رواية عند مسلم: «الطاعون آية الرجز، ابتلى الله ﷿ به ناسًا من عباده».
والرجز: العقوبة والعذاب، وذلك يكون بسبب الذنوب، وأعظم أسبابه ظهور الفواحش والمعاصي فعن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم» (^٣)، وهذا عام في الوباء والطاعون (^٤).
_________
(^١) متفق عليه.
(^٢) متفق عليه.
(^٣) ابن ماجه (٤٠١٩)، وصححه الألباني في السلسلة (١٠٦).
(^٤) قال ابن نجيم: «ولعل حكمته أن الزنا لما كان في السر، سلط الله عليهم عدوا في السر، يقتلهم من حيث لا يرونه، وقاعدة العدل أنه إذا نزل بهم البلاء يعم المستحق وغيره، ثم يبعثون على نياتهم».
1 / 18
• المسألة الخامسة: الحكمة من الطاعون:
الطاعون عذاب وعقوبة للكفار والعصاة، ورحمة لعباد الله المؤمنين يمحو الله به خطاياهم ويرفع به درجاتهم، وهو سبب لعودة العباد إلى ربهم، وإقبالهم على إصلاح أنفسهم، والإكثار من الصالحات والابتعاد عن السيئات، ويكرم الله من مات فيه من أهل الإيمان بالشهادة، قال ﷺ: «فالطاعون شهادة لأمتي، ورحمة، ورجس على الكافر» (^١)، وتشترك سائر الأوبئة مع الطاعون في هذه الحكم والغايات.
• المسألة السادسة: فضل من مات بسبب الطاعون:
في حديث أنس ﵁: «الطاعون شهادة لكل مسلم» (^٢)، وفي حديث أبي هريرة ﵁: «المبطون شهيد، والمطعون شهيد» (^٣).
وشرط الشهادة أن يكون المرء في مرضه صابرا محتسبا كما في البخاري من حديث عائشة ﵁: «ما من عبد يكون في بلد يكون فيه، ويمكث فيه لا يخرج من البلد، صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا
_________
(^١) أحمد (٢٠٧٦٧) وصححه الألباني في السلسلة (٧٦١) والوادعي في الصحيح المسند (١٢٣٩).
(^٢) متفق عليه.
(^٣) البخاري.
1 / 19
ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» (^١).
وهل ينطبق هذا على الموتى بفيروس كورونا ونحوه كأنفلونزا الطيور والخنازير؟ مسألة تبنى على الخلاف في مفهوم الطاعون الوارد في النصوص، على أن الشيخ ابن عثيمين ﵀ نص على أن الطاعون سواء قيل إنه وباء معين، أو كل وباء عام مثل الكوليرا وغيرها، فإن من مات به يكتب له أجر الشهيد، إن مات صابرًا محتسبًا (^٢)، والذي يبدو أن مثل هذا الحكم الغيبي يحتاج إلى نص، والنص جاء خاصًا بالطاعون، وعليه فلا يشمل هذا سائر الأوبئة المشار إليها، لعدم الدليل على ذلك، ومثل هذا الأمر لا يدخله القياس فلا يتأتى الحكم عليهم بالشهادة إلا على مذهب من لا يفرق بين الوباء والطاعون، أو في حالة أن يلتحق بالوباء سبب آخر يدخل صاحبه في أصناف الشهداء، كأن ينتج عنه إصابة ذات الجنب أو البطن أو السل، فهذه الأصناف جاءت النصوص بحكم الشهادة لأصحابها، وقد نص ابن حجر الهيتمي على أن الميت بالوباء المجرد من غير الطاعون ليس بشهيد (^٣)، والله أعلم.
تنبيه: شهادة المطعون شهادة أخروية، وأما في الدنيا فيعامل معاملة سائر الموتى فيغسل ويصلى عليه (^٤).
_________
(^١) البخاري.
(^٢) انظر: شرح رياض الصالحين (١/ ٢٣٣).
(^٣) الفتاوى الفقهية الكبرى (١/ ١٤١).
(^٤) صحيح مسلم بشرح النووي (١٣/ ٦٣) عمدة القاري (٢١/ ٢٦١).
1 / 20
• المسألة السابعة: فضل الصابر المحتسب في زمن الطاعون ولو لم يمت به:
بوب البخاري في صحيحه: «باب أجر الصابر في الطاعون»، ثم ذكر حديث عائشة ﵂ قالت: سألت رسول الله ﷺ عن الطاعون، فأخبرني «كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد يكون فيه، ويمكث فيه لا يخرج من البلد، صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» (^١).
قال ابن حجر: «اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة، يحصل له أجر الشهيد، وإن لم يمت بالطاعون، ويدخل تحته ثلاث صور: أن من اتصف بذلك: فوقع به الطاعون فمات به، أو وقع به ولم يمت به، أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا» (^٢).
وقال ابن حجر الهيتمي: «الميت به، بل وفي زمنه وإن لم يمت به،
_________
(^١) البخاري.
(^٢) فتح الباري (١٠/ ١٩٤) وقال في بذل الماعون: قال "فمن اتصف بهذه الصفات مثلًا فمات بغير الطاعون، فإن ظاهر الحديث أنه يحصل له أجر الشهيد … ويؤيده الرواية السابقة في حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: «ومن مات في الطاعون فهو شهيد» ولم يقل: بالطاعون، فإن ظاهرها شاهد لما قلناه … ويتفرع من هذا: أن من اتصف بالصفات المذكورة، وذهب الطاعون ولم يمت به ولا في زمنه، هل يكون شهيدًا أو لا؟ ظاهر الحديث يعمّ، وفضل الله واسع، ونية المؤمن أبلغ من عمله ا. هـ وانظر: فيض القدير للمناوي (٤/ ٢٨٨).
1 / 21
بل وفي غير زمنه إذا مكث في بلده أيامه؛ صابرًا محتسبًا راضيًا بما ينزل به يكون شهيدًا» (^١). وهذا الحكم من خصائص الطاعون ولا يقاس عليه غيره.
• المسألة الثامنة: الطاعون لا يؤثر بنفسه:
الطاعون والعدوى لا تأثير لها بنفسها، وإنما تأثيرها بإذن الله تعالى، قال النبي ﷺ: «لا عدوى ولا طيرة» (^٢). أي: لا عدوى مؤثرة بنفسها كما كان اعتقاد أهل الجاهلية، فالأمر لله أولًا وآخرًا، والأسباب لا تملك نفعًا ولا تأثيرًا إلا بإذن مسببها وهو الله رب العالمين، فنشر الخوف والهلع من هذه الأسباب ضعفٌ في التوكل واليقين، وهذا الحكم يشمل الوباء وسائر الأمراض.
_________
(^١) الفتاوى الكبرى (١/ ١٤١) وانظر حاشية البجيرمي (١/ ٤٨٧) والدر المختار (٢/ ٢٥٢).
(^٢) متفق عليه.
1 / 22
الفصل الثاني
في أحكام البلد المصاب بالطاعون
والمسائل المتعلقة بذلك
1 / 23
• المسألة الأولى: حكم الخروج من البلد المصاب بالطاعون فرارًا منه
لا يجوز خروج المرء من البلد المصاب بالطاعون فرارًا منه؛ لقول النبي ﷺ كما في حديث عبد الرحمن بن عوف ﵁: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه» (^١)، وذهب جمع من فقهاء المالكية إلى أن النهي للتأديب والإرشاد، والصواب: أن النهي في الحديث للتحريم، وهو قول جماهير العلماء، بل عده بعض العلماء من الكبائر لقول النبي ﷺ: «الفار من الطاعون كالفار من الزحف» (^٢) (^٣).
وهل هذا الحكم خاص بالطاعون أم أنه يعم كل وباء فتاك؟ سيأتي توضيح في المسألة الرابعة بإذن الله تعالى.
• المسألة الثانية: حكم الذهاب للبلد المصاب بالطاعون:
لا يجوز لمن كان في خارج البلد المصاب بالطاعون أن يقدم عليه؛ للحديث السابق، ولما في ذلك من إلقاء النفس للتهلكة، وهل يشمل ذلك الوباء؟ سيأتي توضيحه في المسألة الرابعة بإذن الله تعالى (^٤).
_________
(^١) متفق عليه.
(^٢) أحمد (١٤٤٧٨)، وصححه الألباني في الجامع (٤٢٧٦).
(^٣) انظر: شرح مسلم (١٤/ ٢٠٥ - ٢٠٧) الزواجر عن اقتراف الكبائر (٢/ ٢٨٥).
(^٤) انظر: زاد المعاد (٤/ ٣٩).
1 / 25
• المسألة الثالثة: علة النهي عن الخروج من البلد المصاب بالطاعون:
اختلف العلماء في علة النهي عن الخروج من البلد المصاب بالطاعون أو الدخول إليه:
فمنهم من جعل الأمر تعبديًّا لا يعقل معناه، ومنهم من جعل العلة شرعية وهي تحقيق صدق التوكل على الله، وتفويض الأسباب إليه، والتسليم لقضائه وقدره وعدم الفرار منه، وعدم مخالفة الصبر المأمور به في هذه الحال، أو خشية وقوع الشرك والتعلق بالأسباب بحيث يظن أن الفرار هو الذي أنجاه أو أن الدخول هو الذي أهلكه ونحو ذلك.
ومنهم من جعل العلة متعلقة بمصلحة العباد، وهي خشية انتشار العدوى، أو خشية ألا يبقى للموتى من يجهزهم وللمرضى من يتعاهدهم ويقوم بأمرهم في البلد المصاب (^١).
• المسألة الرابعة: حكم الخروج من البلد المصاب بالوباء فرارًا منه:
الخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف في علة النهي الوارد في النص، فعلى القول بأن علة النهي خشية انتشار العدوى فيمكن أن يقاس الوباء بالطاعون في هذه المسألة لاشتراكهما في العلة، ولا يتأتى قياس الوباء على الطاعون في العلل الأخرى؛ لعدم اطرادها، ولورود
_________
(^١) انظر: بذل الماعون (ص: ٣٠٢ - ٣٠٦) والفتاوى الكبرى (٤/ ٢٧) الذخيرة للقرافي (١٣/ ٣٢٥)
1 / 26