Reflections on Faith Education
نظرات في التربية الإيمانية
اصناف
نظرات
في التربية الإيمانية
مجدي الهلالي
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهب أنك - أخي القارئ - قد عُدت إلى منزلك في يوم من الأيام فوجدت رجلًا في انتظارك وبصحبته زوجته وأولاده، ومعه رسالة من أحد أصدقائك الذين لا يمكنك أن ترد لهم طلبًا، يخبرك فيها بأن حامل رسالته أخ لك في الله، قد تعرض لمحن وابتلاءات كثيرة، وهو الآن بلا مال ولا مأوى، وعليك أن تستضيفه وعائلته في منزلك، وأن تقتسم معه مالك، وطعامك، فضلًا عن مسكنك، وليس لهذه الاستضافة مدة معلومة، فقد تمتد شهورًا أو سنين ...
فماذا تتوقع أن يكون رد فعلك تجاه هذا الأمر؟!
هل ستكون سعيدًا بهذه الرسالة وما تحتويه؟ أم سيضيق صدرك ويشتد غمك، فالراتب لا يكفي إلا بالكاد، والمسكن يضيق بأفراد الأسرة، فكيف سيكون الحال لو تم اقتسام الراتب والمسكن بينك وبين أخيك؟
وحتى إن كنت موسرًا؛ فمن يتحمل أن يتعايش مع أُناس لا يعرفهم ولا يعرف طباعهم وأسلوب حياتهم؟
لا أكتمك القول - أخي - بأنني قد تخيلت نفسي في هذا الموقف، فتوقعت مقدار الحرج الذي سيصيبني، ومدى الضيق الذي قد يتولد في صدري والذي قد يزيد بطول مدة الاستضافة، ومن المتوقع أن تدور أمنيتي وقتها حول إمكانية كون هذا الرجل قد أخطأ في العنوان، وأن المقصود شخص آخر غيري، وقد أُسارع بالاتصال بمن كتب الرسالة محاولًا التملص من هذا العمل، وأتعلل بظروف كثيرة تحول بيني وبين استضافة هذه الأسرة، وإن وافقت على استضافتها فستكون موقوتة بمدة محددة، وسأجتهد في أن تكون هذه المدة قصيرة قدر الإمكان ...
هذا الموقف - الذي نتمنى ألا نتعرض له - قد تعرض له الأنصار في صدر الدعوة، فلقد خرج المهاجرون فارين بدينهم من مكة تاركين فيها ديارهم وأموالهم، وتوجهوا إلى يثرب تنفيذًا لأمر الله ورسوله ﷺ .. هاجروا إليها دون أن يكون لهم فيها مأوى، ولم يكن معهم من الأموال ما يُمكنهم من الإنفاق على أنفسهم، أو اقتناء مساكن تؤيهم، وفي المقابل كان أهل المكان من الأنصار فقراء، فضلًا عن أنهم لم يكن بينهم وبين المهاجرين سابق صلة أو معرفة، ومع ذلك كان عليهم أن يستضيفوا إخوانهم المهاجرين استضافة كاملة .. فماذا كان تصرفهم تجاه هذا الأمر؟!
تُجيبنا كتب السيرة بأنهم كانوا في سعادة غامرة بتلك الاستضافة إلى حد تسابقهم وتنافسهم فيما بينهم للفوز بكل مهاجريّ يصل إلى المدينة .. هذا التسابق والتنافس الذي كان على أشُده جعلهم يلجأون إلى إجراء القرعة لتحديد الفائز باستضافة الوافد الجديد .. نعم، لقد حدث هذا، حتى قيل: ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.
ولعلك - أخي القارئ - تعجب من هذا التصرف الذي نعجز عن القيام به، ولعلك كذلك تتساءل معي: ما الذي جعلهم يصلون إلى هذا المستوى، وهذا السلوك الذي يفوق طاقات احتمال البشر؟
يُجيب القرآن على تساؤلاتنا، ويبين لنا السبب الذي دفع هؤلاء الأنصار لهذا الإيثار العظيم مع فقرهم وشدة حاجتهم وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...﴾ [الحشر/٩].
فالآية الكريمة تصف هؤلاء بأنهم تبوءوا الدار: أي استوطنوا يثرب قبل مجيء المهاجرين، وتقول عنهم الآية كذلك بأنهم استوطنوا الإيمان ..
ولكن كيف يُستوطن الإيمان؟! أليس من المعلوم أن الإيمان هو الذي يدخل القلب؟!
1 / 1
نعم هو كذلك، ولكن من شدة تمكُّن الإيمان منهم: فكأنهم هم الذين دخلوا فيه واستوطنوه، والدليل على ذلك هو هذا الفعل العجيب: الإيثار مع الحاجة ..
الأمر إذن واضح؛ إن أردنا سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقًا حسنة، فعلينا بالإيمان، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال.
ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنا عليه لابد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة.
أو بعبارة أخرى: نحتاج ممارسة «التربية الإيمانية» مع أنفسنا، ومع كل من نتولى أمر تربيته إن أردنا الإصلاح الحقيقي لأنفسنا وأمتنا.
فإن قلت: وكيف لنا أن نفعل ذلك؟!
كانت الإجابة بأن هذه الصفحات التي بين يديك - أخي - تُعطيك صورة عامة عن ذلك، فهي بمثابة مبادئ وإشارات حول التربية الإيمانية من حيث: ثمارها، وأهدافها، وحقيقتها، وجناحيها (أعمال القلوب، وأعمال الجوارح) وإن شئت قلت: الإيمان، والعمل الصالح ..
نسأل الله ﷿ أن يتقبل منا بفضله وكرمه كل خير أفاض به علينا في هذه الصفحات، وأن يغفر لنا زلَّاتنا، وألا يحرمنا - بجوده - الأجر إن أصبنا أو أخطأنا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا).
1 / 2
الفصل الأول
ضرورة التكامل التربوي عند المسلم
ومكانة التربية الإيمانية منه
1 / 3
الفصل الأول
ضرورة التكامل التربوي عند المسلم، ومكانة التربية الإيمانية منه *
المكونات الأربعة:
خلق الله ﷿ الإنسان بتكوين يشمل أربعة جوانب رئيسية هي: العقل، والقلب، والنفس، والجسد.
وعندما يبدأ الإنسان رحلته على الأرض منذ نزوله من بطن أمه، فإنما يبدأها بهذه المكونات الأربعة وهي غير مكتملة النمو، فقد جعلها - سبحانه - تبدأ صغيرة محدودة الإمكانات، وأودع فيها خاصية النماء: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل/٧٨].
هذه الجوانب الأربعة تحتاج إلى دوام تعاهد وإمداد يترك فيها أثره الدائم في اتجاه تحقيق الهدف من وجود الإنسان على الأرض ألا وهو: تحقيق العبودية الصحيحة لله ﷿.
ولكي يظهر الأثر الإيجابي الدائم في كل من هذه الجوانب كان من الضروري سلوك طريق التربية.
فالتربية كما يقول الإمام البيضاوي: هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا (١)، ويمكن تعريفها كذلك بأنها الأداة التي تقوم بإحداث تغيير أو أثر دائم في الشيء.
لذلك فإن من أهم أهداف التربية الإسلامية الصحيحة هو: إحداث أثر إيجابي دائم في المكونات الأربعة للإنسان، ينتج عنه تغيير حقيقي في ذاته ليشمل: المفاهيم والتصورات في العقل، وإصلاح الإيمان في القلب، وتزكية النفس وترويضها على لزوم الصدق والإخلاص والتواضع ونكران الذات.
ويشمل كذلك ضبط حركة المرء والتعود على بذل الجهد في سبيل الله ﷿، لتكون ثمرة هذا التغيير - في هذه المحاور - تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي تتأسس عليه الأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم ...
ضوابط التربية:
هناك عدة أمور ينبغي مراعاتها عند الحديث عن «التربية». وضرورتها في تغيير الفرد والأمة.
أولًا: أن يتم تبنِّيها كثابت رئيسي ومتفرد للتغيير الحقيقي، فلئن كان تغيير وضع الفرد أو الأمة من السيئ للأحسن مرتبط بتغيير ما بالنفس كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
_________
* يتم - بعون الله - عرض موضوع التكامل التربوي في هذا الفصل باختصار شديد كمدخل للتربية الإيمانية، فإن أردت - أخي القارئ - التعرف عليه بشيء من التفصيل فلك - إن شئت - أن تقرأ لكاتب هذه السطور كتاب «التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم» والكتاب - بفضل الله - يوجد على موقع الإيمان أولُا.
(١) «أصول التربية الإسلامية وأساليبها المختلفة» لعبد الرحمن النحلاوي ص (١٢)، دار الفكر.
1 / 4
فإن حدوث هذا التغيير يستلزم سلوك طريق «التربية» ... تأمل معي ما قاله الإمام المجدد حسن البنا، وهو يحكي عن تجربته في الدعوة حتى أيقن بضرورة التوجه نحو التربية لتغيير الفرد والأمة على منهج الإسلام، فيقول:
طالعت كثيرًا، وجربت كثيرًا، وخالطت أوساطًا كثيرة وشهدت حوادث عدة، فخرجت من هذه السياحة القصيرة بعقيدة ثابتة لا تتزلزل، هي أن السعادة التي ينشدها الناس جميعا إنما تفيض عليهم من نفوسهم وقلوبهم، ولا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدا، وأن الشقاء الذي يحيط بهم ويهربون منه إنما يصيبهم بهذه النفوس والقلوب كذلك، وإن القرآن يؤيد هذا المعنى، ويوضح ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
اعتقدتُ هذا، واعتقدتُ إلى جانبه أنه ليس هناك نُظُم ولا تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس البشرية، وتهدي الناس إلى الطرق العملية الواضحة لهذه السعادة كتعاليم الإسلام الحنيف الفطرية الواضحة العملية ..
لهذا وقَفْتُ نفسي منذ نشأت على غاية واحدة، هي إرشاد الناس على الإسلام حقيقة وعملًا ..
ظلت هذه الخواطر حديثًا نفسانيًّا، ومناجاة روحية، أتحدث بها في نفسي لنفسي، وقد أُفْضِي بها إلى كثير ممن حولي، وقد تظهر في شكل دعوة فردية، أو خطابة وعظية، أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس، أو حثّ لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير.
ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس (١).
وفي موضع آخر يقول ﵀:
إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء .. كل ذلك وحده لا يُجدي نفعًا، ولا يُحقق غاية، ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف؛ ولكن للدعوات وسائل لابد من الأخذ بها والعمل لها. والوسائل العاملة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة:
١ - الإيمان العميق ... ٢ - التكوين الدقيق ... ٣ - العمل المتواصل (٢).
ثانيًا: أن تستمر التربية ولا تنقطع أو تتوقف عند فترة معينة، لأن الأمر الذي استوجبها دائم لا ينقطع ولا يتوقف حتى الموت: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر/٩٩].
تأمل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...﴾ [النساء/١٣٦].
يقول محمد قطب معلقًا على هذه الآية: أي حافظوا على إيمانكم، استمروا فيه، لا تغفلوا عن المحافظة عليه .. لا تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه (٣).
_________
(١) رسالة المؤتمر الخامس، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ص ١١٦، باختصار.
(٢) رسالة بين الأمس واليوم، ص ١٠٨.
(٣) مكانة التربية في العمل الإسلامي لمحمد قطب، ص ٢٦ - دار الشروق.
1 / 5
ومما يؤكد هذا المعنى قوله ﷺ: «إن الإيمان يخلق في القلوب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم» (١).
فمهما تقدم عمر المرء، ومهما ارتقى في سلم المسئولية، فلابد له من الاستمرار في التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله ﷿.
(إن القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور .. فإذا طال عليه الأمل بلا تذكير ولا تذكُّر، تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب .. ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة) (٢).
وأما النفس فهي كالأسير الذي يحاول مقاومة الأسر، فإن أسَرْتَه فلابد من اليقظة الدائمة معه حتى لا يفلت منك ويأسرك ويجعلك طوع أمره.
والعقل أيضًا يحتاج باستمرار إلى تزويده بالعلم النافع حتى تتسع مداركه، وتُفتح نوافذه، فتزداد معرفته بربه، وما يُقربه إليه ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
ثالثا: ومن الضوابط الحاكمة للعملية التربوية كذلك ضرورة أن تشمل التربية الجوانب الأربعة للشخصية، فأي إهمال لجانب منها يؤدي إلى عدم ظهور ثمرة التربية الصحيحة (فعندما يحصل اهتمام بتحصيل العلم، دون الاهتمام بزيادة الإيمان، فستكون النتيجة المتوقعة: شخص كثير التنظير، حافظا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ، والمعاني العظيمة، لكنك قد تجد في المقابل واقعًا يختلف عن الأقوال، فهو يتحدث عن العدل والمساواة، بينما لا يتعامل مع الآخرين بهذه القيم، وبخاصة مع من يرأسهم .. يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة، في حين تجده يحرص على جمع المال، وينفق منه بحساب شديد، ويدقق في كل شيء مهما كان صغيرًا.
كل هذا وغيره بسبب عدم الاهتمام بالإيمان بنفس درجة الاهتمام بالعلم، فالذي يُقرب المسافة بين القول والفعل، ويُترجم العلم إلى سلوك هو: «الطاقة والقوة الروحية المتولدة من الإيمان».
أما عندما يتم الاهتمام بالإيمان دون العلم فستجد أمامك شخصًا جاهلًا، يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، ويترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه .. ستجد شخصًا ضيق الأُفق لا يستطيع أن يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر.
وفي حالة الاهتمام بالعلم والإيمان مع عدم الانتباه للنفس، وإهمال تزكيتها، فسيكون النتاج: شخصًا كثير العبادة، كثير المعلومات، سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد، لكنه متورم الذات، يرى نفسه بعدسة مكبِّرة، ويرى غيره بعكس ذلك، لأن عبادته وأوراده وبذله - في الغالب - ستغذي إيمانه بنفسه وبقدراته، وأنه أفضل من غيره، فيتمكن منه - بمرور الأيام واستمرار الإنجازات والنجاحات - داء العُجْب، ومن وراءه الغرور والكبر والعياذ بالله، فيُعرِّض نفسه لمقت ربه وحبوط عمله.
ومع ضرورة الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على بذل الجهد في سبيل الله، وفي دعوة الناس إليه، فلو لم يتحرك المسلم، ويُعلّم الناس ما تعَلّمه، ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم - بإذن الله - فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل، ولن يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها، وقبل ذلك فإن الواجب الشرعي والواقع الأليم الذي تحياه أمتنا يُحتِّمان عليه فعل ذلك.
_________
(١) حديث حسن: أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (١/ ٥٢) وقال الهيثمي: إسناده حسن. والحاكم (١/ ٤٥، رقم ٥) وقال: رواته مصريون ثقات. وقال المناوي (٢/ ٣٢٤): قال العراقي في أماليه: حديث حسن، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ١٥٨٥.
(٢) في ظلال القرآن لسيد قطب ٦/ ٣٤٨٩.
1 / 6
وفي المقابل، فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل الله إن لم يكن وراءها زاد متجدد، فإن عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها، ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله ﷺ: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تُضيء للناس وتحرق نفسها» (١).
فلابد من الأمرين معًا: لابد من الزاد، ولابد من التحرك بهذا الزاد (٢).
بأي الجوانب نبدأ؟ (٣)
بعد أن تعرفنا - باختصار - على الاحتياجات التربوية الأساسية لكل مسلم وأهمية كل جانب منها؛ يبقى السؤال: بأي الجوانب نبدأ؟
بلا شك أن العلم هو البداية: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد/١٩]، فالعلم أساس العمل، ومع ذلك فليس المطلوب علمًا نظريًّا، يُعمق الفجوة بين القول والفعل، بل نريده علمًا نافعًا راسخًا، يزيد القلب خشية وإيمانًا.
لذلك فعلينا الاجتهاد بتحصيل أصل العلوم وأنفعها، ألا وهو: «العلم بالله ﷿»، والاجتهاد في تحويل هذه المعرفة إلى إيمان.
ولأن التربية الإيمانية بمفهومها الصحيح الشامل - كما سيأتي بيانه - تُركز على معرفة الله ﷿، وتُركز كذلك على ترجمة هذه المعرفة إلى معانٍ يرسخ مدلولها في القلب - أي أنها قد جمعت بين الخيرين - كان من المناسب البدء بجانب «التربية الإيمانية».
من فوائد البدء بالتربية الإيمانية: (٤)
هناك حلقة مفقودة بين الأقوال والأفعال، والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف الإيمان، فعندما يُهيمن الإيمان الحي على القلب، فإنه يُولِّد في قلب صاحبه طاقة عظيمة، وقوة روحية هائلة تدفعه للقيام بالأفعال التي تناسب المواقف المختلفة من سرَّاء أو ضرَّاء .. لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية الإيمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع وبين العلم والعمل.
فعلى سبيل المثال:
لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنامًا ينبغي أن تُزال، وأننا مصابون بداء العُجْب، واستعظام النفس، ولكننا لن نستطيع مقاومة هذا المرض، والوقوف له بالمرصاد، لضعف القوة الروحية اللازمة لذلك.
ونفس الأمر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل الجهد في سبيل الله، فسيتحول الأمر بمرور الوقت إلى أداء شكلي روتيني بلا روح، وسيزحف إلى من يفعل ذلك الشعور بالفتور والوحشة وضيق الصدر، وسيفقد تأثيره على الآخرين شيئًا فشيئًا.
من هنا تظهر الحاجة إلى البدء بالتربية الإيمانية بمفهومها الصحيح والذي يعمل باستمرار على توليد القوة الروحية، وتنمية الدافع الذاتي، وتقوية الوازع الداخلي، وبث الروح في الأقوال والأفعال، ومن ثَمَّ يسهل على المرء بعد ذلك القيام بالأعمال المطلوبة لتحقيق أهداف التربية النفسية والحركية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون/٥٧ - ٦١].
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم ٥٨٣٧.
(٢) هذه الفقرة من كتاب «التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم»، من ص ٧٨ - ٨١، باختصار.
(٣) المصدر السابق.
(٤) المصدر السابق.
1 / 7
الفصل الثاني
ثمارُ الإيمان
1 / 8
الفصل الثاني
ثمار الإيمان
الشجرة المباركة:
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم /٢٤ - ٢٥].
فالإيمان كالشجرة الطيبة المباركة التي إذا ما أحسنَّا غرسها في القلب فإنها تُثمر - بإذن الله - ثمارًا يانعة وطيبة في كل الاتجاهات والأوقات، والأمثلة العملية التي تؤكد هذه الحقيقة من الكثرة بمكان، وسنذكر - بعون الله وفضله - في الصفحات القادمة بعض تلك الثمار، مع مزجها بنماذج تطبيقية من حياة الصحابة، باعتبار أنهم أفضل أجيال الأمة بالإجماع ..
أخرج أبو نُعيم عن عبد الله بن عمر قال: من كان مُستنًّا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خير هذه الأمة، أبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا .. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، ونقْل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ﷺ كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة (١).
ويقول أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب حياة الصحابة:
إن السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة الإيمانية والعاطفة الدينية، التي لا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشتعل بها مجامر القلوب، التي يسرع انطفاؤها وخمودها في مهب الرياح والعواصف المادية، والتي إذا انطفأت فقدت هذه الأمة قوتها وميزتها وتأثيرها، وأصبحت جثة هامدة تحملها الحياة على أكتافها.
إنها تاريخ رجال جاءتهم دعوة الإسلام فآمنوا بها وصدقتها قلوبهم .. وضعوا أيديهم في يد الرسول ﷺ، وهانت عليهم نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم، واستطابوا المرارات والمكاره في سبيل الدعوة إلى الله، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وسيطر على نفوسهم وعقولهم، وصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب، والحب لله والرسول، والرحمة على المؤمنين والشدة على الكافرين، وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على دعوة الناس، وإخراج خلق الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، والاستهانة بزخارف الدنيا وحطامها، والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الجنة، وعُلو الهمة، وبُعد النظر في نشر رِفد الإسلام وخيراته في العالم، وانتشارهم لأجل ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونسوا في ذلك لذَّتهم، وهجروا راحاتهم، وغادروا أوطانهم، وبذلوا مُهَجَهم وحرّ أموالهم حتى أقبلت القلوب إلى الله، وهبَّت ريح الإيمان قوية عاصفة، طيبة مباركة، وقامت دولة التوحيد والإيمان والعبادة والتقوى، وانتشرت الهداية في العالم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا (٢).
الثمار العشر:
إن الهدف الأساسي من التحدث عن ثمار الإيمان ومدى ظهورها في جيل الصحابة رضوان الله عليهم هو استثارة مشاعر الاحتياج نحو التربية الإيمانية، وتقوية العزيمة لسلوك طريقها بإذن الله ..
ولقد تم اختيار عشر ثمار ليتم الحديث عنها - بعون الله - هي بإجمال:
أولًا: المبادرة والمسارعة لفعل الخير.
ثانيًا: تقوية الوازع الداخلي.
ثالثًا: الزهد في الدنيا.
رابعًا: التأييد الإلهي.
خامسًا: إيقاظ القوى الخفية.
سادسًا: الرغبة في الله.
سابعًا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد.
ثامنًا: التأثير الإيجابي في الناس.
تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة.
عاشرًا: الشعور بالسكينة والطمأنينة.
والجدير بالذكر أن هذه الثمار العشر ما هي إلا قطوف يسيرة من شجرة الإيمان المباركة، ولقد تم اختيارها كباقة متنوعة، فمنها ما يتعلق بعلاقة المؤمن بربه، ومنها ما ينعكس على علاقته بدنياه وآخرته، ومنها ما يظهر آثاره على تعاملاته مع الآخرين.
وإليك - أخي القارئ - بعضًا من التفاصيل حول هذه الثمار العشر.
_________
(١) حلية الأولياء لأبي نُعيم الأصبهاني (١/ ٣٠٥)، دار الكتاب العربي - بيروت.
(٢) حياة الصحابة للكاندهلوي (١/ ١٥) بتصرف يسير.
1 / 9
أولًا: المبادرة والمسارعة لفعل الخير
من أهم ثمار الإيمان الحي أنك تجد صاحبه مبادرًا ومسارعًا لفعل الخير، يتحرك في الحياة وكأنه قد رُفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب وتضحية .. تراه دومًا يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه مرددًا بلسان حاله: «لبيك اللهم لبيك .. لبيك وسعديك».
ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون/٥٧ - ٦١].
فالآيات تُعطي دلالات واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها.
وإليك - أخي القارئ - بعض الأمثلة من حياة الصحابة - رضوان الله عليهم - والتي تؤكد هذا المعنى:
- خرج جابر بن عبد الله ﵁ ذات سنة إلى بلاد الروم غازيًا في سبيل الله، وكان الجيش بقيادة مالك بن عبد الله الخثعمي، وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم، ويشُد من أزرهم، ويُولي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية، فمر بجابر بن عبد الله، فوجده ماشيًا ومعه بَغل له يمسك بزمامه ويقوده، فقال له: ما بك يا أبا عبد الله، لم لا تركب، وقد يسر الله لك ظهرًا يحملك عليه؟! فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار».
فتركه مالك ومضى حتى غدَا في مقدمة الجيش، ثم التفت إليه، وناداه بأعلى صوته، وقال: يا أبا عبد الله، مالك لا تركب بغلك، وهي في حوزتك؟! فعرف جابر قصده، وأجابه بصوت عال وقال: لقد سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار»، فتواثب الناس عن دوابهم وكلٌ منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر، فما رُئِي جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش (١).
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المُعَلَّى أنه قال:
كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله ﷺ، فمررنا يومًا ورسول الله ﷺ قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة/١٤٤]، حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله ﷺ فنكون أول من صلى (في اتجاه الكعبة) فتوارينا فصليناهما، ثم نزل رسول الله ﷺ وصلى بالناس الظهر يومئذ (٢).
_________
(١) أُسد الغابة (١/ ٣٠٧)، وتاريخ الإسلام للذهبي (٣/ ١٤٣)، وسيرة ابن هشام (٣/ ٢١٧، ٢١٨)، وحديث «من أُغبرت قدماه ..» أخرجه البخاري (١/ ٣٠٨، رقم ٨٦٥)، وغيره.
(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ١٦٨ - مكتبة العبيكان، وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى - (ج ٦ / ص ٢٩١، برقم ١١٠٠٢)، ومسند أحمد بن حنبل - (ج ٤ / ص ٤٠٨، برقم ١٩٦٧٧).
1 / 10
- وفي يوم من الأيام قَدِمتْ قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع، فلما دخلت المدينة ارتجت الأرض بها، فقالت عائشة: ما هذه الرجة؟ فقيل لها: عير لعبد الرحمن بن عوف .. سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام، فقالت عائشة: بارك الله فيما أعطاه في الدنيا، ولثواب الآخرة أعظم.
وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف: فذهب إليها مسرعًا، وقال: أشهدك يا أُمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله.
التنافس في الخير:
صاحب الإيمان الحي لا يريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. راية رضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته، لذلك تراه حزينًا حين تتحين أمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر، ولنا في قصة البَكَّائين خير مثال على ذلك:
فعن ابن عباس ﵄ قال: أمر رسول الله ﷺ الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك)، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: «والله ما أجد ما أحملكم عليه»، فتولوا ولهم بكاء، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملًا. فأنزل الله عذرهم: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة/٩٢] (١).
- وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدثور (الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال ﷺ: «وما ذاك؟»، فقالوا: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله ﷺ: «أفلا أُعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة»، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله.
فقال رسول الله ﷺ: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (٢).
شدة الحرص على دعوة الخلق إلى الله:
كلما ازداد الإيمان وشعر المرء بحلاوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى الله، وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكيف لا وهو يرى غيره من الضالين في سجن كان هو فيه وحرَّره الله منه، لذلك فهو لا يهدأ ولا يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه الجهد والوقت والمال.
ويدفعه لأداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه ..
من هنا نُدرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى الله.
فهذا أبو بكر الصديق بعد إسلامه يُسارع بالدعوة إلى الله من وَثق به من قومه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف (٣).
_________
(١) الدر المنثور للسيوطي ٣/ ٤٧٩.
(٢) متفق عليه: وهذا لفظ مسلم، وأخرجه البخاري (١/ ٢٨٩ برقم ٨٠٧)، ومسلم (٢/ ٩٧، برقم ١٣٧٥).
(٣) السيرة لابن كثير (١/ ٤٣٧)، وذكره الحلبي في السيرة الحلبية (١/ ٤٤٩).
1 / 11
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ لمَّا انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله ﷺ: «إنهم قاتلوك»، وعرف رسول الله ﷺ أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أَحَب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم، فلما أشرف على عُلَّية (مكان مرتفع) - وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه - رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ (١) ..
ثانيا: تقوية الوازع الداخلي
كلما قوي الإيمان، ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد الاقتراب من الشبهات والمحظورات، والعكس صحيح، فكلما ضَعُف الإيمان نقصت تلك الحساسية .. يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا (٢) (أي: نحَّاه بيده أو دفعه).
معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب، وفي أي الاتجاهين تكون ..
هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد بالانهيار في أي لحظة، أم من حال من تمر ذبابة على أنفه؟
من هنا نقول بأن الإيمان الحي هو الذي يضبط سلوك الإنسان، (ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يُجامل ولا يحابي، ولا يضل ولا ينسى ... يصاحبها في الغدوة والروحة، والمجتمع والخلوة، ويرقُبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعُّها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر) (٣).
في يوم من الأيام ذكر النبي ﷺ أنواع الخيل وأنها لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.
فسئل عن الحُمُر؟ قال: «ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة/٧، ٨] (٤).
فعندما يزداد الإيمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل - ولو كان مثقال ذرة كما تُشير الآيات - فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل مع جميع الأشياء.
نعم، هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما وُضعت القوانين الصارمة في المجتمعات لضبط سلوك الأفراد فلن تؤتي ثمارها إلا إذا بُدئ بإصلاح الإيمان في القلوب لتكون من ثمرته: تقوية الوازع الداخلي ... وصدق من قال:
لا تنتهي الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن لها من نفسها دافع
_________
(١) السيرة النبوية لابن هشام (٢/ ٥٣٨)، وأُسد الغابة (١/ ٧٦٨)، والاستيعاب لابن عبد البر (١/ ٣٢٨)، والإصابة لابن حجر (٤/ ٤٩٣).
(٢) متفق عليه: البخارى (٥/ ٢٣٢٤)، ومسلم (٨/ ٩٢).
(٣) رسالة هل نحن قوم عمليون؟ لحسن البنا ص ٧١ من مجموعة الرسائل.
(٤) أخرجه البخاري (٢/ ٨٣٥، رقم ٢٢٤٢).
1 / 12
جاء رجل فقعد بين يدي النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يَكذِبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا فيهم؟!، فقال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم .. اقتُص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله ﷺ:» أما تقرأ قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء/٤٧].
فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار (١).
شدة الورع:
عن عائشة ﵂ قالت: كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج وكان أبو بكر يُخرج من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه (٢) .. فماذا فعل أبو بكر عندئذ؟! فعل فعلا عجيبًا .. أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه ..
وروى ابن جرير الطبري في تاريخه، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني: ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (٣).
ومن ثمار الإيمان:
ثالثًا: الزهد في الدنيا
من تعريفات الزهد: «انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده»، ومثال ذلك: الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمى، ويحرص على اقتنائها، ويحلم بشراء الجديد منها، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يبالى بوجودها إذا ما وُجدت، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت.
وحال الناس مع الدنيا - بدون الإيمان - كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم.
فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها.
نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه، فالزهد حالة شعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى.
الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه، فعلى سبيل المثال: قد يتوفر لديه العديد من الملابس فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية.
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٠، رقم ٣١٦٥) وأحمد (٦/ ٢٨٠، رقم ٢٦٤٤٤)، والبيهقي في شعب الإيمان (٦/ ٣٧٧، رقم ٨٥٨٦)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٢/ ٢٨٠).
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ١٣٩٥ برقم ٣٦٢٩).
(٣) نقل هذا الخبر سيد قطب في ظلال القرآن ١/ ٥٠٥، نقلًا عن تاريخ الطبري ٤/ ١٦.
1 / 13
وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ [القصص/٧٧]، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: ... ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص/٧٧].
وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب.
هكذا كانوا:
بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض.
فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يصون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن!! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز (١).
وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من «حضرموت» مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا.
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!! لعله رابك منَّا شيء!!
فقال: لا، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال؟!، قالت: وما يغمك منه؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم، فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار (٢).
وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل «حِمص»، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا. قال: أميركم فقير؟! قالوا: نعم، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة وقال: اقرؤوا ﵇ مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.
_________
(١) الإصابة ج٣ ترجمة (٦١١٧)، وأسد الغابة (٤/ ١٥٩)، تاريخ الإسلام للذهبي (٢/ ١٠٧).
(٢) طبقات ابن سعد (٣/ ٢١٤)، وتهذيب التهذيب (٥/ ٢٠)، والإصابة (٢/ ٢٢٩) ترجمة (٤٢٦٦)، وحلية الأولياء (١/ ٧).
1 / 14
جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يُبعدها عنه ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟! أمات أمير المؤمنين؟! قال: بل أعظم من ذلك. قالت: أأُصيب المسلمون في واقعة؟! قال: بل أعظم من ذلك، قالت: وما أعظم من ذلك؟! قال: دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي، ودخَلتْ الفتنة في بيتي. فقالت: تخلَّص منها، قال: أوتُعِينيني على ذلك؟ قالت: نعم. فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها (١).
وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم: إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط، ولا منعت منها سائلًا قط، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال (٢).
وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله ﷺ؟ أليس ..؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا، ولا كراهية في الآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت، قال: وما عَهِد إليك؟ قال: عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعدَّيت (٣) .. فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما (٤).
ومن ثمار الإيمان
رابعًا: التأييد الإلهي
الله ﷿ هو مالك الكون وربه ومدبر أمره ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة/٢٨٤].
لا يوجد له شريك في ملكه، يفعل ما يشاء .. يُقدِّم ويُؤخِّر، يقبض ويبسط، يخفض ويرفع، يُعز ويُذل ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر/٢].
وإن كان البشر كلهم أمام الله سواء فلا أفضلية لجنس أو قبيلة أو لون إلا أنه سبحانه يزيد من إكرامه وعنايته ورعايته للمؤمنين الذين يحبونه ويؤثرونه على هواهم ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية/٢١].
فالكرامة على قدر الاستقامة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات/١٣].
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن/١٦].
وكلما ارتقى العبد في سلم الإيمان ازدادت ولاية الله له ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف/١٩٦].
وفي الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (٥).
هذه الولاية والكفاية تشمل الفرد المؤمن، وتشمل المجتمع المؤمن.
_________
(١) الإصابة ج٢، ترجمة (٣٢٧٠)، وحلية الأولياء (١/ ٢٤٤)، وتهذيب التهذيب (٤/ ٥١)، وصفة الصفوة (١/ ٣٧٢).
(٢) الإصابة، ج١، ترجمة (٢٢١٠)، وأسد الغابة (١/ ٣١٦)، وحلية الأولياء (١/ ١٤٣)، وصفة الصفوة (١/ ١٦٨).
(٣) أخرجه أبو يعلى (٨/ ٨٠، رقم ٤٦١٠)، والطبراني (٤/ ٧٧، رقم ٣٦٩٥)، والبيهقي في شعب الإيمان (٧/ ٣٠٧، رقم ١٠٤٠٠)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ٣٦٠).
(٤) أخرجه ابن حبان (٢/ ٤٨١، رقم ٧٠٦).
(٥) أخرجه البخاري (٥/ ٢٣٨٤، برقم ٦١٣٧).
1 / 15
فعلى مستوى الفرد:
يتولى الله ﷿ أمور عبده المؤمن بما يُحقق له مصلحته الحقيقية ويجلب له السعادة في الدارين، وفي بعض الأحيان قد تكون من مظاهر تلك الولاية التضييق على العبد في أمور الدنيا إلا أنها تحمل في طياتها خيرًا كثيرًا، وفي هذا المعنى يقول ﷺ: «إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه» (١).
الأمة والإيمان:
أما في محيط الأمة، فلا يكفي إيمان بعض الأفراد - هنا وهناك - لكي تتحقق بهم الولاية والنصرة للأمة، فالأمة كالجسد الواحد، لا يكون صحيحًا إلا إذا صحَّت جميع أعضائه. بمعنى أن وجود أفراد صالحين في ذواتهم لا يكفي لاستجلاب المعية والنصرة الإلهية، بل لابد وأن يقوموا بالعمل على إصلاح غيرهم - بإذن الله - وأن يبذلوا غاية جهدهم في ذلك من خلال العمل على تقوية الإيمان في قلوبهم، وتصحيح التصورات والمفاهيم الخاطئة في عقولهم، ودفعهم إلى طريق التواضع ونكران الذات، وتعويدهم على بذل الجهد في سبيل الله.
وعندما تشيع معاني الصلاح في الأمة ويرتفع منسوب الإيمان في القلوب، ولو بنسبة معقولة تتيح للمسلم اتخاذ قرارات التضحية ببعض شهواته ومصالحه من أجل نصرة دينه .. عندئذ يتحقق موعود الله بنصر الأمة - بإذنه سبحانه - مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
وتاريخ الأمة خير شاهد على أنه عندما يغلب الإيمان والصلاح على جيل من أجيال الأمة فإن النصر يكون حليفهم، والتأييد الإلهي لا يتجاوزهم .. انظر - إن شئت - إلى آيات القرآن وهي تقرر وتؤكد على هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران/١٢٠]، وقوله: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران/١٢٥].
فالآية تؤكد أن الملائكة ستنزل سريعًا لتؤيد المؤمنين، وتقاتل معهم فور تحققهم بالصبر والتقوى، وفي المقابل؛ فعندما يغيب الإيمان ينقطع التأييد الإلهي، ويُترك المسلمون لأعدائهم ليسوموهم سوء العذاب.
الوعد الحق:
لقد وعد الله ﷿ عباده المؤمنين بالغلبة والنصر: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء/١٤١].
هذا الوعد القاطع متى يتحقق؟ .. يُجيب سيد قطب عن هذا السؤال في تفسيره لهذه الآية فيقول:
إنه وعد من الله قاطع، وحُكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وتمثَّلت في واقع حياتهم منهجًا للحياة، ونظامًا للحكم، وتجردًا لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة .. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا.
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تُخالفها. وأنا أُقرر في ثقة بوعد الله لا يُخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان: إما في الشعور، وإما في العمل - ومن الإيمان أَخذُ العدة، وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية، ثم يعود النصر للمؤمنين حين يوجدون.
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه أحمد (٥/ ٤٢٨، رقم ٢٣٦٧٧). وأخرجه أيضًا: البيهقي في شعب الإيمان (٧/ ٣٢١، رقم ١٠٤٥٠)، والحاكم (٤/ ٢٣١، رقم ٧٤٦٥) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح ١٨١٤.
1 / 16
ففي «أُحد» مثلًا، كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول ﷺ، وفي الطمع في الغنيمة. وفي «حُنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئًا من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد الله فهو حق في كل حين.
نعم، إن المحنة قد تكون للابتلاء .. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أُحد وقصَّهُ الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين.
وحين يُقرر النص القرآني: أن الله «لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا» .. إنما يدعو الجماعة المسلمة لاستكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورًا وشعورًا، وفي حياتها واقعًا وعملًا. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها.
وليس بيننا وبين النصرة في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة.
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لا تَضعُف ولا تفنى .. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها .. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعًا.
غير أنه يجب أن نفرق دائمًا بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية، ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها (١).
نماذج للولاية والتأييد الإلهي:
والنماذج العملية للتأييد الإلهي للمؤمنين كثيرة، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة المؤمنة.
فعلى مستوى الفرد:
* أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «مُجابي الدعوة» عن أنس بن مالك، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله ﷺ يُكنى أبا معلق وكان تاجرًا يتَّجر بمالٍ له ولغيره، وكان له نُسك وورع، فخرج مرة، فلقيه لِص مُتَقَنِّع في السلاح، فقال: ضع متاعك فإني قاتلك، قال: شأنك بالمال، قال: لست أُريد إلا دمك، قال: فذرني أُصلي، قال: صلِّ ما بدا لك، فتوضأ ثم صلَّى، فكان من دعائه: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعَّالًا لما يُريد، أسألك بعزتك التي لا تُرام (٢)، وملكك الذي لا يُضام (٣)، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني. قالها ثلاثًا، فإذا هو بفارس، بيده حربة رافعها بين أذني فرسه، فطعن اللص فقتله، ثم أقبل على التاجر، فقال من أنت، فقد أغاثني الله بك؟ قال: إني ملَك من أهل السماء الرابعة، لما دعوتَ سمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوتَ ثانيًا، فسُمعت لأهل السماء ضجَّة، ثم ثالثًا فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله أن يُوليني قتله (٤).
_________
(١) في ظلال القرآن: ٢/ ٧٨٢، ٧٨٣.
(٢) لا تُرام: لا تُطلب.
(٣) لا يُضام: لا يُذَل.
(٤) الإصابة (٤/ ١٨٢).
1 / 17
* وأخرج الحاكم عن محمد بن المنكدر أن «سفينة» ﵁ مولى رسول الله ﷺ قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحًا من ألواحها فطرحني اللوح في أجَمَة (١) فيها الأسد، فأقبل إليّ يُريدني، فقلت يا أبا الحارث: أنا سفينة مولى رسول الله ﷺ، فطأطأ رأسه، واقبل إليّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم، فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به (٢).
* ولما فتح عمرو بن العاص ﵁ مصر، أتى أهلها حين دخل بؤنة (من أشهُر القبط) فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بِكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها شيئًا من الحُلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، فإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا أشهُر بؤنة وأبيب ومَسَرى لا يجري قليلًا ولا كثيرًا حتى همُّوا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب ﵁ بذلك، فكتب إليه عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي، فلما قدِم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد:
فإن كنت تجري من قِبَلِك فلا تجر، وإن كان الواحد القهار يُجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يُجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل - وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، لأنهم لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل - فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، وقطع تلك السُنَّة السوء عن أهل مصر (٣).
التأييد الإلهي للفئة المؤمنة:
عندما ننظر إلى المعارك التي خاضها الجيل الأول مع أعداء الدين نجد أن الميزان «المادي» يميل بقوة نحو أعدائهم من حيث العدد والعدة، ومع ذلك كان النصر حليف المؤمنين، مع الأخذ في الاعتبار بأن الفئة المؤمنة لم تُقصر أبدًا في الأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامها، ولكن كانت تلك الأسباب - مهما بلغت - أقل بكثير مما عند أعدائهم.
ففي معركة بدر يتجلى التأييد الإلهي في صور متعددة ليتوج في النهاية بنصر عزيز: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال/١١، ١٢]. *
_________
(١) أجمة: شجر كثير ملتف (غابة).
(٢) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري رقم (٦٨٤٨)، ومعرفة الصحابة لأبي نُعيم، برقم (٣١٠٢)، وفي دلائل النبوة للبيهقي، برقم (٢٢٩٣).
(٣) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (٤/ ١٤٢٤، رقم ٩٣٧٣)، وابن عساكر (٤٤/ ٣٣٦)، انظر حياة الصحابة ٣/ ٤٠٨، ٤٠٩.
1 / 18
وفي فتح المدائن سخر الله نهر دجلة ليعبُر عليه المسلمون بخيولهم ... فبعد انتصار القادسية العظيم - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية - دخل سعد بن أبي وقاص (نهر شير) ولكنه لم يجد فيها أحد ولا شيئًا مما يُغنم، بل قد تحول الفرس إلى المدائن وركبوا السفن، وضمُّوا السفن إليهم، ولم يجد سعد ﵁ شيئا من السفن (لعبور نهر دجلة)، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن، وإنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر. فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تَخلُصون (تَصلُون) إليهم معه، وهم يخلُصون إليكم إذا شاؤوا فيناوشونكم في سفنهم، وإني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، فندب سعد الناس إلى العبور .. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: «نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس، ولم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين، فلا يُرى وجه الماء من الفرسان والرجَّالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده .. ولم يُعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له مالك بن عامر، فدعا صاحبه الله ﷿ وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي، فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه.
وعندما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانًا ديوانًا، أي: مجانين مجانين. ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسًا، بل تقاتلون جنًّا.
وخرج المسلمون من النهر ولم يغرق منهم أحد، ولم يفقدوا شيئًا، ودخلوا المدائن ولم يجدوا بها أحدًا (١).
ومن ثمار الإيمان
خامسًا: إيقاظ القوى الخفية
عندما يتمكن الإيمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده يتحدى الصعاب، ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك.
الإيمان الحي يوقظ القوى الخفية داخل الإنسان ويجعله دومًا يتحدى أوضاعًا أقوى منه، ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته ..
اجتمع يوما أصحاب رسول الله ﷺ في مكة، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يُسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا أُسمعهم إياه. فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بِشَر. فقال: دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني.
ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم - رافعًا بها صوته - ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن/١ - ٤].
_________
(١) البداية والنهاية لابن كثير ٧/ ٧٠ - ٧٢ باختصار.
1 / 19