وجدت نفسي بين قوم يأكلون ماشين، ويقرءون آكلين، ويعدون النقود راكضين، ويعبدون الأوثان قائمين قاعدين، بل يقدمون أرواحهم وأجسادهم ضحية لآلهة ما سمعت بأسمائها العصور العابرة. عشت زمنا بين قوم يقال إنهم مسيحيون، ولكنهم في الحقيقة وثنيون، وثنيون بترفهم وبطرهم، وثنيون بأخلاقهم وشعورهم، وثنيون بمطامعهم واستئثارهم، وثنيون بتعدد آلهتهم. وأما هياكل هذه الآلهة وأصنامها فإنك لا تشاهدها قائمة في الأسواق، بل ينبغي أن تنظر إليها بعين الروح فتراها في كل حي وجماد يتحرك هناك تعال إذا معي لأريك آلهة هذا الزمان الجديد، آلهة هذا التمدن الحديث، تعال معي لأريك من الهياكل والأصنام ألوانا وأشكالا. هذا صنم من القطن لإله البروص وذاك صنم من الفحم لإله المعادن، هذا صنم من السكر لإله الحقول وذاك صنم من الخشب لإله الغابات.
وههنا هياكل من المرمر والرخام لإله التجارة، وهناك الهيكل الأكبر المشيد من حجارة الذهب والفضة لإله الآلهة، إله الأمة، إله المال. والناس هناك يعدون أموالهم راكضين من هيكل إلى آخر ومن إله إلى أخيه، وأبدا تراهم لهذه الآلهة الغريبة ساجدين، فيعبدونها ويخدمونها ويموتون في سبيلها، يعبدونها في كل حالاتهم، يخدمونها في حركاتهم وفي سكناتهم، فخرجت من بين هؤلاء المشركين طالبا في البرية ربي مثل إبراهيم، خرجت من بينهم وأنا على اعتقاد أن المرء إن قرب من العالم الجديد بعد عن الطبيعة وعن الشعر وعن الجمال الروحي وعن الله؛ ولذلك حولت وجهي إلى مشرق الشمس وعدت في طريقي إلى أرض الأنبياء، عدت إلى وطني لأقترب من جمال الشرق الشعري وجماله الطبيعي وجماله الروحي بل الإلهي، أي: الجمال الدائم الأبدي الذي لا تشينه الحالة السياسية المختلة، ولا الحالة الاجتماعية المعتلة.
عدت إلى مسقط رأسي باحثا عما أضعته هناك أيام الصبا، أفلت من أشراك التمدن - والحمد الله - وفررت هاربا إلى الفريكة. على كتف الوادي وبالقرب من كروم أجدادي نصبت خيامي ، فوق نهر الكلب وقبالة جبل صنين رفعت رايتي البيضاء عوضا عن العلم الأحمر الذي وضعته في يدي إحدى بنات الحرية في البلاد الأميركية. رفعت علم السلم فوق فلسفتي الاجتماعية بعد أن كان علمي علم القتال وكتبت على بابي: في إصلاح الفرد إصلاح الأمة وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام.
نعم - سادتي - إن التهذيب خير من التحزيب والتخريب، على أن ذلك ليس من موضوعي هذه الليلة، فالمجال ضيق لمثل هذا البحث وأضيق منه منبر هذه الجمعية.
عدت إلى وطني طالبا فيه راحة العقل وراحة النفس وراحة الجسد، بل طالبا فيه شيئا أشرف من كل ذلك وأسمى، طالبا في الطبيعة ومنها ما ينسي المرء عقله ونفسه وجسده. عدت - يا سادتي - لا كما عاد يوليوس قيصر إلى رومية أو هوجو إلى باريس، عدت قانعا شاكرا راضيا، وتذكرت السندباد لما عاد من سفراته، وأبا العلاء لما عاد إلى معرته، فشكرت الله كالسندباد على سلامتي في الغربة، ولجأت - كأبي العلاء - إلى العزلة في قريتي هربا من الحضارة ومتاعبها، وشغفا بالطبيعة وجمالها، وحبا بالتأمل ولذاته، وتقربا من الله وبركاته، فدخلت هذه المدينة كما يدخل الكهان الهيكل أو اللص البيت، دخلتها من باب السر فلم يدر بي من الإخوان أحد، وصعدت إلى الجبل ولم يدر بي أحد، وأقمت، هناك زمنا في ظلال الصنوبر ولم يدر بي أحد، فاضطجعت على العشب ورأسي في ظل وزالة زاهرة - إنا للطبيعة وإنا إليها راجعون - وشكرت الله شكرا جزيلا، ووددت لو كان بيني وبين المدن أضعاف ما بيني وبينها من الوهاد والجبال والبحار.
وأظنني أخطأت مرة فرددت بصوت عال صدى صوت نفسي، وما علمت أن للأشجار عيونا وللصخور آذانا، بل ما علمت أن النهر يحمل إلى المدينة صدى صوت الوادي وصدى ساكنيه، ففي صباح يوم من فصل الشتاء سمعت حديثا دار بين شجرة كبيرة من الصنوبر وأخرى صغيرة، أو بين أم الغابة وإحدى بناتها، قالت الابنة: من هذا الغريب الذي لا يخاف السكنى معنا في هذا الشتاء؟ فأجابت الأم: ما هو بغريب يا بنيتي، وإنما هو من نبات هذه الأرض ومن سنديان هذه الجبال، هو من أبنائنا يا بنية، وقد طالما حملته وحملته من ثماري لما كان صغيرا. قد طالما فرشت له من ريشي وظلي ما يزيل تعب الجسد وهم الفؤاد وبعثت إليه من أرج نسيمي ما ينعش النفس ويحييها، ومع ذلك فقد هجرنا زمنا طويلا وعاد اليوم ليكفر عن ذنوبه أمامنا وفي ظلنا. حبيه يا بنتي فإنه يحبنا.
وبمثل هذا كانت الأشجار تفشي أسراري إلى النهر، والنهر يحملها إلى البحر، والبحر يلقيها بلا اكتراث على شواطئ هذه المدينة، وقيل إن الصيادين سمعوا ذات يوم في هدير الأمواج أصواتا غريبة مطربة، فظنوا أن أحدا من الجن يكلمهم بلساننا العربي الشريف، وقيل إنهم فهموا من ألغاز الأمواج شيئا يسيرا وأشاعوا في البلد إشاعات تحولت بعد أيام خرافات وخزعبلات، تشير كلها إلى أن في وادي الفريكة ناسكا تسجد له الصخور وتخاطبه الأشجار وتكلمه السواقي وتستشيره الطيور.
فاستغربت الخبر كما استغربه الناس، وبعد أن فتشت في الوادي عن الناسك وأعياني التفتيش كتبت إلى أحد أصدقائي كتابا هزأت فيه من هذه الخرافات التي قصها البحر على الصيادين وأذاعها الصيادون في المدينة فزاد الكتاب الطين بلة؛ لأن الأدباء الذين سخروا مثلي بهذه الخرافات اعتقدوا بعدئذ صحتها وطفقوا ينشرونها في أندية الأدب، فتجسمت الإشاعة حتى استحالت خرافة وأصبحت في اعتقاد الناس حقيقة راهنة، وكذلك تنشأ الخرافات وتستولي على الناس. فاهتم بعض أعضاء هذه الجمعية بالأمر وكتب أحدهم إلي لأصدقه الخبر، ثم جائني من الجمعية نفسها كتاب تسألني به أن أتحفها بشيء من أخبار الناسك وأسفاره، وبعبارة أوضح دعتني إلى الخطابة في حفلتها السنوية منذ سنتين، فلبيت الدعوة وبعثت إلى الجمعية بشيء من ثمار نفس الناسك المذكور.
2
ولبثت أنتظر جوابها، وبينما أنا أتوقع منها كتاب شكر جاءني الرسول بعد أسبوع ومعه الثمار التي بعثتها، ثماري أعيدت إلي، ردت الجمعية هديتي بلا عذر ولا شبه عذر، أرجعت الثمار وأغفلت الاعتذار، وبعثت مع الرسول تقول قد فحص الطبيب ثمارها فوجدها مضرة بصحة هذه الأمة، وجد فيها مكروبات غريبة خبيثة عديدة فكانت هذه منها إهانة فوق إهانة، لكنني قبلتها شاكرا وحسبتها من جملة ما ينبغي أن يعرض عنه المرء في عزلته، حسبتها مما ينبغي أن نترك وراءنا إذا حولنا وجهنا نحو شمس النفس الشارقة من وراء جبال الحقيقة المرسلة ما فاض من نورها فوق مروج الشعر وبحيرات الخيال.
نامعلوم صفحہ