وأما من شن على الجريدة الغارة مسلحا بأقوال الرسل الأبرار، طالبا إبطال المزمار والقيثار فأنا أشعر معه من حيث النظريات فقط وأذرف وإياه دمعتين على فساد هذا الزمان المضطرب وآله المقلقين ونندب حظ الدين الذي لا يقوم إلا بالزخرف والضوضى والضجيج كما هي حالة فرع من الديانة المسيحية بالأخص ألا وهو «جند الخلاص» الذي لا أريد أن يكون خلاصي عن يده المعتادة على ضرب الطبل وعند هذا الحد أودع عدو القيثار آسفا وأسأله أن يضع سلاحه الديني جانبا وينظر إلى المسألة من وجهها العملي السياسي الدنيوي فيرى - إذ ذاك - أن أكبر قسم من الحقيقة التي ظنها كلها بجانبه هي بجانب الجريدة وبأولى حجة بجانبي. وخلاصة الكلام أن الجريدة مصيبة بانتقادها والمراسل غير مخطئ تماما باحتجاجه، وإذا كان الضجيج لازما فالاحتجاج عليه لازم أيضا، والسلام.
روح هذا الزمان
المصلح السياسي في هذه الأيام هو ذاك الذي يندد بالحكومة ويطلب تغييرها ليحصل مركزا فيها. هو الذي ينادي بالإصلاح نفاسا في الاشتهار إن كان شابا أو رغبة في الوظيفة إن كان كهلا أو حبا بالمال إن كان شيخا. وسواء كان جمهوريا أو دمقراطيا في الولايات المتحدة، أو من الأحرار المتطرفين في إنكلترا، أو من أعداء الإكليروس في فرنسا، أو من الاشتراكيين في ألمانيا، أو من الفوضويين أو الثورويين في روسيا؛ فالغرض الذي من أجله يناقش ويجادل ويعاكس ويشاكس ويندد هو واحد، الغاية التي تحركه واحدة، الدافع والجاذب لا يختلفان مع المكان ولا يتغيران مع الزمان، فهو حقا وطني صادق، هو غيور على الأمة ومصالحها، هو مصلح ومحب للبشر، ما زال خارج دائرة الأحكام، ما زال ثوب السيادة بعيدا عنه.
ولكن ساعة ينال أمنيته ساعة يتسربل بأرجوان السلطة أو بصوفها (الأرجوان للأوربيين والصوف للأميريكيين) تراه عندئذ يهجر الصحافة ويخفض صوته على المنبر وينسى أو يتناسى الماضي، ويأخذ بزمام الأمور كما لو كان القيصر أباه أو ملوك البوربون أجداده! الانقلاب في السياسة لازم وتلون السياسيين يكسب المنظر رونقا والتمثيل جمالا!
ولو تقصيت تعاليم هؤلاء المصلحين، لو سبرت غور فلسفتهم السياسية لوجدتها منحصرة إما ببطن المرء وكيسه أو بشرف الحكومة ومجدها - يجب أن نشبع هذا الشعب الجائع، يجب أن نحرر الشعوب المدوسة المظلومة، يجب أن نساوي بين الفقير والغني، يجب أن نحطم الشركات الاحتكارية، يجب أن نعزز تجارة البلاد، يجب أن نؤيد سلطة الحكومة، يجب أن نوسع نطاق المستعمرات، يجب أن نزيد قوة الجيش، يجب أن نبني المدرعات - يا لها من فلسفة سياسية بل فلسفة تجارية لا أثر فيها لما يختص بالكمالات الروحانية وبتهذيب النفس وترقية الشعور يا لها من فلسفة حيوانية لا غذاء فيها للحياة السامية التي لا تزهر ولا تثمر إذا لم يكن لها من القلب والعقل والضمير والنفس أربع دعائم قوية.
وهذه كلها أمور تافهة في أعين المصلحين السياسيين فهم لا يهتمون لها، وعندهم أن بطن الإنسان وكيسه وأهواء الأحزاب وتعصبها هي أهم ما في الحياة، فهم يدغدغون هذه بالأكاذيب ويملأون تينك بالمواعيد، بطن الإنسان وكيسه وشهواته وتعصبه إنما هي أس التعاليم السياسية التي تجعل الأميركان تجارا والإنكليز حكاما والألمان عساكر والروسيين فوضويين والفرنسويين عبيدا للأحزاب والفتن.
في طنبور المصلح ذات الأوتار الغليظة السقيمة، وتر واحد لطيف صحيح، له في النفس وقع جميل، وحتى هذا الوتر - وتر الحرية - لا يخلو من غنة خفيفة أو رنة خشنة، وذلك لأن المصلح لا يضرب عليه إلا صدفة، أو لأغراض سياسية والشعب البائس الجاهل لا يطلب الحرية غالبا إلا لاعتقاده بأنها تخوله الاعتداء على الأغنياء ليملأ كيسه وبطنه.
الحرية وحدها هي كما قيل سيف ذو حدين، والحرية مع التهذيب نبراس ذو نورين: نور يضيء الطريق خارجا ونور يضيء ويحرق باطنا، وفي كل حال هي لا تشفي الأمة من أمراضها السياسية والاجتماعية ولا تعلم الإنسان شرف النفس والمروءة، ولا تجعل الشرير صالحا والمنافق صادقا والمعوج مستقيما وإن رابك شيء من هذا وجه أنظارك إلى الأحوال السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة.
نعم ينبغي أن تتحرر الشعوب يجب أن يتحرر الإنسان ولكن لا بواسطة هؤلاء المصلحين لا بسعي هؤلاء السياسيين، ولماذا؟ لأن عهودهم من نسج العنكبوت؛ لأن مواعيدهم مثل خيال القمر على الغيوم، لأن أعمالهم تلول رمل لا تدوم، لأن شفاههم ليست مطهرة، لأن اعتقادهم ليس من القلب، لأن نفوذهم ابن الساعة وحليف الأحوال ، لأنهم يحبون الحرية حبا بالشهرة أو الوظيفة أو المال، وإن وفوا مرة بوعد من مواعيدهم المزخرفة بعد أن يتقلدوا زمام الأحكام فهناك البلية الكبرى، هناك تتوج الآمال والأحلام إذ تهدأ ضوضى الأحزاب وتزول الشكوى، فتعنو لهم الوجوه ويدخل الشعب رأسه في ربقتهم بعد أن أخرجه من ربقة الظالمين من الملوك.
ينبغي للإنسان أن يحرر نفسه بنفسه، ينبغي له العمل في الداخل قبل الخارج، عندئذ تكون حريته روحية أكثر منها مادية، تكون صافية من الغش والخداع تكون أساسا للحياة الحقيقية الشريفة، لا شعلة نار لإضرام أهواء النفس أو طعمة لشهوات الجسد، أو امتيازا للسلب والتعدي، أو براءة للقذف والمقاذعة.
نامعلوم صفحہ