في هذه الحرب وأهوالها حقيقة كلية علية لا يطفأ نورها ولا تزعزع أركانها، هي من أوليات أسباب الوجود، ومن أهم دعائم المجتمع الإنساني، ومن أعظم أركان الأمم والحكومات. حقيقة أولية أزلية لا تتبدل ولا تتغير، تزول الأمم وهي لا تزول، تضمحل الممالك وهي أبدا حية ثابتة نيرة منيرة، تتقلب الأحكام وتتساقط العروش وهي قائمة كتمثال الحرية في ميناء هذه المدينة، لا تزعزع الحروب أركانها، ولا تطفئ مصباحها كوارث الزمان.
والحقيقة هذه هي أن الإنسان لا يفلح ولا يسعد ولا يرتقي إلا بممارسة حقوقه الطبيعية، وأن الأمم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها، وأن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر تصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان الحرية. حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل.
وأول أسباب الرقي في الأمم الحرية الاجتماعية، والحرية السياسية، والحرية الدينية. وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأمة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية، فيسعون دائما في تعزيزها، وينهضون للدفاع عنها عندما تقيد أو تمتهن. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة المستقلة قانون يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية، ويوجب عليها الدفاع عنها يوم ينهض عليها الظالمون يحاولون قتلها.
حقيقة أولية أزلية إلهية لا تموت في أمة قبل أن تموت تلك الأمة وتضمحل آثارها، فهل تظنها تموت في فرنسا؟ هل تظنها تموت في إنكلترا؟ هل تظنها تموت في روسيا؟ هل تظنها تموت في أميركا؟ في هذه الأمة الفتاة المجيدة التي أنارت مصباح الحرية منذ مائة سنة، والتي سجلت على الظالمين كلمة ترددها اليوم أمم الشرق والغرب، بل تسطرها بالدم على لوح الوجود: لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
إنما هي هذه الحقيقة التي تبدو لنا اليوم من خلال ظلمات الحرب وأهوالها، تسمعنا صداها المدافع، ترينا سناها الحراب، تحرك القنابل اسمها المجيد، تتغنى بها الجنود في الخنادق وفي البحار، تسطرها الطيارات على جبين السماء وراء الغيوم، ترفع بنودها الأمم وتقيم لها الأنصاب والتماثيل.
لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
هذه الحقيقة إنما هي التي تنير قلوب العمال اليوم في معامل البارود والسلاح وتثبت في العمل أيديهم، هذه الحقيقة إنما هي التي تبذل من أجلها خيرات الأرض، وقوى الممالك، وحياة الشعوب، هذه الحقيقة إنما هي التي تحرك اليوم أدوات الحراثة وأدوات الشحن والنقل، كما تحرك يراع الكاتب ولسان الخطيب.
هذه هي الحقيقة الخالدة في قلب الجندي تحبب إليه الموت في سبيلها، تحدثه بالنصر في ظلمات الليل، تكلله بالمجد في ساحات القتال، تنعشه فتجدد قواه ساعة يستريح. تضرم في نفسه نارا ساعة يهجم على العدو، عدوها، وتزهر نورا في كل جرح من جروح أبطالها وشهدائها.
لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.
هذه هي الحقيقة التي دفعت بالمرأة اليوم إلى دوائر الأعمال الشاقة، فتراها في أوروبا وفي هذه البلاد تقوم مقام الرجال، فتشتغل في معامل البارود والسلاح، وفي دوائر سكك الحديد وتسير العربات، وتخدم في المطاعم، وتحرث الأرض، وتحارب أيضا - كما في روسيا اليوم - كإخوانها الفدائيين. هذه الحقيقة يلبس شارتها الرفيع والوضيع في الأمة من نساء ورجال، ويجاهد في سبيلها السياسي والكاهن والفلاح. أجل إن الفلاح اليوم يحرث حقله لا حبا بالكسب بل دفاعا عن الوطن، والسياسي يخدم الأمة اليوم لا حبا بالشهرة والمجد بل حبا بالوطن، والكاهن يصلي اليوم لا في سبيل النفوس بل في سبيل الوطن.
نامعلوم صفحہ