206

أفلا ترى إذا أن تلك الألاعيب - ألاعيب الصبوة - وتلك الرموز - رموز الروح - لتحيا حقيقة في الأزهار التي كنا نجمعها لقديس القرية، وكم مرة ضللنا الطريق واقتحمنا العواصف في سبيلها؟ أفلا تراها في غض الكلاء وكثيف الأدغال حيث كنا نتغلغل فرحين ونضيع لاعبين؟ أفلا تراها في الأشجار التي كنا نتسلقها ابتغاء ثمارها ولا تزال أغصانها تحن إلى استماع أغانينا الجبلية؟ أفلا تراها في الجداول الفضية المتدفقة التي كنا نجتازها في الشتاء مزدرين أخطارها؟ أفلا تراها في الكروم البهجة التي كنا نسرق عنبها الذهبي والقرمزي وفي الحقول الخضراء المطرزة بالأزهار التي كنا نجمع منها لأحد الشعانين الحندقوق وشقائق النعمان؟

إن حب الوطن المجرد من هذه المحسوسات الطاهرة والتذكارات الروحية لحب سياسي مادي لا يشغل العقل منا ولا القلب.

أما تاريخ بلادي فهو - والحق يقال - تاريخ بلاد بلا علم ووطن بلا نشيد، ولكن رسالتها الروحية أضرمت قديما قلب العالم، أما تقاليدها فهي تقاليد أمة ولا ملك ولا زعيم. تقاليد شعب ولا حقوق ولا حرية. تقاليد نفس ولا هيكل ولا إيمان. ولكن روحها القديمة لا تزال حية تتألم ولذلك ستنهض للجهاد والفداء، ولئن كانت أسوارها المتهدمة وجناتها الذابلة المهجورة قائمة بين رمال البادية وأمواج البحر - بين عقمين خالدين - فإن إرثها الخالد الصليب، ومجدها الدائم الأزهار.

سوريا، بلادي، بلاد الورد والفل والوزال، أنت مهد الآلهة وفيك قبورهم، أنت الصليب والمصلوب، أنت الوطن الروحي لكل شعوب الأرض، فلما عبدت بابل تموز، ولما عبدت بعلبك المشتري، ولما استظهر الجليل على اليهودية، ولما انتصر قريش على الجليل؛ كنت ينبوع حياة جليلة تتهافت على مواردك الأمم، بل كان هيكلك هيكل المجتمع الإنساني، وكان صوتك صوت الله.

إيه سوريا بلادي، فمن دجلة إلى البحر الأحمر، ومن الطور إلى الحجاز، كانت روحك جنة الوحي وكان جمالك مطمح الملوك، وإذا كانت قد خلت جبالك من الأنبياء اليوم فإن بلابلك لا تزال تغرد في سهولك وهضابك، والورد لا يزال ينور في قلبك، والأرز لا يزال - من أعاليه وقد كللها الثلج - يمد ظلاله وينشر طيبه فوق رمالك الذهبية.

سوريا بلادي، بلاد الورد والفل والوزال، مهد الآلهة ولحد الآلهة، إنك - وإن غدوت قفرا سبسبا - لكعبة الروح إلى الأبد ومطمح أنظار الممالك والأمم.

الكنيسة والجامع1

لم أر بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها - وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتي التعبتين إلى هياكل عديدة - أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع؟ هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلب الفقراء، أو يغفل الورعين، أو يرد ثقيلي الأحمال خائبين.

وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، وليست رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة يوم الجمعة تكاد تنحصر بخطبة مصدرها القرآن فهي إذن لحن من البلاغة تعشقه الأسماع فيحدث في القلوب خشوعا وفي الأفكار نزوعا إلى العلاء.

الجامع كبير يسع الخطباء وحتى النوام من المصلين، ويبقى بين الاثنين فراغ لا يضر، فالمنبر لا يكون دائما قريبا من الزوايا الساحرة التي تظلل المسلمين ونفوسهم فيفسدها عليهم. وهم على اختلاف طبقاتهم يجتمعون للصلاة وللراحة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشا يتمتم الكلام، وشحاذا أعمى، وحمالا منهوك القوى، وأعرابيا عليه غبار البادية، وكلهم يؤمون الجامع ضارعين خاشعين، طالبين راحة بعد عناء باغين غفوة في الأصيل قصيرة، فينام هذا أمام المحراب، ويتمدد ذاك على الرخام البارد تحت الأروقة، بين يكون الشيخ أو الأمير راكعا على سجادة عجمية ثمينة، قائما بصلاته.

نامعلوم صفحہ