عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
صحيح ما يقال من أن الرياح والأعاصير تضر بمصالح الناس، ولكن أمن أجل الإنسان ومصالحه الزمنية المادية خلق الله كل شيء. هكذا يقال في التعاليم الدينية. ولكن الطبيعة تقول غير هذا القول، ويظهر لي أن الأعاصير تعوض أضعافا على الإنسان فالذي تأخذه من ملكه الخاص تعيده إلى ملك الطبيعة والخسارة لا تكون إلا نسبية، وهذا ظاهر لكل الذين وصلوا بترقيهم الروحي العقلي إلى درجة يتم فيها امتزاج الروح البشرية بروح الطبيعة الشاملة. وهؤلاء القلائل لا يفقدون شيئا أزليا ولا يكسبون شيئا زائلا؛ لأن الطبيعة بما فيها هي أبدا لهم وهم أيضا لها على غابر الدهر.
السير في شوارع المدن الكبرى يذكر الإنسان بالإنسان وأما السير في الوادي أو الغاب فيذكر السائر بالخالق العظيم، الأول يدعو إلى العمل والثاني إلى التفكر والتأمل. في الأول بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة الذي يتبعه النشاط والعزم وحسن الآمال.
يمشي المتنزه في شارع من شوارع باريز أو نويرك فيدهشه ازدحام الناس وتنقبض نفسه من الضجيج ويتبلبل فكره مما يراه وراء زجاج النوافذ الكبيرة من مصنوعات الإنسان ومن التحف والعاديات، ويمشي ابن الطبيعة في الغاب بين الأدغال وتحت الأشجار والأدواح فتنعشه روائح الصنوبر ويسكره أرج الأرض الذكي الممتزج بروائح القويسه والبطم والغار، فيخرج من بيت أمه وقد ملئ نشاطا وعزما وسرورا وبالأخص إذا كان معها في ساعة تهيجها، يخرج إذ ذاك وهو شاعر بأنه يستحق أن تعامله الطبيعة معاملة مثيل لها، بل معاملة أحد أعضائها المتساوين أمام الناموس الشامل الدائم الذي لا يبطل من أجل الأغنياء ولا يلغى من أجل الملوك والأمراء.
وهكذا خرجت من الوادي بعد أن قضيت فيه بضع ساعات خرجت بعد أن تصفحت فصلا طويلا من كتاب أميرة المنشئين وربة الكتاب. •••
وكلما كنت أعبر طريقا ضيقة كثيرة الأخطار والمخاوف كان يخطر على بالي هذا السؤال: من هو يا ترى فاتح هذه الطريق القديمة التي تدور حول الصخور وتمتد فوق الوهاد وتختفي بين الأدغال فتفضي إلى النهر أو الساقية؟ من هو بطل هذا الوادي، من هو فاتحها يا ترى؟ وما أدراك أن الطريق هذه خططتها الثعالب والذئاب، ما أدراك أن فاتحها ليس من بني الإنسان. ولكن ما لنا ولها فها قد وصلنا إلى الكروم وما وراءها من غيوم السكر ونجوم السرور، فتأمل الجفنات بعد أن أعطت الإنسان ثمارها في وقتها المعين، أتعرف لماذا اسودت جذوعها؟ لأن الدم قد خرج منها؛ لأن عروقها قد جفت فيبست فخارت قواها وسقطت إلى الأرض عن فسائلها، ولكن إذا كانت الجفنات تمثل لنا الموت فالطيون تحت الدكة وحول الجفنة يمثل لنا بأزهاره الحياة الجديدة الأزلية.
قد لاحظت أن أكثر الأزاهير البرية التي تنور في هذه الجبال في أواخر الخريف هي كلها صفراء صغيرة نحيفة، والذي يزيدها رونقا ويزيد محب الطبيعة دهشة هو أنها على ما هي عليه من النحافة وضعف البنية لا تنمو ولا تزهر إلا في الأماكن الخشنة المخوفة، فالزعفران ينبت بين العليق والشوك وتحت الصخور وبين الحجارة، والأقحوان الأصفر ينبت في الودائق وعلى الطرق بين دوس المواشي والبغال، وبخور مريم يلوص لوصا من خلال الدكات وثقوب الصخور، فكأنه يطل من نافذة بيته ليقول للمتنزه: عليك السلام، والطيون يعيش قانعا راضيا في كل مكان، والحندقوق البري يتمايل تيها بين الشيح والأدغال بعيدا عن منجل الفلاح، وأما الزعفران فهو أقل الأزهار طمعا وأكثرهم رقة واتضاعا، فهو يخرج من تحت ترابه بعد أول سحابة من فصل الشتاء ولا يطلب من الطبيعة كثيرا ، لا يطلب منها إلا القليل من الماء ليجدد حياته فيعطيها عوضا عنه بحيرات من نور أزهاره.
وكل هذه النباتات الجميلة الرقيقة تنبت وتنمو وتزهر وتذبل دون أن يلمسها بشر، دون أن تشعر بحنو قليل من العالم الخارجي، هي تعيش لنفسها وللطبيعة فقط، عفوا، فلو وقفت أمام معلف من المعالف في القرية لرأيت فيه كثيرا من هذه المخلوقات الجميلة الحقيرة، شيء يحزن، ولكن لو كان الفلاح يحب الطبيعة لما كانت تعيش عنده الماشية، وأما الطيون فهو أكثر النبات المزهر غرابة في أطواره؛ لأنه ينور في منتصف الصيف بعد أن يكون قد ذوى زهر الوزال ويعود فيزهر ثانية في هذه الأيام - أيام الخريف والموت - أما هو فلا يموت، هو يجدد شبابه فتخضر ثانية أغصانه الدبقة لتكللها الأنوار الصفراء.
والطيون سمج الهيئة قوي الرائحة لا تكاد تلمسه حتى يلصق بك قسما منه فهو يهبك شيئا من روحه عند المصافحة الأولى، نعم هو حر كريم سره في يده وعلى لسانه، ولكنه غريب بأطواره مستقل بأحواله مكروه عند الفلاح لكثرته وسماجته وقلة نفعه، وهو لا يزهر في الربيع حينما تكون بقية الأزهار البرية آخذة مجدها زاهية بجلالها، ولكن بعد أن تزول النعمة عن تلك تبدو على رءوس أغصانه الدبقة علامة الحياة اللطيفة، حياة الرقة والظرف والجمال، نعم حتى الطيون يزهر ولكن بوقته وبحسب ناموسه، حتى على هذه النبتة السمجة تظهر الطبيعة حسن صنعتها ولو آجلا.
نامعلوم صفحہ