ومجلس النواب لم يستحسن هذا التمويه على ما ظهر لنا، وكنا نود لو عبر عن استيائه بطريقة إيجابية لا سلبية، فقد أنبأتنا البرقيات أنه عند الفراغ من تلاوة الخطاب لبث النواب صامتين ولم يفه أحد منهم بذاك الدعاء المعروف الذي طالما رددته الأمة في الزمن الماضي، وهذا على ما نظن هو هو جواب النواب على مواربة العرش وتمويهاته. على أننا كنا نود لو فاه أحد الأعضاء على الأثر بكلمة احتجاج وجيزة، ولكن إذا أظهر المجلس استياءه بطريقة سلبية، فعلى الصحافة - وهي خير صلة بين المجلس والأمة - أن تظهر ذلك بطريقة إيجابية، على الصحافة أن تبرهن الآن بأنها متنبهة متيقظة، وأن من حقوقها أن تطالب المجلس والعرش بحقوق الأمة، وأن ترد الفضل في نشر المعارف والعلوم إلى مكانه وذويه.
العفو العالي
جاء في الإرادة السنية التي قرأها علي جواد باشكاتب المابين في مجلس النواب أن «قد صدر العفو العالي عن العساكر الذين اجتمعوا في هذا النهار (يوم سقوط وزارة الاتحاديين) فلا يسألون عما فعلوا » وقد علمت الأمة جمعاء أن من نتائج اجتماع - بل هياج - العساكر المتمردة قتل ناظر العدلية وعضو من أعضاء مجلس الأمة، فما معنى العفو يا ترى، وماذا عسى أن يكون وراء هذا التسامح الشاهاني الجميل.
إن الاعتداء على أحد النواب - ناهيك عن قتله - يعد اعتداء على المجلس كله بل على الحرية والدستور بل على الأمة بأسرها، ولكن من يعفو عن أنصار الجهل والتعصب اليوم وإن عدوا بالألوف يعفو غدا عن أنصار النور والحرية وإن عدوا بمئات الألوف، أليس كذلك؟ وإن مراحم «جلالة مولانا» لأوسع من السماء، فأصدقاء الدستور وأعداؤه - الأحرار والخونة كلهم - يقيمون في ظلها الظليل آمنين، أليس كذلك؟
ولكن الريب خلة في بعض الناس، ولا غرو إذا وجد في المجلس من ارتاب بحسن نيات جلالة مولاه، فقام يعترض على ما جاء في الإرادة السنية فيما يختص باجتماع العساكر يوم قتل ناظم باشا والأمير محمد أرسلان. ولا فرق إن أصدر المرتابون احتجاجهم من المجلس أو من المكان المختبئين فيه، فإن مجلس النواب في مثل هذه الأيام هو حيث يجتمع أو بالحري حيث يختبئ النواب.
ومن جميل أخلاق الشرقيين وبالأخص: الأتراك أن الشدة وإن أنستهم واجباتهم المهمة لا تنسيهم فروض اللياقة والمجاملة، فقد قرأنا في صحف الأخبار رسالة تعزية من الرئيس الجديد للمجلس إلى والد فقيد الوطن والحرية، ورسالة أخرى على شكلها من الصدر الأعظم فقلت: وهل هذا يا ترى أهم ما توجبه عليهم الوطنية اليوم، هل هذا ما يتطلبه منهم الدستور ويفرضه عليهم اليمين الذي أقسموه؟ أنظل إلى الأبد عبيد المجاملة والمصانعة، أفي مثل هذه الدمعة الكاذبة تسر الأمة ويتعزى آل الفقيد، أما كان أجدر بالنواب أن يبعثوا إلى المابين كلمة احتجاج على ما جاء في الإرادة السنية فالمثل: «إن العفو من شيم الكرام» لا يصح دائما.
غدا يهيج الجنود ثانية فيقتلون آخر من النواب فتصدر الإرادة السنية بالعفو عن القاتلين، وكلما قتل أحد أعضاء المجلس يفر هاربا من يخاف على جلده ولا يخاف على شرفه ويمينه، فلا يمضي - والحال هذه - شهر واحد حتى تخلو كراسي النواب كلها فينعب فوقها ثانية غراب التقهقر والظلم ويقهقه تحتها شيطان المكر والدهاء والخيانة، أبمثل هؤلاء النواب تنتصر الحرية ويتعزز الدستور؟
في عهد لويس السادس عشر قبل انفجار بركان الثورة بسنة واحدة رفض البرلمان في باريس أن يصدق على قرض اقترحه ناظر المالية ليمونه سدا لعوز الملك والحكومة، فجاء في اليوم التالي لويس بذاته - وأمر البرلمان أن يصدق على هذا القرض فأبى ثانية وقام دسبريمنيل فأغلظ الكلام لجلالته وصرح بحقوق البرلمان على الحكومة، فخرج الملك ووزيره محتدمين غيظا وبعد أيام جاء الضابط داغوست ومعه فريق من الجند وبيده أمر بإلقاء القبض على دسبريمنيل فدخل المجلس وقال: جئت بأمر الملك، فقابله الأعضاء ساكتين واجمين، ثم قال: وبما أنني لا أعرف أحدكم دسبريمنيل أطلب إليه أن يقف لأن بيدي أمرا ... فقاطعه الأعضاء قائلين: كلنا هذا الرجل ولم يقف منهم أحد فخرج داغوست وجنوده يومئذ مثلما خرج مولاه ووزير مولاه في اليوم السابق.
فإن كانت هذه وطنيتهم بل هذه حماستهم وجرأتهم في أمر يعد طفيفا ماذا يا ترى يفعلون لو قتل الجنود أحد إخوانهم على باب المجلس، أيسمعون العفو عن القاتلين ساكتين، أيكتفون بتعزية أقاربه ويؤجلون البر بيمينهم إلى أن يزول الخطر، أتمتهن حرمة الدستور وكرامة مجلس الأمة، أيعتدى على الحرية وأنصارها، أيهرق دم النواب على باب مجلس النواب ظلما وعدوانا فيفر الجبناء من الأعضاء هاربين ويظل الباقون منهم ساكتين، أليس الاعتداء على أحدهم اعتداء عليهم أجمعين؟
أمر لويس السادس عشر بنفي دسبريمنيل أحد أعضاء البرلمان، فأجابه البرلمان بصوت حي: كلنا هذا الرجل، غمست حراب فريق من العسكر بدم الأمير محمد أرسلان فعفى السلطان عن الجانين وسكت النواب عن عفو السلطان، وكأني بهم يشكرون الله على سلامة دمائهم الكريمة! وهذا - أيها الإخوان - الفرق بين الشرقيين اليوم والغربيين في مجالسهم النيابية وتجاه ملوكهم .
نامعلوم صفحہ