أي عمل قامت به هذه الطوائف الصغيرة وكانت فوائده أكثر من أضراره؟
فلو كان عددنا مائة مليون لما ضرنا انقسام الأحزاب إلى عشرين حزبا ولا خمسة عشر طائفة فعندئذ يكون الحزب قويا، وإذا شرع يعمل عملا أو ينهض نهضة سياسية أو أدبية كللها بالفوز والظفر. هذه الأمة الأميريكية يبلغ عدد سكانها ما فوق الثمانين مليونا، ومع ذلك لا نرى فيها أكثر من خمسة أحزاب سياسية. وأما الطوائف الدينية فكثيرة ولكن لا قوة ولا ذكر لها في الأمور السياسية والوطنية والمدنية، قد سلبت منها سلطتها أو بالحري قتلت بيدها؛ ولذلك هي ضعيفة ذليلة. قد قالت الحكومة الجمهورية لهذه الطوائف الدينية ما معناه: لكل دين حق البقاء ولا حق لدين أن يبيد دينا آخر بالقوة الوحشية.
لكل دين حق البقاء! افتكروا في ذلك وأبقوا هذه الآية في حافظتكم، ودولتنا العثمانية تنهج نفس المنهج، فالمسلمون يتساهلون مع النصارى ويسمحون لهم بممارسة دينهم حسب طقوسهم وتقاليدهم. وبما أن الإنسان يجتهد ليستفيد من كل شيء أنتجت الدول - ولا سيما الدولة العثمانية - نتيجة حسنة تئول إلى سياستها بالراحة تعويضا عن لذة الاضطهاد الوحشية، فغدا التساهل ضربا من السياسة الدولية بواسطتها تستميل الدولة الرؤساء والرؤساء قادة الشعب وسادته، فتصبح البلاد بواسطة هذه السياسة براحة وطاعة، راحة لا تشكر ولا تراد وطاعة لا تحمد ولا تحد. إني أفضل الاضطراب والعذاب على هذه الراحة، إني أفضل الثورة على هذه الراحة الممقوتة، راحة الذل والخمول، راحة الجهل والعبودية.
وكانت قد اتخذت هذه الخطة الدولة الرومانية التي كانت تتساهل بوجود الأديان في الأجيال الأولى للمسيح. وقد وصف هذا التساهل المؤرخ الشهير غبن بكلام وجيز مفيد فصيح، قال: «إن أنواع العبادات على اختلافها كانت سائدة في العالم الروماني، وكان الشعب يعتقدها كلها صحيحة والفلاسفة يعتقدونها كلها خرافية والحكام رأوها كلها نافعة مفيدة.» هذا كلام فيلسوف ومؤرخ مدقق، افتكروا به وهكذا انتشر التساهل وجلب على الشعب ليس فقط السلام والراحة بل الائتلاف الديني والجامعة المدنية، فالحاكم هنا رأى في الديانات المختلفة شيئا مفيدا، وقال في نفسه: فلندعهم يختلفون ما زال اختلافهم يسبب غبطتنا وسعادتنا، ويؤيد سلطتنا ويعظم شوكتنا، ويرفع مجدنا.
والدولة العثمانية تتساهل مع النصارى كي تبقيهم أذلاء شاكرين ولرؤسائهم مطيعين ولسلطتها خاضعين.
قد برهنت لكم كيف الدولة تتساهل مع النصارى، ولا أظن أحدا منكم يشك في تساهل المسلمين معنا، ولكن عجبا! كيف أن النصارى لا يتساهلون مع بعضهم؟ الأجانب يتساهلون معنا ونحن لا نتساهل مع بعضنا، ولا نخالط بعضنا، ولا نواري اختلافاتنا عند مصلحة أمتنا، ولا نتناسى ضغائننا عند محبة وطننا ونجاحه.
ولربما قال بعض اللاهوتيين: كيف نتساهل مع من لا صحة لدينهم ولا حق في معتقدهم فأقول: إن التساهل مبني على التناقض والخلاف في صحة من ادعى الصحة وبوحي من ادعى الوحي، ولو لم يكن ذلك لما تساهلت الحكومة مع الطوائف المخالفة لمذهبها؛ لأنها الغاية القصوى من غايات الحكومة المتعددة هي أن تحامي عن كل مبدأ صحيح وتكفل لكل رجل حرية القول والفعل إذ لم تمس حرية غيره.
فلو تأكدت الحكومة أن الدين الفلاني هو الدين الصحيح لما كانت تساهلت مع بقية الأديان، ولا أجازت ممارسة دين يخالف هذا الدين الصحيح إلا لغاية سياسية كما ذكرت، ولكن لما كان الخلاف سائدا والتناقض شائعا والحكومة المدنية تهتم بسياستنا، وكل من رؤساء الأديان يدعي صحة دينه ضاع صواب الشاعر في ضوضاء أقوالهم فأنشد قائلا:
في اللاذقية ضجة
ما بين أحمد والمسيح
نامعلوم صفحہ