وفتحت له أبواب نصرها التي يفضى منها إلى نعمة ونعيم، وشاهدته عيون أهلها فلما رأينه أكبرنه قطعن أيديهن وقلن حش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. والرعايا قد أصبحوا كما أمسوا بالدعاء له مبتهلين، والألسنة تتلو عليه وعلى أمرائه أدخلوا مصر إن شاء الله امنين. وقد أظلته سماء أديمها الحرير، ونجومها الذهب، وسحبها تنثر اللؤلؤ المكنون، وحيل بين سنابك خيله وبين الأرض بأثواب من استبرق تستوقف العيون، وكوفئت عن وطء الأحجار بالأمس في سبيل الله بوطء الديباج في هذا اليوم، وكادت الأيدي تلمس معارفها تبركا بترب الجهاد الذي حملت إليه أكرم قوم. فرأى فيها جنة أوردت من مناهلها كوثرا، وكان قد أنهي بين يديه حديث زينتها فوجد خبرها يجاوز خبرا. ولم يجد بها عيبا غير أن صباحها حمدت به الأجفان عاقبة السرى، وتبرجت عقائلها نزها للنواظر، وتظهر كل واحدة منهن في وشي أنهي من الزواهر، ولبست جدرانها حلل السرور النضرة، وأبرزت بعولتهن ما في ذخائرهم ولم يسألوا نظرة إلى ميسرة - وما ثنت أعطافها - كما أمست وجوه التهاني بها ضاحكة مستبشرة. ولما مر بسبلها حلا له ذلك النور، ولما سلك بين قصريها تحقق الناس أن أيامه زادت على أيام الخلفاء، فإنها أنشأت قصرين وهذا أنشألها قصورا ما بها من قصور، فمن بروج تمنت البدور لو كانت لها منازل، ومن قلاع لو تحصن بها جان لما دارت عليه دوائر الدهر الغوائل. ومن قباب علت وليس لها غير الهمم من عمد، وضربت على السماحة والندى فما عدم مشيدها حسن البناء ولا فقد، ومن عقود عقد لها على عرائس السعود، وتمكنت في الصعود. ومن حلي لو ظفر بها الحسن بن سهل لاتخذ منها لجهاز ابنته على المأمون ما لا ألف مثله في زمنه ولا عهد. ولو رآه ابن طولون لإعتضد به في إهداء عقيلته للمعتضد، ومن أواوين تزري بإيوان كسري الذي تعظم بناؤه وتحمد، ويستصغر في عين من رأى إيوانا واحدا من هذه، وكيف لا، وذاك هدم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا عمر لنصرة محمد. وذاك أهلك بانيه وجر، وهذا أيد بانيه ونصر. ومن سواق جوار وجوار سواق، وآلات تبهر عند رؤية حدائقها الأحداق، ومن عروش وأشجار، ورياض نضرة تبهت الأبصار. وقد أخذت من كل المحاسن بشطر، وحلت مذاقا. وكيف لا، وقد سقيت بالقطر؟ ومن سفائن قد ترفعت حتى مرت في الجو من بحر النسيم في لجج، ومن عجائب إذا حدث المرء عنها قيل له: حدث عنه ولا حرج، ومن شخوص بالألحاظ تغازل، ودمي تسحر العقول بسحر بابل، وصور يخيل للرائي أنها تنطق، وأشكال وضعت صفة للحرب التي أضحت رايتها في الآفاق تخفق، ومن هيبة للعدى التي أبادتها الأبطال، وأعدمت حقيقتها فلم يبق منها إلا مثال يبرز في خيال، ومن جتور ظهرت بها آية ملكه لما مرت بنفسها على رأسه الكريم مر السحاب، وسارت بين السماء والأرض فلم تحتج مع سعادته إلى عمد ولا إلى أطناب، ومن فرسان جملت الجيوش المنصورة حيث لبست لامة حربها، واعتقلت رماحها وبارزت الأقران فكان النصر من حزبها.
ومن أنواع احتفال يعجز عن وصفها البديع الفطن، ولولا خوف الإطالة لقلت: ومن ومن إلى أن تنفد كلمة ومن.
صفحہ 56