قال ثابت: قد علمت أيها الفيلسوف كون هذا العالم وأهله، وأنه لا يحتمل الحق بكليته. فأنا أريد أن أسمع من الكلام ما يؤدى بعضه إلى الحق، وأرضى ببعضه بالطبع، إذ كنت لنقصانى أعجز عن دفع قوى الطبيعة بأسرها.
قال أحمد: إنه ليسرنى أن أجد فى هذا العالم من يتكلم بمثل هذا الكلام أو يهتدى إلى هذا النوع من السياسة. إذ كان العلم مرفوعا والرأى معدوما، والعالم وأهله قد عادوا الحق وأهله ومعرفته حتى صاروا فيه معدومين ومما يضاده من الجهل والعمى مخصوصين.
قال ثابت: بعلمك أيها الفيلسوف اهتديت، ومن رأيك اقتبست، فحسنى لك إذ كنت بك فيه اقتديت، وقبيحى لى إذ كنت عن سيرتك تعديت. وأما العالم وأهله فكما وصفت، إلا أنك مصباحه المبين وشمسه المنير. وخليق لهذا الزمن أن يفتخر على سائر الأزمان بك، إذ برزت سبقا على من مضى، واستحال فى الوهم كون من بك يتساوى.
قال أحمد: دعنى من الملق، فإنما بغيتى عالم ولم أخالف فيه من بسيرة الحق عارف، إلا أنى مضطر إليه كتشبث الطبيعة بى، وأنا مبتهل إلى الله الحق أن يعيننى على نيتى ويوفقنى لمرادى العقلى، لا المراد الطبيعى.
قال ثابت: لست الذى أحتاج أن أقف على السبب الذى منه اعتذرت، وما تكره من نفسك فهو عند غيرك من الفلاسفة سيرة الحق؛ إلا أنك لما حويت الفضائل وأخذت بأزمة الرشاد تستعظم اليسير من الخلل يكون منك.
قال أحمد: أليس يعسر عملى بالعلم، فكيف أستحق لشىء من المدح؟!
قال ثابت: ذلك كما قلت. وكيف لا يكون كذلك وعلمك ما لا يتناهى، وعملك محدود بمحدود فى زمن محدود!
قال أحمد: إن فيما تطالب كشفه من العلم واسطة بين ما لا يتناهى وبين ما يتناهى.
صفحہ 120