رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
اصناف
قال: لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب فقال: رحمك الله أبا بكر، كنت أول الناس إسلاما.
وعن عكرمة مولى ابن عباس قال: إذا لقيت الهاشميين قالوا : علي بن أبي طالب أول من أسلم، وإذا لقيت الذين يعلمون قالوا: أبو بكر أول من أسلم.
قال أبو عثمان: قال العثمانية: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة، وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟! قلنا: قد علمنا الرواية الصحيحة والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير وطفل صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين؛ لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين! فالقياس أن يؤخذ الأوسط بين الروايتين وبالأمر بين الأمرين؟! وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن تحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر ومقام النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة، فإن فعلنا ذلك صح أنه أسلم وهو ابن سبع سنين، فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل في شهر رمضان سنة أربعين.
فإن قالوا: فلعله وهو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه وانكشاف العواقب له - وإن لم يكن جرب الأمور ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم - ما يعرف به جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار به؟! قيل لهم: إنما نتكلم على ظواهر الأحوال وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال! فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان - ما لم يعلم باطن أمره وخاصة طبعه - حكم الأطفال. وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه، والذي نعرف من حال أبناء جنسه، بلعل وعسى؟! لأنا وإن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله قد كان ذا نقص فيها! هذا على تجويز أن يكون علي في الغيب قد أسلم وهو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ! غير أن الحكم على مجرى أمثاله وأشكاله الذين أسلموا وهم في مثل سنه! إذا كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس. فأما عند التحقيق فإنه لا يجوز لمثل ذلك؛ لأنه لو كان أسلم وهو ابن سبع أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة وفرق ما بين الرسل والسحرة وفرق ما بين خبر النبي والمنجم، وحتى عرف كيد الأريب وموضع الحجة ونقد التمييز، وكيف يلبس على العقلاء وتستمال عقول الدهماء، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال - وهذا مع فرط الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة - خروجا من العادة ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة.
وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبئ حتى تجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها والأسباب التي وصفناها وفصلناها. ولو كان علي على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة وآية تدل على النبوة! ولم يكن الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد وحجة على الغائب. ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا، وأنه أنطق عيسى في المهد، ما كانا في الحكم إلا كسائر الرسل وما عليه جميع البشر، فإذا لم ينطق لعلي بذلك قرآن ولا جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه! أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه وسادة رهطه! ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.
ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى وتحفظ من الهوى إلا بترك علي ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه - وقد نازع الرجال وناوأ الأكفاء وجامع أهل الشورى وولى عليه - لكان كافيا. ومتى لم تصح هذه الدعوى في أيامه ولم يذكرها أهل عصره، فهي عن ولده أعجز ومنهم أضعف. ولم ينقل إلينا ناقل أن عليا احتج بذلك في موقف ولا ذكره في مجلس ولا قام به خطيبا ولا أدلى به واثقا، لا سيما وقد رضيه الرسول
صلى الله عليه وسلم
عندكم مفزعا ومعلما وجعله للناس إماما! ولا ادعى له أحد ذلك في عصره كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد به: الدليل على إمامته أن النبي
نامعلوم صفحہ