رسائل وفتاوى العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين
الرسالة الأولى: مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل.
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد جرت مناظرة بيننا وبينكم في كلام الله - تعالى-، هل هو مخلوق أم لا؟ فذكرت أن اختياركم الوقف، فلا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق، وزعمت أن الخلاف في ذلك لفظي.
فأما قولكم: إن الخلاف في ذلك لفظي، فليس الأمر كذلك، وإنما يقال: الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة، لأن المعتزلة يقولون كلام الله مخلوق، والأشاعرة يقولون ليس بمخلوق، والكلام عندهم المعنى، ويقولون الحروف مخلوقة، فقالت المعتزلة لا خلاف بيننا، وبينكم، لأن الكلام هو الحروف؛ فإذا أقررتم بأن الحروف مخلوقة ارتفع النزاع، فيكون الخلاف بين الفريقين لفظيا.
وأما مذهب أهل السنة والجماعة، فهو مخالف للمذهبين خلافا معنويا لأنهم يقولون كلام الله غير مخلوق، والكلام عندهم اسم للحروف والمعاني، فتبين بذلك غلط من قال: إن الخلاف في ذلك لفظي. ومذهب أهل التوحيد والسنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن القرآن كلام الله حروفه
1 / 96
ومعانيه، وأن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة. والقرآن والسنة يدلان على ذلك دلالة صريحة، ولله الحمد والمنة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ١ إلى قوله: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ٢، ففرق بين الإيحاء المشترك وبين التكليم الخاص، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ ٣ وقال تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ ٤، وقال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ ٥، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ ٦، وقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ ٧، وقال تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ ٨، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ ٩ والآيات في ذلك كثيرة.
وأما السنة فأكثر من أن تحصى، منها أمره ﷺ بالاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث، وقوله ﷺ: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان" ١٠. فمن قال إن الله لا يتكلم، فقد رد على الله ورسوله، وكفره ظاهر.
وقوع المجاز في القرآن
وقد ذكرتم أن العرب يضيفون الفعل إلى غير الفاعل، فهذا لا ينكر، أعني وجود المجاز في لغة العرب، وأما وقوع المجاز في القرآن، ففيه خلاف بين الفقهاء حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن أكثر الأئمة لم يقولوا: إن في القرآن مجازا، ورد القول بوجود ذلك في القرآن، واستدل له بأدلة كثيرة. وعلى تقدير جواز وجوده في القرآن، فمن المعلوم أنه لا يجوز
_________
١ سورة النساء آية: ١٦٣.
٢ سورة النساء آية: ١٦٤.
٣ سورة الأعراف آية: ١٤٣.
٤ سورة الأعراف آية: ١٤٤.
٥ سورة الكهف آية: ١٠٩.
٦ سورة لقمان آية: ٢٧.
٧ سورة الأنعام آية: ١١٥.
٨ سورة البقرة آية: ٧٥.
٩ سورة التوبة آية: ٦.
١٠ البخاري: التوحيد (٧٤٤٣)، وأحمد (٤/٢٥٦) .
1 / 97
صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها كالأنكحة والطلاق والأقارير وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. وأيضا فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد، قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ، وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته، لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أثناء كلام له: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن لخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما أنزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه، كان عليه أن يقرن لخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل ...؟ - إلى أن قال: وهذا كلام مبين لا مخلص لأحد عنه. انتهى.
تكلم الله تعالى حقيقة لا مجاز
وأيضا فالأدلة الدالة على أن الله يتكلم حقيقة أكثر من أن يمكن ذكرها هاهنا، منها أن الله - سبحانه- فرق بين الإيحاء المشترك بين الأنبياء وبين التكليم الخاص لموسى فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى
1 / 98
نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ١ إلى قوله: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ٢. فلو لم يكن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة لم يكن له مزية على غيره من الرسل، ولم يكن في تخصيصه بالتكليم فائدة، ولم يسم كليم الله. وقد قال تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ ٣، وأيضا فقد قال الفراء: إن الكلام إذا أكد بالمصدر ارتفع المجاز، وثبتت الحقيقة، وقد أكد الفعل بالمصدر في قوله: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ٤، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ ٥، وقال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ ٦، وقال: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ ٧، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ﴾ ٨ الآية. ففي هذا ونحوه دلالة صريحة أن الله كلم موسى، وناداه بنفسه بلا واسطة، وموسى سمع كلام الله، ونداءه، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ٩.
وقد ذكر الإمام أحمد – ﵁ في كتاب الرد على الجهمية: عن الزهري قال: لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى، هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك بقدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. فلما رجع موسى إلى قومه قالوا: صف لنا كلام ربك. فقال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم. قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله.
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة قال: حدثني محمد بن بكار قال: أخبرنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: قال بنو إسرائيل لموسى:
_________
١ سورة النساء آية: ١٦٣.
٢ سورة النساء آية: ١٦٤.
٣ سورة الأعراف آية: ١٤٤.
٤ سورة النساء آية: ١٦٤.
٥ سورة الشعراء آية: ١٠.
٦ سورة مريم آية: ٥٢.
٧ سورة طه آية: ١١.
٨ سورة القصص آية: ٣٠.
٩ سورة القصص آية: ٣٠.
1 / 99
بم شبهت صوت ربك حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع، وأيضا في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال: رسول الله – ﷺ: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار، ولو بشق تمرة، فليفعل" ١.
وروى جابر بن عبد الله، قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله ﷺ:"يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى. قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا قال: يا عبد الله تمنَّ علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: فأبلغ من ورائي، فأنزل الله ﷿ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ ".
رواه ابن ماجه، وغيره. ففي هذين الحديثين ما يبطل دعوى مدعي المجاز، ويدحض حجته، ويرغم أنفه، وقال النبي ﷺ: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" ٢ يعني القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه! تقرب إلى الله بما استطعت، فلن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه. وقال أبو بكر الصديق ﵁ لما قرئ عليه قرآن مسيلمة الكذاب فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إلٍّ، يعني رب. فوضح بما ذكرناه أن الله يتكلم حقيقة، وأن من ادعى المجاز بعد هذا البيان، فقد شاق الله ورسوله ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ ٣.
_________
١ البخاري: الزكاة (١٤١٣) والتوحيد (٧٤٤٣،٧٥١٢)، ومسلم: الزكاة (١٠١٦)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤١٥)، وابن ماجه: الزكاة (١٨٤٣)، وأحمد (٤/٣٧٧) .
٢ الترمذي: فضائل القرآن (٢٩١١)، وأحمد (٥/٢٦٨) .
٣ سورة النساء آية: ١١٥.
1 / 100
فصل في شبه المعتزلة في نفي كلام الله تعالى
وقد ذكرتم مااستدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق، وهو قوله -تعالى-: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ ١، ولا يشك من له عقل أن مَنْ دل الخلق على أن كلام الله مخلوق بقوله: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ ٢، لقد أبعد النَّجْعة، هو إما مُلْغِز وإما مُدَلِّس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، وقد قال تعالى-: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ ٣.
وقال النبي ﷺ: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" ٤، مع أنه ليس في هذه الآية شبهة لمن احتج بها، فلله الحمد والمنة- ولا يشبِّه بها إلا مَنْ أزاغ الله قلبه على رعاع الناس، نسأل الله العافية. وقلتم الحروف يلزمها التعاقب، ويتقدم بعضها بعضا، فيلزم أن تكون مخلوقة. قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج، والله -سبحانه-غير موصوف بذلك.
وأيضا فواجب على كل مكلَّف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارضه بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال-تعالى-: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ٥. فَمِنَ الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
_________
١ سورة الحديد آية: ٣.
٢ سورة الحديد آية: ٣.
٣ سورة آل عمران آية: ٧.
٤ البخاري: تفسير القرآن (٤٥٤٧)، ومسلم: العلم (٢٦٦٥)، والترمذي: تفسير القرآن (٢٩٩٤)، وأبو داود: السنة (٤٥٩٨)، وأحمد (٦/٤٨،٦/١٢٤،٦/١٣٢،٦/٢٥٦)، والدارمي: المقدمة (١٤٥) .
٥ سورة النساء آية: ٦٥.
1 / 101
فصل في مذهب السلف الصالح في خلق القرآن
وقلتم: إن القول بأن القرآن غير مخلوق لم يقله السلف، وإن عدم القول بذلك هو الصواب، وإنه هو اعتقادكم فلا تقولون: مخلوق ولا غير مخلوق.
فأما قولكم: إن هذا القول لم يقله السلف، فلا ندري مَنْ تعني بالسلف عندكم. فإن كان يعني بالسلف عندكم جَعْدًَا، وجَهْمًَا، وابن أبي دؤاد وأتباعهم كأبي علي الجبائي وأبي هاشم، وأتباعهم من الجهمية والمعتزلة، فصدقتم بأن هؤلاء لم يقولوا هذه المقالة، وإنما قالوا القرآن مخلوق، وبُعْدًَا لمن كان هؤلاء سلفه، واستبدل سبيلهم بسبيل النبي ﷺ وصحابته!!
وما عَوَّضَ لنا مِنْهَاج جَهْم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين
وإن كان يعني بالسلف عندكم: الصحابة، والتابعين، وأئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة الذين رفع الله قدرهم، وأعلى منزلتهم، الذين هم سلف الأمة حقا، فأخطأتم في نسبة عدم القول بذلك إليهم، فإنهم كلهم مجمعون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
قال علي بن أبي طالب ﵁ في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله، منه بدا، وإليه يعود.
ذُكر هذا الكلام عن علي الشيخ الحافظ عبد الغني المقدسي، وذكر -أيضا- عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس أنهما قالا: القرآن كلام الله منه بدا، وإليه يعود.
فقولهم ﵃: " منه بدا " أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهمية: "إنه خُلِق في الهواء"، أو غيره، أو بدا من عند غيره. وأما "إليه يعود": فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف
1 / 102
والصدور، فلا يبقى منه في الصدور كلمة، ولا في المصاحف منه حرف. وقال سفيان بن عُيَيْنَة سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: "القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود". رواه محمد بن جرير، وهِبَةُ الله بن الحسن الطبريان في كتاب "السُّنة" لهما.
وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم من أصحاب النبي ﷺ.
فهذا يدل على شهرة القول بذلك في زمن الصحابة الذين أدركهم عمرو بن دينار، وعلى شهرته عند التابعين، وأنهم كلهم على ذلك. وقال البخاري: حدثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار يقولون: "القرآن كلام الله غير مخلوق". فعمرو بن دينار حكاه عن مشيخته، والناس، وسفيان حكاه -أيضا- عن مشيخته؛ فهذا صريح في الدلالة على اشتهار هذا القول في القرون التي أثنى عليها النبي ﷺ. وكلام أئمة الإسلام في ذلك أكثر من أن يمكن ذكره هنا، كأبي حنيفة ومالك، والأوزاعي والليث، والثوري والشافعي، وابن المبارك وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، والبخاري، وغيرهم من أئمة الحديث، وكلهم على ذلك مُجْمِعُون، ولكتاب ربهم وسنة نبيهم متبعون، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك.
قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي، وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، ويمنا، فكان في مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله، غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله، وأن الله
1 / 103
-تعالى-على عرشه بائن مِنْ خلقه كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كَيْفٍ، أحاط بكل شيء علما ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
وقد ذكرتم أن بعض السلف قال بخلق القرآن، كابن المديني، فلا شك أن ابن المديني، وابن معين وغيرهما من أئمة الحديث أجابوا في المحنة كرها، واعتذروا بالإكراه لمّا عاب عليهم الأئمة، وهجرهم الإمام أحمد، ولم يعذرهم.
واحتج عليه ابن معين بعمار ﵁ حين أكرهه أهل مكة على كلام الكفر، ورد عليه أحمد بأن قال: إن عمارا ضُرِب، وأنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم. ومن المعلوم أنه لم يثبت في المحنة إلا القليل، والأكثرون أجابوا مُكرَهين.
ومَن نسب القول بذلك إلى ابن المديني، أو غيره مِن أهل الحديث بعد تصريحهم بأنهم إنما أجابوا كرها فقد قال ما لا يعلم، ونسب إليهم ما هم براء منه. وذكرتم أن ابن علية قال بذلك، فهذا لا يُنكَر، وابن علية معروف عند أهل السنة بالبدعة، وكلام الأئمة في ذمه كثير، والبخاري وإن روى عنه، فهو عنده من أهل البدع.
وقد روى البخاري عن غيره من أهل البدع، لأن الرجل إذا عُرِفَ منه الصدق والإتقان لما روى، جازت الروايةعنه، ولا يخرجه ذلك عن كونه مبتدعا. قال البيهقي في "مناقبه": ذكر الشافعي إبراهيم بن علية فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذلك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما ما أسمعه موسى من وراء حجاب.
وأما قولكم: إن الصواب في هذه المسألة الوقف، وإنه هو اعتقادكم، لا تقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق.
فمضمون هذه المقالة أن الله يحب منا أن نقف موقف الحيارى الشاكين، ونبقى في الجهل البسيط، لا نعرف الحق
1 / 104
من الباطل، ولا الهدى من الضلال ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾ ١، وأن الله يحب عدم العلم بما جاء به الرسول ﷺ، ويحب منا الحيرة والشك.
ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين، وقد ذم الله الحيرة بقوله -تعالى-: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ ٢.
ومن المعلوم أنه لا بد أن يكون كلام الله في نفس الأمر مخلوقا، أو غير مخلوق، لا غير، وأن النبي ﷺ كان يعتقد أحد الأمرين لا غير.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الرسول ﷺ قد دل أمته على ما يعتقدونه من ذلك، قال ﷺ: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" ٣، وقال فيما صح عنه أيضا: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" ٤، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله –ﷺ وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما.
محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب.
فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، وقد أخبر النبي ﷺ بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة
_________
١ سورة النساء آية: ١٤٣.
٢ سورة الأنعام آية: ٧١.
٣ ابن ماجه: المقدمة (٤٤)، وأحمد (٤/١٢٦) .
٤ مسلم: الإمارة (١٨٤٤)، والنسائي: البيعة (٤١٩١)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٥٦)، وأحمد (٢/١٩١) .
1 / 105
فقد علم ما سيكون، ثم قال: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله" ١. فالرب ﷾ عالم بما سيقع من التنازع، فقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ٢، ومن المحال أن يأمرهم برد ما تنازعوا فيه إلى ما لا يفصل النزاع، ويبين الحق من الباطل، وقد أمرنا الله -سبحانه- أن نقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ ٣.
وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ كان يقول إذا قام من الليل يصلي: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" ٤.
فهو يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عَدِمَ الهدى في مسائل الخلاف، وقد قال الله له: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ ٥، وأيضا فالشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين.
غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت، فأما مَن علم الحق بدليله الموافق لبيان رسول -الله ﷺ فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم المتبع للرسول، العالم بالمنقول والمعقول.
قال الإمام أحمد-﵀: مَن لم يقل: القرآن كلام الله، غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، والأمر كما قال ﵀.
فإنا نجد بعض من يقول بالوقف يعيب على من ينفي الخلق عن كلام الله، ويحتج عليه بحجج القائلين بالخلق، كما أوردتم شيئا من ذلك، وعبتم على الإمام أحمد ﵀ في كلامه في هذه المسألة قلتم: إن أحمد جعل هذه المسألة عديلة التوحيد. قلتم ذلك اتباعا لمن استوفى نصيبه
_________
١ الترمذي: المناقب (٣٧٨٨) .
٢ سورة النساء آية: ٥٩.
٣ سورة الفاتحة آية: ٦.
٤ مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (٧٧٠)، والترمذي: الدعوات (٣٤٢٠)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (١٦٢٥)، وأبو داود: الصلاة (٧٦٧)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٣٥٧)، وأحمد (٦/١٥٦) .
٥ سورة طه آية: ١١٤.
1 / 106
من الحمق والجهل صاحب الكتاب المسمى "بالعلم الشامخ"، وقد عاب في كتابه ذلك على الإمام أحمد، ونسبه إلى التعصب، وطعن -أيضا- على غيره من أئمة الحديث وأهل السنة، ولقد أحسن القائل:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
فلو أن هذا المسكين أمسك لسانه عن تَنَقُّصِ أئمة الإسلام لكان أستر له، وهو لم يضر إلا نفسه، لا يضرهم كلامه كما قيل:
وهل حط قدر البدر عند طلوعه ... كلاب إذا ما أنكرته فهرت
وما إن يضر البحر أن قام أحمق ... على شطه يرمي إليه بصخرة
والذي ينبغي لهذا وأمثاله إذ هجمت بهم ذنونهم عن استبانة الحق، أن يمسكوا ألسنتهم عن عيب أهل السنة، والطعن عليهم، ويلجؤوا إلى الله في سؤال الهداية.
نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
ليس اللسان والفم شرطا في الكلام
وقد ذكرتم قول الجهمية: إن موسى لم يسمع كلام الله منه، إنما سمعه من غيره، من الشجرة أو غيرها؛ لأن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم، ولسان وشفتين.
فأما قولكم: إن موسى لم يسمع كلام الله منه حقيقة، وإنما سمعه من غيره فهذا ظاهر البطلان، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ١.
﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ ٢.
فمن زعم ذلك، فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية
_________
١ سورة القصص آية: ٣٠.
٢ سورة طه آية: ١١.
1 / 107
والإلهية، ولو كان كما زعم القائل أن المخاطِب لموسى غير الله، كان يقول ذلك المخاطِب: يا موسى إن الله رب العالمين، يا موسى الله ربك، لا يجوز له أن يقول: إني أنا الله رب العالمين، إني أنا ربك، وهذا مما احتج به الإمام أحمد على الجهمية، فيا له من بيانٍ ما أوضحه! وحجةٍ ما أقطعها للمنازع!
وأما قولكم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين، فهذا باطل، لأن الله تعالى- قال للسماوات والأرض: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ ١، أتُراها قالت بفم ولسان وشفتين؟! والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ٢، أتراها نطقت بلسان وأدوات؟! وقال: ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ٣ أتراها تكلمت بجوف وفم، ولسان وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول: بجوف ولا فم، ولا لسان ولا شفتين، وقال النبي ﷺ: "إني لأعرف حجرا كان يسلم عليَّ" ٤ وسبح الحصى في كف رسول الله ﷺ وكف أبي بكر وعمر، وعثمان، وقال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وجاء أن في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه، ونحو ذلك كثير.
ولا خلاف في أن الله قادر على أن ينطق الحجر الأصم من غير مخارج، فبطل ما ادعوه من أن الحروف لا تكون إلا من مخارج.
ومن الدليل على اتصاف الله بالكلام حقيقة قوله -تعالى-: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾ ٥، نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم ولا يهدي، لا يصلح أن يكون إلها، وكذلك قوله -تعالى- في الآية الأخرى عن العجل: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ
_________
١ سورة فصلت آية: ١١.
٢ سورة فصلت آية: ٢١.
٣ سورة يس آية: ٦٥.
٤ مسلم: الفضائل (٢٢٧٧)، والترمذي: المناقب (٣٦٢٤)، وأحمد (٥/٨٩،٥/٩٥)، والدارمي: المقدمة (٢٠) .
٥ سورة الأعراف آية: ١٤٨.
1 / 108
إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ ١.
فجعل امتناع صفة الكلام والتكلم، وعدم ملك الضر والنفع، دليلا على عدم الإلهية، وهذا دليل عقلي سمعي على أن الإله لا بد أن يكلم ويتكلم، ويملك لعابده الضر والنفع، وإلا لم يكن إلها. ومما استدل به أحمد وغيره من الأئمة على أن كلام الله غير مخلوق قوله -تعالى-: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ ٢.
قالوا: فلما قال: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ﴾ لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بمخلوق، فقال: ﴿وَالأَمْرُ﴾ . وأمْرُه هو: قولُه ﵎، فلا يكون خلقا. واستدل الإمام أحمد ﵀ أيضا على الجهمية لمَّا قالوا: "إن كلام الله مخلوق". فقال: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فشبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق.
ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم فتكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فجمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة!
ومما يبين أن السلف كانوا يعتقدون أن كلام الله غير مخلوق، أنهم أوجبوا الكفارة على من حلف بالقرآن إذا حنث في يمينه، وقال بعض الصحابة: عليه بكل آية كفارة، سمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن، فقال: أتراه مُكَفِّرا؟ إن عليه بكل آية كفارة.
وقد أجمعوا على أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا تنعقد به اليمين، فلو كان القرآن مخلوقا عندهم لم يجيزوا الحلف به، ولم يوجبوا على الحالف به إذا حنث كفارة، لأنه حلف بشيء مخلوق.
وأيضا من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن اسم الله في القرآن مخلوق، فيلزمه أن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق.
قال الإمام أحمد
_________
١ سورة طه آية: ٨٩.
٢ سورة الأعراف آية: ٥٤.
1 / 109
في كتاب "الرد على الجهمية": وزعمتَ أن اسم الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم ما كان اسمه. قالوا: لم يكن له اسم. فقلنا: قبل أن يخلق العلم، أكان جاهلا لا يعلم حتى خلق لنفسه علما، وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورا، وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة. فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس حين زعم أن الله -سبحانه- في القرآن، إنما هو اسم مخلوق.
فقلنا للجهمي: لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق، ولم يحلف بالخالق؛ ففضحه الله في هذه.
وقلنا للجهمي: أليس النبي ﷺ وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء من بعدهم، والقضاة والحكام، إنما كانوا يُحَلِّفُونَ الناس بالله الذي لا إله إلا هو، وكانوا مخطئين في مذهبكم؟! إنما كان ينبغي للنبي ﷺ ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله لما ادعى على الله الكذب.
وأيضا فقد ثبت عن النبي ﷺ الاستعاذة بكلمات الله، وأرشد الأمة إلى ذلك، فقال فيما ثبت في صحيح مسلم، عن خولة بنت حكيم: "من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" ١.
ففي هذا دليل صريح على أن كلام الله غير مخلوق، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، والنبي ﷺ أبعد الناس عن الشرك.
_________
١ مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (٢٧٠٨)، والترمذي: الدعوات (٣٤٣٧)، وابن ماجه: الطب (٣٥٤٧)، وأحمد (٦/٣٧٨،٦/٤٠٩)، والدارمي: الاستئذان (٢٦٨٠) .
1 / 110
فصل أدلة كون كلام الله بصوت وحرف
وقد ذكرنا فيما تقدم أن مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، فيصفون الله بالصوت، والصوت هو ما يتأتى سماعه، والقرآن والسنة يدلان على أن الله يتكلم بصوت، قال الله -تعالى-: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ﴾ ١ الآية، وقال -تعالى-: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ ٢ إلى قوله: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ٣، وقال -تعالى-: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ ٤، وقال -تعالى-: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ ٥، وقال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ ٦.
والنداء لا يكون إلا بصوت، فدل على أنه كلمه بصوت، وموسى لم يسمع إلا الحرف، والصوت هذا مما يُعلم بالاضطرار، وقال -تعالى-: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ ٧ ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ ٨ وقال: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ ٩ الآية. والآيات في ذلك كثيرة.
وأما السنة، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار. الحديث" ١٠.
وروى عبد الله بن أنيس ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة -وأشار بيده إلى الشام- عُرَاةً غُرْلا بُهْما، قال: قلت: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء. فيناديهم بصوت يسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد
_________
١ سورة القصص آية: ٣٠.
٢ سورة النمل آية: ٨.
٣ سورة النمل آية: ٩.
٤ سورة طه آية: ١١.
٥ سورة الشعراء آية: ١٠.
٦ سورة مريم آية: ٥٢.
٧ سورة القصص آية: ٦٢.
٨ سورة القصص آية: ٦٥.
٩ سورة الأعراف آية: ٢٢.
١٠ أحمد (١/٣٨٨) .
1 / 111
من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة. ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه. قالوا: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة غرلا. قال: بالحسنات والسيئات" رواه أحمد وجماعة من الأئمة.
وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال كذبوا، إنما يدورون على التعطيل. ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا سليمان بن مهران الأعمش قال: ثنا أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله، قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سُجَّدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهلُ السماء أهلَ السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال كذا وكذا. ذكره عبد الله في كتاب السنة بهذا الإسناد، ورواه أبو بكر الخلال.
وروى ابن أبي حاتم في "الرد على الجهمية"، قال: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: إن الله ﵎-إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماوات له صوتا كصوت الحديد إذا وقع على الصفا، فيخرون له سُجَّدًَا. فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وقد قدمنا ما حكاه الإمام أحمد عن الزهري، قال: لما سمع موسى كلام الله، قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ قال: يا موسى هو كلامي.. إلى أن قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا صف لنا كلام ربك. قال: سبحان الله! وهل أستطيع أن أصفه لكم! قالوا: فَشَبِّهْهُ. قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله.
وتقدم أيضا- ما رواه عبد الله بن أحمد، عن محمد بن كعب قال: قال
1 / 112
بنو إسرائيل لموسى: بم شبهت صوت ربك حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع.
وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الله هدايته ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ ١.
وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الفقيه نجم الدين الحنبلي، قال: كنت يوما عند القاضي فتناظروا في مسألة القرآن، وعندنا طرحان الضرير، فقال لنا: اسمعوا مني حكاية. قلنا: هات. قال: تناظر أشْعَرِي وحنبلي، فقال الأشعري للحنبلي: أخبرني إذا وقفك الله غدا بين يديه، فقال لك: من أين قلت إن كلامي بحرف وصوت؟ فماذ يكون جوابك؟ فقال الحنبلي: أقول يا رب، هو ذا أنا أسمع كلامك بحرف وصوت، قال: ثم سكت، فلم يرد هذا شيئا، فبهت القاضي، ولم يدر ما يقول، وانقطع الكلام على هذا.
واحتج مَنْ ينفي الصوت، بأن قال: الصوت إنما هو أنين جِرمين، والله -سبحانه- متقدس عن ذلك.
(والجواب): أن يُقَالَ: فهذا قياس منكم لله على خلقه، وتشبيه له بعباده، والله -تعالى- لا يُقَاسُ على مخلوقاته، ولا يشبه بمصنوعاته ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ٢.
وأيضا فإنه يلزمهم سائر الصفات التي أثبتوها، فإن العلم في حقنا لا يكون إلا من قلب، والنظر لا يكون إلا من حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق، والحياة لا تكون إلا في جسم، والله -تعالى- يُوصَف بهذه الصفات، من غير أن يوصف بهذه الأدوات، فكذلك الصوت، وإلا فما الفرق؟
واتفق سلف الأمة، وأئمتها على أن القرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله تعالى، فالصوت المسموع صوت القارئ، والكلام كلام الباري، فهم يميزون ما قام بالعبد، وما قام بالرب ﵎.
ولم يقل أحد منهم إن أصوات العباد، ولا مِدَادَ المصاحف قديم، مع اتفاقهم أن
_________
١ سورة الكهف آية: ١٧.
٢ سورة الشورى آية: ١١.
1 / 113
المثبت بين لَوْحَيِ المصحف كلام الله، وقد قال النبي ﷺ: "زينوا القرآن بأصواتكم" ١. فالكلام الذي يقرأه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤونها بها أصواتهم، فالكلام شيء، والصوت شيء آخر. هذا مما لا يخفى على من لم يرسخ التعطيل في قلبه. ثم ليعلم أن معتمدنا في إثبات الصفات على الكتاب والسنة، فمهما جاء فيهما، فهو الحق والصدق، لا يجوز التعريج على ما سواه، ولا الالتفات إلى هذيان يخالفه؛ فإن الله تعالى- أمرنا بالأخذ بكتابه، والاقتداء برسوله، وأخبر عن رسوله، أنه قال: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ ٢، وقال: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ٣، وقال ﷾: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ﴾ ٤ إلى قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ٥، وقال ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ٦.
وها نحن قد بينا أن قولنا في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة؛ فهاتوا أن في الكتاب أو السنة أو قول صحابي أو إمام مرضي أن الله لم يتكلم، أو أنه يتكلم مجازا، أو أن كلامه مخلوق، أو أنه لا يتكلم بحرف وصوت، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا.
فرحم الله من عَقَلَ عن الله، ورجع عن العقول التي تخالف الكتاب والسنة، وقال بقول أهل السنة، وترك دين جهم وشيعته. جعلنا الله -سبحانه- ممن هدي إلى صراطه المستقيم، ووفقنا لاتباع رب العالمين، والاقتداء بنبيه محمد ﷺ خاتم النبيين، والسلف الصالحين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
١ النسائي: الافتتاح (١٠١٥)، وأبو داود: الصلاة (١٤٦٨)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٣٤٢)، وأحمد (٤/٢٨٣،٤/٢٨٥،٤/٣٠٤)، والدارمي: فضائل القرآن (٣٥٠٠) .
٢ سورة الأنعام آية: ٥٠.
٣ سورة الزمر آية: ٥٥.
٤ سورة الأعراف آية: ١٥٧.
٥ سورة الأعراف آية: ١٥٧.
٦ سورة النور آية: ٦٣.
1 / 114
الرسالة الثانية: ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
من عبد الله بن عبد الرحمن (أبا بطين) إلى جناب الأخ المكرم الشيخ الأمجد عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار. سلمه الله تعالى وعافاه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالموجب لتحريره إبلاغ السلام، والسؤال عن حالكم لازلتم في خير وعافية. والخط الشريف وصل، وما ذكرتَ من المسائل التي تسأل عنها:
فثمن الكلب هو أخذ العوض عنه، ومهر البغي هو الجُعل التي تأخذه على زناها، وحُلْوانُ الكاهن هو ما يأخذه الكاهن في مقابلة أخباره بالمغيبات، وثمن السنور هو أخذ العوض عنه، وكسب الحَجَّامِ هو ما يأخذه أُجرة على حِجَامَتِهِ، فأما ما يُعْطَى إياه بغير شرط فرخَّص فيه بعض العلماء لأن النبي ﷺ أعطى الذي حَجَّمَه. قالوا: ولو كان حراما، لم يعطه؛ وحملوا النهي على الاشتراط خاصة.
بيع الخمر
وتحريم بيع الخمر ظاهر، وهو المعاوضة عنه، وهذا حكم كل مسكر، وبيع الميتة، وما حرم أكله، لما في الحديث المشهور: "إن الله إذا حرم شيئا، حرم ثمنه" ١.
ثمن الحر وبيع عسب الفحل
وثمن الحر ظاهر، وهو أخذ العوض عنه، وبيع عسب الفحل وهو أخذ العوض عن ضرابه، كما يفعله كثير من الناس في أخذ العوض عن نزو الحصان على الرمكة.
منع فضل الماء
وأما نهيه ﷺ عن منع فَضْلِ الماء؛ فهذا إذا كان لرجل بئر، واحتاج الناس لسقي بهائمهم، فلا يحل له أن يمنعهم ما فَضَلَ عن حاجته، وهذا إذا كان الماء في قراره.
وأما ما يخرجه الإنسان من البئر، في بركته وآنيته، فإنه يملكه ويختص
_________
١ أبو داود: البيوع (٣٤٨٨)، وأحمد (١/٣٢٢) .
1 / 115