فافهم ذلك وتقدم إلى من تولي، فلا يقدم على شيء ناظرا فيه، ولا يحاول أخذ أحد طارقا له، ولا يعاقب أحدا منكلا به، ولا يخل سبيل أحد صافحا عنه لإظهار براءته، وصحة طريقته حتى يرفع إليك أمره، وينهى إليك قضيته على جهة الصدق، ومنحى الحق.
فإن رأيت عليه سبيلا لمحبس أو مجاز العقوبة أمرته، فتولى ذلك من غير إدخال له عليك، ولا مشافهة منك له، فكان المتولي لذلك ولم يجر على يدك مكروه ولا غلظ عقوبة، وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلا. وكان مما قرف به خليا، كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله والصفح عنه بإطلاق أسره، فتوليت أجر ذلك وذخره ونطق لسانه بشكرك، فقرنت خصلتين ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذكر في العاجلة.
ثم إياك وأن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك، أو حاجة يبدهك بطلبها، حتى يرفعها قبل إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له، فيعرضها عليك منهيا لها على جهة صدقها، ويكون على معرفة من قدرها، فإن أردت إسعافه ونجاح ما سئل منها، أذنت له في طلبها باسطا له كنفك، مقبلا عليه بوجهك مع ظهور سرور منك بما سألك بفسحة رأي وبسطة ذرع وطيب نفس، وإن كرهت قضاء حاجته وأحببت رده عن طلبته، وثقل عليك إسعافه بها، أمرت كاتبك فصفحه عنها ومنعه من مواجهتك بها، فخفت عليك في ذلك المؤنة، وحسن لك الذكر وحمل على كاتبك لائمة أنت منها بريء الساحة.
وكذلك فليكن رأيك وأمرك، فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل، فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك، وعلم ما قدم له عليك، وجهة ما هو مكلمك، وقدر ما هو سائلك إياه إذا هو وصل إليك، فأصدرت رأيك في جوابه، وأجلت فكرك في أمره، وأنفذت مصدر رويتك في مرجوع مسألته قبل ما دخوله عليك، وعلمه بوصول حاله إليك، فرفعت عنه مؤنة البديهة، وأرخيت عن نفسك خناق الروية فأقدمت على رد جوابه بعد النظر والفكرة؛ فإن دخل عليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك، وطوى عنه حاجته قبلك، دفعته عنك دفعا جميلا، ومنعته جوابك منعا ودفعا، ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة، ومنعه من الوصول إليك؛ فإن ضبطك ذلك مما يحكم لك تلك الأشياء صارفا عنك مؤنتها - إن شاء الله.
احذر تضييع رأيك وإهمال أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما إياك، فلا يزدهينك إفراط عجب تستخفك روائعه ويستهويك منظره، ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه وإن حل بك، أو حادث وإن طرأ عليك، وليكن لك من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى، وتستعهده في مهم نازل، وتتعقب به أمورك في التدبير؛ فإن احتجت إلى مادة من عقلك، وروية من فكرك، أو انبساط من منطقك، كان انحيازك إلى ظهريك مزدادا مما أحببت الامتياز منه، وإن استدبرت من أمورك بوارد لمهل أو مضي زلل أو معاندة حق أو خطأ تدبير؛ كان ما احتجنت من رأيك عذرا لك عند نفسك، وظهري قوة على رد ما كرهت، وتخفيفا لمؤنة الباغين عليك في القالة، وانتشار الذكر وحصنا من غلوب الآفات على أخلاقك - إن شاء الله.
وامنع أهل بطانتك وخاص خدمك وعامة رعيتك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة، والتقرب إليك بالسعاية، والإغراء من بعض ببعض، والنميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك، أو تحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة؛ فإنه أبلغ سموا إلى منال الشرف، وأعون لك على محمود الذكر، وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي، وشرف الهمة وقوة التدبير.
واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانفهاق، وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله؛ فإن ذلك ضعف من سورة الجهل، وخروج من انتحال اسم الفضل.
وليكن ضحكك تبسما أو كبرا في أحايين ذلك وأوقاته، وعند كل مرأى ملهى ومستخف مطرب وقطوبك إطراقا في موضع ذلك، وأحواله بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة دون أن يكنفها روية الحلم، وتملك عليها بادرة الجهل.
إذا كنت في مجلس ملئك وحضور العامة مجلسك، فإياك والرمي ببصرك إلى خاص من قوادك أو ذي أثرة من حشمك، وليكن نظرك مقسوما في الجميع وإعارتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم مستجمع، وقلة تضجر بالمحدث، ثم لا يبرح وجهك إلى بعض قوادك وحرسك متوجها بنظر ركين وتفقد محض؛ فإن وجه أحد منهم نظره محدثا، أو رماك ببصره ملحا؛ فاخفض عنه إطراقا جميلا بإبداع وسكون، وإياك والتسرع في الإطراق، والخفة في تصاريف النظر، والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقا بنظره.
واعلم أن تصفحك وجوه قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب، فتفقد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك، عالما بمواضعهم من مجلسك، ثم أعد بهم عن ذلك سائلا عن أشغالهم التي منعتهم من حضورك، وعاقتهم بالتخلف عنك - إن شاء الله.
نامعلوم صفحہ