الأدب الصغير لابن المقفع
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلا، والله وقت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها، فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد.
والسبيل إلى دركها العقل الصحيح، وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم، وللعقول سجيات وغرائز بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمي العقول وتزكو، فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر على أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها ونضرتها وريعها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها؛ فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها - بإذن الله - القوة والحياة ؛ فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب، لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها؛ حتى يعتملها الأدب الذي هو نماؤها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق، وكل المنطق بالتعلم، ليس حرف من حروف معجمه ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب، وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.
فإذ خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا بديعا، فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ؛ ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه؛ مما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صائغا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلا جعلها الله ذللا، فصار ذلك شفاء وطعاما وشرابا منسوبا إليها مذكورا به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع؛ فإنه إنما اجتباه - كما وصفنا.
ومن أخذ كلاما حسنا عن غيره، فتكلم به في موضعه على وجهه فلا يرين عليه في ذلك ضئولة؛ فإنه من أعين على حفظ قول المصيبين وهدي للاقتداء بالصالحين ووفق للأخذ عن الحكماء، فلا عليه ألا يزداد؛ فقد بلغ الغاية. وليس بناقصه في رأيه ولا بغائضه من حقه، ألا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه، وإنما حياة العقل الذي يتم به ويستحكم خصال ست: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه، قولا وعملا.
أما المحبة؛ فإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته؛ فلا يكون شيء أمرأ ولا أحلى عنده منه، وأما الطلب فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون، وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه ولا يدرك لهم بغيتهم نفاستها في أنفسهم دون الجد والعمل، وأما التثبت والتخير فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه، فكم من طالب رشد وجده والغي معا! فاصطفى منهما الذي منه هرب وألغى الذي إليه سعى، فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد وهو لا يشك بالظفر فما أحقه بشدة التبين وحسن الابتغاء.
وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته؛ فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته.
وأما الحفظ والتعهد فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته، وأما البصر بالموضع؛ فإنما تصير المنافع كلها إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله حاجة شديدة؛ فإننا لم نوضع في الدنيا موضع غناء وخفض، ولكن موضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يمسك بأرماقنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل، ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضر والعيلة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.
وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق - إن شاء الله.
نامعلوم صفحہ