فإن قال قائل: إن الفلك طبيعة خامسة لا يجوز أن يكون لأجسامه نغمات وأصوات؛ فليعلم هذا القائل أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف لهذه الأجسام في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء مثل النار وهي الكواكب، ومنها ما هو مشف كالبللور وهي الأفلاك، ومنها ما هو صقيل كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما هو يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد.
وبيان ذلك: أن ظل الأرض يبلغ مخروطه إلى فلك عطارد، وهذه كلها أوصاف للأجسام الطبيعية، والأجسام الفلكية تشاركها فيها، فقد تبين أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعضها دون بعض؛ وذلك أنها ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة بل يابسة صلبة أشد صلابة من الياقوت، وأصفى من الهواء، وأشف من البلور، وأصقل من وجه المرآة، وأنها يماس بعضها بعضا وتصطك وتحتك، وتطن كما يطن الحديد والنحاس، وتكون نغماتها متناسبات مؤتلفات وألحانها موزونات - كما بينا مثالها في نغمات أوتار العيدان ومناسباتها.
(7) فصل في أن لحركات الأفلاك نغمات كنغمات العيدان
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات؛ لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم، فإن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي، وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود، وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويقرأون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب، ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان الفصيحة في الإيوان العالي.
فإن قال قائل: فإنهم ينبغي أن يكون لهم أيضا شم وذوق ولمس؛ فليعلم هذا القائل بأن الشم والذوق واللمس إنما جعل للحيوان الآكل للطعام والشارب للشراب؛ ليميز بها النافع من الضار، ويحرز جثته عن الحر والبرد المفرطين المهلكين لجثته، فأما أهل السماوات وسكان الأفلاك فقد كفوا هذه الأشياء، وهم غير محتاجين إلى أكل الطعام والشراب بل غذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية والعلم والشعور والمعرفة والإحساس واللذة والفرح والسرور والراحة.
فقد تبين بما ذكرنا أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحانا طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها، وأن تلك النغمات والألحان تذكر النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح التي فوق الفلك التي جواهرها أشرف من جواهر عالم الأفلاك، وهو عالم النفوس ودار الحياة التي نعيمها كلها روح وريحان في درجات الجنان، كما ذكر الله تعالى في القرآن.
والدليل على صحة ما قلنا والبرهان على حقيقة ما وصفنا أن نغمات حركات الموسيقار تذكر النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك، كما تذكر نغمات حركات الأفلاك والكواكب النفوس التي هي هناك سرور عالم الأرواح، وهي النتيجة التي أنتجت من المقدمات المقرر بها عند الحكماء، وهي قولهم: إن الموجودات المعلولات الثواني تحاكي أحوالها أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، فهذه مقدمة واحدة.
والأخرى قولهم: إن الأشخاص الفلكية علل أوائل لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وأن حركاتها علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركاتها، فوجب أن تكون نغمات هذه تحاكي نغماتها، والمثال في ذلك حركات الصبيان في لعبهم؛ فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات، وهكذا التلامذة والمتعلمون يحاكون في أفعالهم وصنائعهم أفعال الأستاذين والمعلمين وأحوالهم، وأن أكثر العقلاء يعلمون بأن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وعالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام - كما بينا في رسالة الهيولى ورسالة المبادئ العقلية.
فلما وجد في عالم الكون حركات منتظمة لها نغمات متناسبة؛ دلت على أن في عالم الأفلاك، لتلك الحركات المنتظمة المتصلة نغمات متناسبة مفرحة لنفوسها، ومشوقة لها إلى ما فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع العامة اشتياق إلى أحوال الملوك، وفي طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسية.
ويقال: إن فيثاغورس الحكيم سمع - بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه - نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم، وأخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء، وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الإلهية، وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية، المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية.
نامعلوم صفحہ