169

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

اصناف

واعلم بأن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع؛ فمنها ما يتكون في التراب والطين والأرض السبخة، ويتم نضجه في السنة أو أقل منها كالكبريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شاكلها، ومنها ما يتكون في قعر البحار وقرار المياه ولا يتم نضجه إلا في سنة أو أكثر منها كالدر والمرجان، فإن أحدهما نباتي وهو المرجان، والآخر حيواني وهو الدر، ومنها ما يتكون في كهوف الجبال وجوف الأحجار وخلل الرمال، ولا يتم نضجه إلا في سنين كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها، ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عدد سنين كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها، ونريد أن نبين ونصف طرقا من كيفية تكوين كل نوع من هذه ليكون دلالة على سائرها، ولكن نحتاج قبل وصفنا هذه الأشياء أن نذكر صورة الأرض وكيفية قسمة أرباعها وصفات تلك الأرباع كيف تتغير أحوالها، وكيف تتبدل صفاتها في الدهور والأزمان الطوال فنقول: إن الأرض بجميع ما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب هي كرة واحدة معلقة في الهواء في مركز العالم بإذن الله - جل جلاله - كما بينا في رسالة الجغرافيا، فنقول إن الأرض بجملتها نصفان؛ نصف شمالي ونصف جنوبي، وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين؛ فتكون جملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مواضع براري وقفار وفلوات وخراب، ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغدران، ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض، ومنها مواضع المراعي والقرى والمدن والعمران.

واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارا وغدرانا وأنهارا، ويصير مواضع البحار جبالا وتلالا وسباخا وآجاما ورمالا، وتصير مواضع العمران خرابا، ومواضع الخراب عمرانا، فوجب أن نذكر طرفا من هذه الأوصاف؛ إذ كان هذا الفن من العلوم الغريبة البعيدة عن أفكار كثير من أهل العلم المرتاضين فضلا عن غيرهم.

واعلم بأن في كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة وأوجات الكواكب السيارة وجو زهرانها في البروج ودرجاتها، وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربع من أرباع الفلك، وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فبهذا السبب تختلف مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدال واستواء أو بزيادة ونقص وإفراط من الحرارات والبرودات واعتدال منهما، وتكون هذه أسبابا وعللا لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال.

ويعرف حقيقة ما قلنا الناظرون في علم المجسطي وعلوم الطبيعيات، فتصير بهذه العلل والأسباب مواضع العمران خرابا، ومواضع الخراب عمرانا، ومواضع البراري بحارا، ومواضع البحار براري وجبالا، ويعرف حقيقة ما قلناه وصحة ما ذكرناه الناظرون في علم الطبيعيات والإلهيات، الباحثون عن علل الكائنات الفاسدات التي تحت مقعد فلك القمر وكيفية تغييراتها، ولكن نريد أن نصف طرفا من كيفية تكوين الجبال في البحار، وكيف يصير الطين اللين أحجارا، وكيف تنكسر الأحجار فتصير منها حصى ورملا، وكيف تحملها سيول الأمطار إلى البحار في جريان الأودية والأنهار، وكيف ينعقد من ذلك الطين والرمال في قعور البحار حجارة وجبالا.

واعلم يا أخي أن البحار هي كالمستنقعات على وجه الأرض، فإن الجبال منها كالمسنات والبريدات لها، لتفصل البحار بعضها عن بعض، ولئلا يكون وجه الأرض كله مغطى بالماء، وذلك أنه لو لم تكن الجبال على وجه الأرض وكان وجهها مستديرا ملسا لكانت مياه البحار تنبسط على وجهها، وتغطيها من جميع جهاتها، وتحيط بها كإحاطة كرة الهواء بالأرض كلها، وكان وجه الأرض كله بحرا واحدا، ولكن العناية الإلهية والحكمة الربانية قد قضت أن يكون وجه الأرض بعضه مكشوفا ليكون مسكنا لحيوان البر، وبعضه لمنابت العشب والأشجار والزروع، إذ كانت هذه غذاء الحيوانات ومادة لأجسادها: @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم.

واعلم يا أخي أن الأودية والأنهار كلها تبتدئ من الجبال والتلال وتمر في مسيلها وجريانها نحو البحار والآجام والغدران، وأن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر والكواكب عليها بطول الأزمان والدهور، تنشف رطوباتها وتزداد جفافا ويبسا، وتنقطع وتنكسر، وخاصة عند انقضاض الصواعق، وتصير أحجارا وصخورا أو حصى ورمالا، ثم إن الأمطار والسيول تحط تلك الصخور والرمال إلى بطون الأودية والأنهار، ويحمل ذلك شدة جريانها إلى البحار والغدران والآجام، وإن البحار لشدة أمواجها وشدة اضطرابها وفورانها تبسط تلك الرمال والطين والحصى في قعرها سافا على ساف بطول الزمان والدهور، ويتلبد بعضها فوق بعض، وينعقد وينبت في قعور البحار جبالا وتلالا، كما تتلبد من هبوب الرياح دعاص الرمال في البراري والقفار.

واعلم يا أخي أنه كلما انطمت قعور البحار من هذه الجبال والتلال التي ذكرنا أنها تنبت، فإن الماء يرتفع ويطلب الاتساع وينبسط على سواحلها نحو البراري والقفار، ويغطيها الماء، فلا يزال ذلك دأبه بطول الزمان حتى تصير مواضع البراري بحارا ومواضع البحار يبسا وقفارا، وهكذا لا تزال الجبال تنكسر وتصير أحجارا وحصى ورمالا تحطها سيول الأمطار، وتحملها إلى الأودية والأنهار بجريانها حتى البحار، وتنعقد هناك كما وصفنا، وتنخفض الجبال الشامخة وتنقص وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض، وهكذا لا يزال ذلك الطين والرمال تنبسط في قعر البحار وتتلبد وتنبت عنها التلال والروابي والجبال، وينصب من ذلك المكان الماء حتى تظهر تلك الجبال وتنكشف هذه التلال، وتصير جزائر وبراري، ويصير ما يبقى من الماء في وهادها وقعورها بحيرات أو آجاما أو غدرانا، وينبت فيها القصب والوحال، فلا تزول السيول تحمل إلى هناك الطين والرمال والوحول حتى تجف تلك المواضع، وتنبت هناك الأشجار والعكرش والعشب، وتصير مواضع للسباع والوحوش، ثم يقصدها الناس لطلب المنافع والمرافق من الحطب والصيد وغيرها، وتصير مواضع الزروع والغروس والنبات بلدانا وقرى ومدنا يسكنها الناس.

واعلم يا أخي أن هذه البحار التي ذكرنا أنها كالمستنقعات على وجه الأرض وبينها جبال شامخة، وهي كالمسنيات لها، وهي متصلة بعضها ببعض، إما بخلجان بينها على ظاهر الأرض، وإما بمنافذ لها وعروق في باطن الأرض، وإن في وسط هذه البحار جزائر كثيرة صغارا وكبارا وأنهارا، ومنها عامرة بالناس فيها مزارع وقرى ومدن وممالك، ومنها براري وقفار فيها جبال وآجام تسكنها سباع ووحوش وأنعام وأنواع من الحيوانات لا يعلم كثرتها إلا الله، وفي وسط تلك الجزائر بحيرات صغار وكبار، وأنهار وغدران وآجام، ومنها ما مياهها عذبة ومنها مالحة شديدة الملوحة، ومنها دون ذلك مختلفة أحوالها وأوصافها، فلنذكر طرفا من عللها ليعلم حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.

أما علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وبروزها على سواحلها وشدة تلاطم أمواجها وهبوب الرياح في وقت هيجانها إلى الجهات الخمس في أوقات مختلفة من الشتاء والصيف والربيع والخريف، أوائل الشهور وأواخرها، وساعات الليل والنهار، فهي من أجل أن مياهها إذا حميت في قرارها، وسخنت لطفت وتحللت وطلبت مكانا أوسع مما كانت فيه قبل، فيتدافع فيه بعض أجزائها إلى الجهات الخمس فوقا وشرقا وجنوبا وشمالا وغربا للاتساع، فيكون في الوقت الواحد على سواحلها رياح مختلفة في جهات مختلفة، وأما علة هيجانها في وقت دون وقت فهو بحسب شكل الفلك ومطارح شعاعاته على سطوح تلك البحار من الآفاق والأوتاد الأربعة واتصالات القمر بها عند حلوله في منازله الثمانية والعشرين، كما هو مذكور في كتب أحكام النجوم، وأما علة مدود بعض البحار في وقت طلوعات القمر ومغيبه دون غيرها من البحار فهي من أجل أن تلك البحار في قرارها صخور صلبة، فإذا أشرق القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح شعاعاته إلى تلك الصخور والأحجار التي في قرارها، ثم انعكست من هناك راجعة فسخنت تلك المياه وحميت ولطفت وطلبت مكانا أوسع وارتفعت إلى فوق ودفع بعضها بعضا إلى فوق، وتموجت إلى سواحله وفاضت على سطوحها، وأرجعت مياه تلك الأنهار التي كانت تنصب إليها إلى خلف، فلا يزال ذلك دأبها ما دام القمر مرتفعا إلى وتد سمائه، فإذا انتهى إلى هناك وأخذ ينحط سكن عند ذلك غليان تلك المياه، وبردت وانضمت تلك الأجزاء، وغلظت ورجعت إلى قرارها وجرت الأنهار على عاداتها، فلا يزال ذلك دأبها إلى أن يبلغ القمر إلى أفق تلك البحار الغربي منها، ثم يبتدئ المد على مثل عادته، وهو في الأفق الشرقي، ولا يزال ذلك دأبه حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض، فينتهي المد من الرأس، ثم إذا زال القمر من وتد الأرض أخذ المد راجعا إلى أن يبلغ القمر إلى أفقه الشرقي من الرأس و@QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، فإن قيل: لم لا يكون المد والجزر عند طلوع الشمس وإشراقها على سطوح هذه البحار؟ فقد بينا علة ذلك في رسالة العلل والمعلول، فاطلبها من هناك إن شاء الله تعالى.

وأما علة اختلاف تصاريف الرياح من الجهات الست في أوقات الليل والنهار والشتاء والصيف، فقد ذكرناها في رسالة الآثار العلوية.

نامعلوم صفحہ