162

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

اصناف

واعلم يا أخي بأن الزوايا التي تحدث من انعكاس شعاعات الكواكب والشمس من وجه الأرض ثلاثة أنواع: حادة وقائمة ومنفرجة، وهذه الزوايا كلها مسخنة للمياه والأرض والهواء محركة لها ، ولكن أشدها إسخانا الزوايا الحادة، ثم القائمة، ثم المنفرجة، ولما كانت الزوايا المنفرجة بعضها أشد انفراجا من بعض، والحادة بعضها أحد من بعض، والزوايا القائمة كلها متساوية احتجنا أن نبين متى تكون الزوايا منفرجة، ومتى تكون قائمة، ومتى تكون حادة.

فنقول: إنه إذا ابتدأت الشمس من الأفق أو القمر أو أي كوكب كان، وأشرقت على سطح الأرض والبحار، فإن زوايا شعاعاتها كلها تنعكس منفرجة في غاية الانفراج، ثم لا تزال كلما ارتفعت قل انفراجها وتضايقت، حتى إذا صار الارتفاع خمسا وأربعين درجة صارت زوايا انعكاس الشعاع كلها قائمة في تلك البقعة حسب، فإذا زاد الارتفاع نقصت الزوايا وضاقت وصارت حادة، وكلما ارتفعت وزاد ارتفاعها زادت الزوايا حدة، إلى أن تسامت الكواكب البقعة فتنطبق الزوايا وتلتقي الأضلاع، فإذا زالت إلى ناحية المغرب انفصلت الأضلاع وانفتحت الزوايا الحادة في غاية الحدة، وكلما انحطت الشمس أو أي كوكب كان ازدادت الزوايا انفراجا إلى أن يصير الارتفاع من جهة المغرب خمسا وأربعين درجة مرة ثانية، وتصير الزوايا كلها قائمة مرة أخرى، فإذا نقص الارتفاع عن خمس وأربعين درجة صارت الزوايا كلها منفرجة، وكلما انحطت الكواكب إلى المغرب انفرجت الزوايا إلى وقت المغرب، فتصير كلها في غاية الانفراج كما كانت غدوة، فمن أجل هذا صارت أنصاف النهار أشد حرارة من طرفيه؛ لأن الزوايا بالغدوات والعشيات تكون منفرجة، وفي أنصاف النهار حادة، وفيما بين الوقتين قائمة، ويكون الجو متوسطا ما بين الحر والبرد، ولا تكون أنصاف نهار الشتاء شديدة الحر كما تكون أنصاف نهار الصيف؛ لأن ارتفاع الشمس في الشتاء لا يبلغ خمسا وأربعين درجة.

وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى ذكره فإنا نقول: إن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم ستة عشر ألف ذراع ارتفاعا في الهواء، وأقله ما يطابق سطح الأرض، ومن الدليل على أن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم هذا المقدار هو أن أعلى جبل يوجد في الأرض لا يجاوز ارتفاع رأسه في الهواء هذا المقدار، وأن أعلى هذه الجبال لا يبلغ ارتفاع الغيوم رءوسها وإنما يمنعها شدة البرد المفرط هناك؛ لأن الرافع للغيوم في الهواء هي حرارة الجو من إسخان الكواكب له بمطارح شعاعاتها وانعكاس تلك الشعاعات من سطح الأرض والبحار على زوايا حادة كما بينا قبل، وأنه أحد ما يتكون الزوايا على سطح الأرض، فأما في الهواء فإنه كلما ارتفع فإن أضلاع تلك الزوايا تنفرج وتتسع وتقبل التسخين هناك ويضعف فعلها ويضمحل تأثيرها في العلو فيغلب البرد هناك.

واعلم يا أخي أن أول ما يقبل الهواء من التغييرات والاستحالات هو النور والظلمة والحر والبرد ثم ما يحدث فيه من اختلاف الرياح من كثرة البخارات المتصاعدة والدخانات الساطعة المطبقة وتتبعها الزوابع والهالات والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والهزات، ثم الأمطار والطل والندى والصقيع والثلوج والبرد وقوس قزح والشهب وكواكب الأذناب، وما يتبع هذه من هيجان البحار والمد والجزر في البحار والأنهار.

واعلم يا أخي أن هذه التغييرات التي تكون في الجو لما كان يحدث بعضها في سمك كرة النسيم وبعضها في سمك كرة الزمهرير وبعضها في سمك كرة الأثير وبعضها في السطوح المشتركة بينها تحتاج إلى تفصيلها واحدة واحدة، ونبدأ أولا بشرح حال السطوح. وذلك أن السطوح نوعان مشتركة ومتداخلة فالمشتركة مثل سطح الماء والهواء والسطح الذي بين الدهن والماء فإنه ليس بين الجسمين إلا فاصل مشترك يفصل أحدهما عن الآخر فصلا وهميا فقط، وأما السطح المتداخل فمثل سطح الماء الواقف في الطين والرمل فإن الأجزاء الأرضية متداخلة لأجزاء الماء، وأجزاء الماء متداخلة لأجزاء التراب، فلا يكون بينهما فاصل مشترك يفصل بينهما.

واعلم يا أخي أن من السطوح ما يقارب طبيعة الجسمين المتماسين، ومنها ما لا يقارب مثل سطح الهواء من أسفل مما يلي الهواء فإن تلك الأجزاء ألطف من سائر الأجزاء التي تلي أسفل مما يلي الأرض، وكذلك سطح الهواء المحيط بالنيران التي عندنا فإنه يكون أسخن من سائر أجزائه البعيدة عن النار، وكذلك سطح النار مما يلي الهواء المحيط به أقل حرارة من سائر أجزائه الباقية، وأما سطوح الأجسام الصلبة مثل الحديد والخشب والحجر وما شاكلها إذا تجاورت فلا يعرض لها هذا الوصف.

وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى ذكره فإنا نقول إن سطح كرة الأثير الذي يلي فلك القمر مشترك غير متداخل الأجزاء، وكذلك سطوح أكر الأفلاك والكواكب كلها، وقد ظن كثير من الطبيعيين أن بين كرة الزمهرير والأثير سطحا متداخلا غير مشترك، وليس الأمر كما ظنوا؛ بل هو كما نبين بعد. فأما بين سطح كرة النسيم وبين كرة الزمهرير فنبين أنه غير مشترك؛ بل متداخل كسطح النار والهواء والأرض، وأما سطح كرة النسيم مما يلي الأرض فتبين أنه متداخل الأجزاء أيضا إلى عمق الأرض بحسب تخلخل الأجزاء الأرضية إلى نهاية ما، ثم يقف ولا يدخل إلى أكثر من ذلك، ومن الدليل على ذلك ما يعرض لحافري المعادن إلى أسفل، حتى إنهم ربما يحتاجون لترويح النسيم هناك بالمنافخ والأنابيب ليستنشقوا النسيم ويضيء سرجهم هناك، فمتى انقطع النسيم لعارض طفئت سرجهم واختنق من كان في المعادن فمات، ولا يمكن أن يكون في المواضع التي لا يخترقها النسيم حيوانات، كما بينا في رسالة الحيوان.

واعلم يا أخي أن الهواء بحر واقف لطيف الأجزاء خفيف الحركة سريع السيلان سهل القبول للتغييرات والحوادث، وقد بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفية قبوله للنور والظلمة والأصوات والروائح، وكيفية قبوله البرد والحر في رسالة الكون والفساد، ونريد أن نصف في هذا الفصل كيفية حدوث الرياح وكمية أنواعها وجهاتها واختلاف تصاريفها، وما العلة المحركة لها في وقت دون وقت وفي بلد دون بلد، ونبين أيضا كيفية سياقة الغيوم من البحار إلى البراري والقفار ورءوس الجبال، وكيف تهز السحاب حتى يهطل القطر، ولكن نحتاج قبل ذلك أن نذكر حالات القمر ومنازله واتصالاته بالكواكب التي هي الموجبة لإثارة البخارات والدخانات والتسخين الموجبة لكون الرياح فنقول: إن للقمر في الفلك ثمانية وعشرين منزلا كما ذكر الله تعالى: @QUR07 والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم.

واعلم يا أخي أن لهذه المنازل خواص يظهر تأثيرها في هذه الأركان الأربعة، وفي المكنونات عند نزوله يوما بيوم وليلة بليلة، وللشمس والكواكب أيضا اتصالات بالكواكب بعضها ببعض يقوي فعلها، وتأثيرها فيها يطول شرحه، وهي مذكورة في كتب النجوم، ولكن نذكر منها ما لا بد من ذكره في هذا الفصل، وذلك أن من تلك المنازل ما يقوى أفعاله في إثارة البخار من البحار والبطائح والآجام، ومنها ما يقوى أفعاله في إثارة الدخانات من وجه الأرض والبراري، ومنها ما يقوى فعله في تبريد الهواء وزيادة الماء، ومنها ما يقوى فعله في إسخان الهواء ونقصان المياه، وخاصة إذا اتفق نزول القمر بمنزل واتصاله بكوكب مشاكل فعله لخاصية المنزل.

واعلم أن الريح ليست شيئا سوى تموج الهواء بحركته إلى الجهات الست، كما أن أمواج البحر ليست شيئا سوى حركة الماء وتدافع أجزائه إلى الجهات الأربع، وذلك أن الماء والهواء بحران واقفان، غير أن أجزاء الماء غليظة ثقيلة الحركة، وأجزاء الهواء لطيفة خفيفة الحركة.

نامعلوم صفحہ