رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
اصناف
فصل
واعلم - إن كنت محبا لأهل العلم والحكمة - أنك تحتاج أن تسلك طريق أهلها، وهو أن تقتصر من أمور الدنيا على ما لا بد منه وتترك الفضول وتجعل أكثر همتك وعنايتك في طلب العلوم ولقاء أهلها ومجالستهم بالمذاكرة والبحث، وأن تروض نفسك بالسيرة العادلة التي وصفت في كتب الأنبياء عليهم السلام، وبالنظر في هذه العلوم التي تقدم ذكرها، وهي التي كانوا يروضون أولاد الحكماء بها، ويخرجون بها تلامذتهم ليقوى فهمهم على النظر في الأمور الإلهية التي هي الغرض الأقصى في المعارف.
ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصور المجردة من الهيولى، وهي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد والآفات كما يعرض للأمور الجسمانية، واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأسر الطبيعة التي وقعنا فيها بجناية كانت من أبينا آدم - عليه السلام - حين عصى ربه فأخرج هو وذريته من الجنة التي هي عالم الأرواح، وقيل لهم: «اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فيها تموتون ومنها تخرجون» فقد قيل في المثل: إن أول أناس إذا نفخ في الصور وشق عليهم القبور يوم البعث والنشور وقيل: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب هو عالم الأجسام ذو الطول والعرض والعمق، فاجتهد يا أخي في معرفة هذه المرامي والرموز التي ظهرت في كتب الأنبياء - عليهم السلام - لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف الربانية، وتعيش بحياة العلوم الإلهية، وتسلم من الآفات الطبيعية.
واعلم أن النفس بمجردها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحدثان؛ لأن هذه كلها تعرض لها من أجل مقارنتها للجسد؛ لأن الجسد جسم قابل للآفات والفساد والاستحالة والتغير، فأما النفس فإنها جوهرة روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفة أنفسهم لتركهم النظر في علم النفس والبحث عن معرفة جواهرها والسؤال من العلماء العارفين بعلمها، ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة، والخروج من ظلمة الأجسام لشدة ميلهم في الخلود إلى الدنيا، واستغراقهم في الشهوات الجسمانية، والغرور باللذات الحيوانية، والأنس بالمحسوسات الطبيعية، ولغفلتهم عما وصف في الكتب الإلهية والنواميس الشرعية النبوية من نعيم الجنان، وما في عالم الأرواح من الروح والريحان والنعيم والسرور واللذة والكرامة وبقاء الأبد التي وعد المتقون: «فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات والنخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يؤمنون ...» الآية.
وإنما قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء - عليهم السلام - وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء مما يقصر الوصف عنه من لطيف المعاني، ودقائق الأسرار، فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب، وصيروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم وأجسادهم مالكة لنفوسهم، وسلطوا الناسوت على اللاهوت، والظلمة والشياطين على النور والملائكة، وصاروا من حزب إبليس وأعداء الرحمن.
فهل لك يا أخي بأن تنظر لنفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلب نجاتها، وتفك أسرها، وتخلصها من الغرق في بحر الهيولى وأسر الطبيعة وظلمة الأجسام، وتخفف عنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها عن الترقي إلى ملكوت السماء والدخول في زمر الملائكة والسيحان في فسحة عالم الأفلاك، والارتفاع في درجات الجنان، والتشمم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن، وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء، وادين لك كرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم، قد خلعوا أنفسهم من خدمة أبناء الدنيا، وجعلوا عنايتهم وكدهم في طلب نعيم الآخرة، بأن تسلك مسلكهم، وتقصد مقصدهم، وتخلص سرك معهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم لتعرف اعتقادهم، وتنظر في علومهم لتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية والمعارف الحقيقية والمعقولات الروحانية والمحسوسات النفسانية، إذا دخلت مدينتنا الروحانية، وسرت بسيرتنا الملكية، وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيد بروح الحياة لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء مخلدا مسرورا أبدا بنفسك الباقية الشريفة الشفافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغير المستحيل الفاسد الفاني، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا للرشاد، حيث كانوا في البلاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.
(تمت رسالة الهيولى والصورة وتتلوها رسالة السماء والعالم.)
الرسالة الثانية من الجسمانيات الطبيعيات الموسومة بالسماء والعالم في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
نامعلوم صفحہ