144

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

اصناف

ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصورتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهر النفس لصور تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.

واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء - عليهم السلام - فإنها لما قبلت بصفاء جوهرها الفيض من النفس الكلية أتت بالكتب الإلهية التي فيها عجائب العلوم الخفية والمعاني اللطيفة والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الطبيعة، وما وضعت من الشرائع العلمية النافعة للكل والسنن العادلة الزكية ، فاستنقذوا بها نفوسا كثيرة غريقة في بحر الهيولى وأسر الطبيعة، ومثل نفوس المحققين من الحكماء التي استنبطت علوما كثيرة حقيقية، واستخرجت صنائع بديعة، وبنت هياكل حكيمة، ونصبت طلسمات عجيبة، ومثل نفوس الكهنة المخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية، وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: «الفلسفة هي التشبه بالآلة بحسب الطاقة الإنسانية.» وإليها أشاروا بقولهم: «من خاصية العقل المنفعل أن يقبل الجزء منه صورة الكل.» وإليها أشار القائل بقوله:

كل الهياكل صورة مذمومة

إلا التي في صورة الأفلاك وأتمها بين الذوات لأنها

قبلت تماما صورة الإدراك كم بين نفس شامخ في ذروة

أو ما يكون حجارة الحكاك

وإليها أشار القائل بقوله:

وما كان إلا كوكبا كان بيننا

فودعنا جادت معاهده رهم وأصبح روحا لم يقيده منزل

وأضحى بسيطا ليس يدركه وهم رأى المسكن العلوي أولى بمثله

ففاز وأضحى بين أشكاله نجم

واعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعة واحدة مبذولة لها دائم الأوقات، لكن الأنفس الجزئية لا تطيق قبولها إلا شيئا بعد شيء في ممر الزمان، والمثال في ذلك فيض الأنفس الجزئية بعضها على بعض؛ وذلك أن الأب الشفيق والمعلم الحريص على تعليم تلميذه يود أن يعلم كل ما يحسنه ويعلمه لتلميذه دفعة واحدة، ولكن نفس المتعلم لا تقبل إلا شيئا بعد الشيء على التدريج.

ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعة واحدة هو لأجل استغراقها في بحر الهيولى وتراكم ظلمات الأجسام على بصرها؛ لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية وغرورها باللذات الجرمانية، فمتى انتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وصحت من سكرة عمايتها، وأفاقت من غمرة غشيتها، وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال لحقت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهية، ونالت تلك الملاذ الروحانية والسرورات الديمومية الأبدية التي كلها أشرف وأعلى منزلة مما كان فوق ما تقدم قبله ودون ما يأتي بعده، ومتى هي أعرضت عما وصفنا وأقبلت على طلب الشهوات الجسمانية والزينة الطبيعية بعدت من هناك، وانحطت إلى أسفل السافلين، وغرقت في بحر الهيولى، وغشيتها أمواجها، وتراكمت على بصرها ظلماتها، وإلى هاتين الحالتين أشار - عز اسمه - بقوله تعالى: @QUR016 الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري ... الآية، ثم قال تعالى: @QUR017 أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ... الآية.

(2) فصل في أقاويل الحكماء في ماهية المكان

أما المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن، فيقال إن الماء مكانه الكوز الذي هو فيه، وإن الخل مكانه الزق الذي هو فيه، وعلى هذا القياس مكان كل شيء هو الوعاء الذي هو فيه، وكما يقال إن مكان السمك هو الماء، ومكان الطير هو الهواء، وبالجملة مكان كل متمكن هو الجسم المحيط به، وقيل أيضا إن المكان هو سطح الجسم الحاوي الذي يلي المحوي، وقيل لا، بل المكان هو سطح الجسم المحوي الذي يلي الحاوي، وعلى كلا الرأيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهرا، وقيل إن المكان هو الفصل المشترك بين سطح الجسم الحاوي وسطح المحوي، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان عرضا، وقيل أيضا إن المكان هو الفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهبا طولا وعرضا وعمقا، وإن مكان كل جسم مثله سواء، فإن كان الجسم مدور الشكل، أو مربعا أو مثلثا أو غيرها من الأشكال فإن مكانه مثله سواء لا أصغر ولا أكبر، حتى قيل في المثل: إن المكان مكيال الجسم، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهرا، واعلم أن الذين قالوا إن المكان هو الفضاء إنما نظروا إلى صورة الجسم ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية وصوروها في نفوسهم وسموها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سموها المكان، وهذا يدل على قلة معرفتهم أيضا بجوهر النفس وكيفية معارفها ومعانيها.

واعلم أن من شرف جوهر النفس وعجائب قواها وظرائف معارفها أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصورها في ذاتها، وتنظر إليها خلوا من الهيولى ، وتفرق بين الهيولى والصورة، وانظر إلى كل واحد منهما تارة مفردة وتارة مركبة، وإن من شدة قوتها الوهمية أنها تارة تنظر إلى العالم وكأنها خارجة منه، وتارة تنظر إليه وكأنها داخلة فيه، وربما ترفع العالم من الوجود أصلا، وربما تقدمت الزمان الماضي، ونظرت إلى بدء كون العالم، وبحثت عن علة كونه بعد أن لم يكن شيئا، وربما سبقت الزمان المستقبل، ونظرت إلى فناء العالم قبل حينه، وتصور كيف يكون ذلك، وإن من شدة قوتها أيضا أنها تضاعف العدد إلى ما لا نهاية له، وتجري المقادير إلى ما لا نهاية لها، وتتوهم أيضا أن خارج العالم فضاء إلى ما لا نهاية له، وما يشاكل هذا من أفعالها العجيبة، وما يتصور بقوتها الوهمية، فمن ظن أن الفضاء هو جوهر قائم بنفسه وأن خارج العالم فضاء لا نهاية له، وأن المدة جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزأ أبدا وما شاكل هذه المسائل، فكل هذه الأقاويل قالوها لقلة معرفتهم بجوهر النفس وعجائب قواها وكيفية تصرفها في المعارف والعلوم.

نامعلوم صفحہ