100

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

اصناف

واعلم يا أخي بأنك إذا تأملت ونظرت إلى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية واعتبرت أحوالهم وما هم عليه ومتعلقون به من حفظ هذه الأمور الثمانية وحرصهم على مراعاتها بشرائطها كما وصفنا، ثم نظرت بعين قلبك ونور بصيرتك وصفاء جوهرك إلى جملتهم وتخيلتها في وهمك وفكرت؛ رأيت الناموس مملكة روحانية ورأيت أتباع صاحب الناموس وأنصاره يسعون فيه ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، ورأيت واضع الناموس قد استوى على عرشه نافذا فيهم أمره ونهيه، وهم حاملون عرشه يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون لمن في الأرض، وهم من بعدهم من أتباعهم؛ لأنهم كالسماء لمن بعدهم، ومن بعدهم كالأرض لهم، ولمن قبلهم من أسلافهم .

واعلم يا أخي بأن كل طائفة من هذه الأصناف الثمانية تحتاج في حفظها ركنا من أركان الناموس إلى شرائط معلومة وخصال محمودة وأخلاق جميلة؛ نحتاج أن نشرحها ونصفها: أما التي يحتاج إليها القراء والحفظة من الأخلاق الجميلة والخصال المحمودة والشرائط المعلومة، فأولها فصاحة الألفاظ وتقويم اللسان وطيب النغمة وجودة العبارة وسرعة الحفظ وجودة الفهم ودوام الدرس والنشاط في القراءة والتواضع لمن يتعلم منه والتعظيم له ومعرفة حقه وحرمته والرفق بمن يعلمه والشفقة عليه وقلة الضجر من إبطاء فهمه وحفظه وترك ضيق الصدر من تلقينه وقلة الطمع في أخذ العوض منه وقلة المنة عليه بما يعلمه.

وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق أصحاب الأخبار وحملة الأحاديث، فأولها جودة الاستماع واستيفاء الكلام وضبط الألفاظ على رسمها وتقييدها بالكتابة والتحرز والتحرج والحذر من الزيادة فيها والنقصان عن تمامها والصدق وحسن الأداء وتجنب الكذب ثم الحكاية عنها بهيئتها وبذلها ونشرها لمن سأل عنها أو يصلح له الإخبار عنها، وطيها وصولا عمن لا تصلح له ولا تليق به؛ كل ذلك نصيحة للإخوان ونصرة للدين ولواضع الناموس وابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه في الآخرة.

وأما التي يحتاج إليها الفقهاء والقضاة والمفتون من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المحمودة فيها والقيام منها بما هم بسبيله، فأولها: معرفة الرتب التي رتبها واضع الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والأحكام.

ثم معرفة القياس وكيفية استخراج الفروع من الأصول في الفتاوى والمسائل الواردة التي ليس لها ذكر في الأصول، والتثبت والتأني في الفتيا والاستقصاء في استفهام السؤال بجميع شرائطه، ثم قلة الترخيص في الشبهات من المحذورات وترك التحريج في المشكلات ودرء الحدود بالشبهات وقلة الخلاف مع أبناء الجنس وترك الحسد للأقران وبذل النصيحة للإخوان والشفقة والتحنن على الجهال، وترك الافتخار في الإصابة في الأحكام، وقلة الشنعة على العلماء بزلاتهم، والاحتمال لأذية الجيران، وقلة الرغبة في حطام الدنيا، وعفة الفرج وترك الطمع والقيام بواجب أحكام الناموس، وأن لا يكون قوله مخالفا لعمله.

وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المفسرون لألفاظ التنزيل، فأولها معرفة غرض صاحب الناموس في إيراده التنزيل واستعماله الألفاظ المشتركة المعاني، ثم أن يكون له اتساع في معرفة تصاريف الكلام والأقاويل، وما يحتملها من المعاني مما يؤكد غرض واضع الناموس، ويكون له جودة بحث وبعد غور في استخراج المعاني ولطف العبارة عنها بحسب ما تحتمل عقول المستمعين، ويقرب من فهم المتعلمين، ويكون له من يقظة القلب ما لا يناقض أقاويله وعباراته ولا في المعاني التي يشير إليها في تفسيره لألفاظ تنزيل واضع الناموس وأقاويله وكلامه وبيانه.

واعلم يا أخي بأنه متى لم يكن المفسر عارفا بغرض واضع الناموس في إيراده الألفاظ المشتركة المعاني في تنزيله وأقاويله وعباراته وبيانه، تخيل له من تلك الألفاظ من المعاني غير ما أشار إليه واضع الناموس، وتوهم سوى ما أراد فيها، فأفهم المستمعين من تفسيره ما تخيل هو، وعلم المتعلمين ما علم به، فصار له ذلك دينا ومذهبا غير دين واضع الناموس وطريقته، وكان مخالفا له في اعتقاده في الشريعة وهو لا يشعر، ويكون بذلك مفسدا في أحكام الناموس، وهو يظن أنه من المصلحين ولا يدري، فاحذر يا أخي من هذا الباب؛ فإن فساد ديانات واضعي الناموس وأحكام شرائعهم أكثرها من هذا الباب يكون.

وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط أنصار واضع الناموس وغزاة أعدائه والحافظون ثغور بلاد أتباعه وأنصاره أن يكون لهم تعصب للدين وغيرة على حرمة الناموس، وحمية من أجل فساد يدخل عليه، وحنق على الأعداء المجاهرين بالعداوة لواضع الناموس ودينه، المريدين فساد أحكامه وقلة الهيبة منهم، وشجاعة النفس عند البراز، وخفة الحركة عند الجولان، وتيقظ القلب من غدر العدو، وأخذ الحذر في أوقات الغفلة وقلة الاغترار بقلتهم وطلب الحيلة للظفر ما استوى من غير قتال، ومخادعة في الحروب، ومبادرة في البراز إلى الأقران والأكفاء وصبر عند اللقاء، وكثرة الذكر لله - عز وجل - والاستعانة به، والأنفة من الفرار وما يكون فيه من العار، وقلة الرغبة في النهب، والتقية من هتك الحريم عند الظفر ، وكثرة الشكر لله، وترك الإفساد عند هزيمة العدو، ورحمة الأسير، وقبول الصلح عند الهدنة، والوفاء بالعهد، وترك الإعجاب عند كثرة عدد الأعوان والأنصار.

وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط الزهاد والعباد والمذكرون للناس أمر الآخرة وذكر المعاد؛ فأولها التي هي أساس الدين وملاك الأمر القناعة باليسير من حطام الدنيا، والرضا بالقليل من متاعها ولذاتها، وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذاتها، وترك طلب المنزلة والجلالة والكرامة، وقلة الحرص في طلب الحاجات فيها، والاشتغال بطلب العلم، والعبادة بالصوم والصلاة مع أبناء الجنس، وترك الخلطة في الراغبين فيها من أبنائها، والتفرد في الخلوات، وكثرة ذكر الموت وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها، والنظر إلى آثار القرون الماضية، والاعتبار بها، والدور الخربة والمنازل الدارسة العافية للأمم الخالية، والنظر في كتب الحكماء وأخبار سير الملوك الماضية، والتفكر في الأمثال المضروبة على ألسنة الحكماء ذوي التجربة في وصفهم الدنيا واعتبارهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، والتيقن بأمر المعاد، وشدة الاشتياق إلى نعيم الآخرة دار القرار مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط خلفاء واضع الناموس، وهم طائفتان؛ إحداهما خلفاؤه في الملك والرياسة في أمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس على أهله؛ فقد أفردنا له رسالة؛ إذ كان هذا الباب يحتاج إلى خطب طويل وشرح كثير.

نامعلوم صفحہ