تتصل بمارج فرنش، وهي مثلها من تلميذات الآنسة مارسيللا القديمات، والتي أرسلت ولديها التوءمين لتلقي الدروس لديها، فتتعاطفان لوهلة وتتواعدان على الذهاب سويا كي تؤازر إحداهما الأخرى. وتتذكران السنة قبل الماضية حينما كان المطر يهطل وكانت القاعة الضيقة مليئة بمعاطف المطر، مكومة فوق بعضها لأنه لم يكن ثمة متسع لتعليقها؛ وكانت على الأرضية الداكنة برك صغيرة كونتها قطرات الماء التي كانت تتقاطر من المظلات. تكسرت فساتين البنات بسبب اضطرارهن للتكدس، ولم تكن نوافذ الغرفة تفتح. والعام الماضي أصيب أحد الأطفال بالرعاف. «بالطبع لم تكن هذه غلطة الآنسة مارسيللا.»
تقهقهان في يأس. «لا، لكن مثل هذه الأمور لم تكن تحدث من قبل.»
وهذا صحيح، هذا هو الأمر برمته. ثمة شعور لا يمكن التعبير عنه بالكلمات حيال الحفلات التي تقيمها الآنسة مارسيللا؛ فالأمور تزداد خروجا عن السيطرة، وقد يحدث أي شيء. بل إن المرء في لحظة ما - وهو مستقل سيارته إلى حفلة كهذه - يراوده سؤال مثل: هل سيتواجد أي شخص غيري هنا؟ فأحد أكثر الأمور إثارة للقلق بشأن الحفلتين أو الثلاث الأخيرة كان يتمثل في التناقص المستمر في أعداد مرتادي هذه الحفلات؛ أي التلاميذ القدامى الذين يبدو أن أطفالهم هم التلاميذ الجدد الوحيدون الذين تنالهم الآنسة مارسيللا. ويكشف حلول شهر يونيو من كل عام عددا جديدا وكبيرا دون شك من المتخلفين عن الحضور. فابنة ماري لومبر لم تعد تأخذ دروسا لدى الآنسة مارسيللا، وكذلك ابنة جون كريمبل. ماذا يعني هذا؟ هكذا تتساءل أمي ومارج فرنش؛ وهما المرأتان اللتان انتقلتا إلى ضواحي المدينة واعتراهما في بعض الأحيان شعور بأنهما تخلفتا عما يحدث؛ لدرجة أن قدرة كل منهما على تمييز الصواب صارت مشوشة. إن دروس البيانو الآن لم تعد ذات أهمية كبرى مثلما كانت في السابق، والجميع يعرف ذلك. بل يعتقد أن الرقص أكثر نفعا لتطور الطفل تطورا كاملا؛ والأطفال - البنات منهم على الأقل - لا يمانعون في تعلمه قدر ممانعتهم في تعلم دروس البيانو. لكن كيف لك أن توضح ذلك للآنسة مارسيللا، التي تقول: «كل الأطفال بحاجة للموسيقى. كل الأطفال يحبون الموسيقى في صميم قلوبهم»؟ من المعتقدات الراسخة لدى الآنسة مارسيللا أنها تستطيع رؤية ما في قلوب الأطفال، وأنها تجد فيها كنزا من النوايا الطيبة والحب الفطري لكل ما هو خير. إن الخداع الذي تمارسه عاطفيتها، بوصفها عانسا، على حكمها السليم، خيالي ومبالغ فيه، فهي تتحدث عن قلوب الأطفال كما لو كانوا من القديسين؛ وأمام هذا لا يدري أي أب أو أم ما يقول.
في الأيام الخوالي، حينما كانت أختي وينفريد تأخذ دروسا في البيانو، كان المنزل يقع في حي روسدل، حيث كانت تقام الحفلة دائما. منزل ضيق، مبني بالقرميد باللونين الأسود والتوتي، ذو شرفات زخرفية صغيرة كئيبة المنظر، تبرز في تقوس من نوافذ الطابق الثاني، من دون أبراج في أي جزء منه، لكن له طابعا مبرجا بعض الشيء؛ منزل معتم، مبهرج، سيتفنن الشعراء في وصف قبحه؛ إنه منزل العائلة. وفي روسدل لم تكن الحفلة السنوية تجري على غير ما يرام. كانت دائما ما تسبق تقديم الشطائر فسحة قصيرة مثيرة للحرج؛ لأن المرأة التي كانت قائمة لديهم على إعدادها في المطبخ لم تكن معتادة على الحفلات، وكانت بطيئة إلى حد ما، لكن عندما تظهر الشطائر كانت دائما ما تكون لذيذة للغاية، وتحتوي أشياء صحية ومألوفة مثل: الدجاج ولفائف الهليون؛ طعام دور حضانات لكنه معد جيدا. وكان العزف على البيانو، كالعادة، عصبيا ومتقطعا أو نكدا وكئيبا، يصاحبه بث شعور بالمفاجأة والإثارة المصاحبتين لكارثة مثيرة. من المفهوم أن النظرة المثالية التي كانت الآنسة مارسيللا ترى بها الأطفال، ورقتها وسذاجتها في هذا الصدد، كل هذا جعلها تكاد تكون مدرسة عديمة الجدوى؛ فهي لم تكن تستطيع أن تنتقد أي طفل إلا بأكثر الطرق رقة واعتذارا، أما مديحها لأحدهم فكان غير حقيقي على نحو يتعذر تبريره، فكان التعامل معها يتطلب أن يتمتع التلميذ بجد وحرص استثنائيين كي يخرج من تحت يديها يعزف بأداء مشرف.
لكن في المجمل، كانت المسألة في تلك الأيام تتسم بالإحكام، كان لها نسق تسير عليه، وطابع خاص لا يعكر صفوه أي شيء والذي عفى عليه الزمان. كان كل شيء يجري على النحو المتوقع؛ فكانت ميس مارسيللا بنفسها تنتظر في رواق المدخل ذي الأرضية المبلطة والرائحة المكتومة التي تشبه رائحة غرف تخزين الأردية الكهنوتية في الكنيسة، واضعة مساحيقها، ومصففة شعرها في تسريحة عتيقة لا تتخذها إلا لهذه المناسبة فحسب، ومرتدية فستانا يصل للأرض، مرقطا بلطخات خوخية ووردية ربما أخذت من قماش تنجيد قديم؛ كانت بهيأتها هذه لا تدهش أحدا سوى أصغر الأطفال. لم يكن الظل الذي يقبع خلفها لآنسة مارسيللا أخرى - تزيد عنها قليلا في الحجم والسن، وتفوقها كآبة بعض الشيء، كان وجودها يغدو منسيا بين يونيو من كل عام إلى يونيو الذي يليه - ظلا كريها، ولو أنه كان - ولا شك - يمثل حقيقة دامغة بأن من المستحسن ألا يحوي العالم وجها آخر بهذا الشكل سوى هذين الوجهين فقط، كلاهما طويل بلون الحصى، يوحي بالطيبة والقبح في الوقت نفسه، ذو أنف ضخم، وعينين حمراوين خرزيتين حانيتين وضعيفتي البصر. لا بد أن هذا القبح صار في نهاية المطاف من قبيل حسن الحظ بالنسبة لهما، حماية لهما من أن تترك صروف الحياة أثرها عليهما بطرق عديدة، و«مستحيلة»، فقد كانتا تبدوان مرحتين وطفوليتين كأنهما منيعتان أمام الهموم؛ بدتا عديمتي الجنس، مخلوقتين بريتين ولطيفتين في نفس الوقت، غريبتين لكنهما أليفتان، تعيشان في منزلهما الواقع في روسدل بعيدا عن تعقيدات العصر.
في الحجرة التي تجلس بها الأمهات، على الأرائك الصلبة وبعضهن على الكراسي التي تطوى، لسماع الأطفال وهم يعزفون مقطوعات مثل «أغنية الغجر» و«الحداد الطروب» و«المسيرة التركية»، ثمة صورة للملكة ماري، ملكة اسكتلندا، مرتدية ثوبا مخمليا وسترا حريريا، أمام «قلعة هوليرود». كانت توجد أيضا صور ضبابية بنية اللون لمعارك تاريخية، ومجموعة كتب «كلاسيكيات هارفرد»، وأحصنة حديدية لسند حطب المدفأة، وتمثال برونزي للحصان المجنح «بيجاسوس». لم تكن أي من الأمهات تدخن، ولم تكن هناك منافض لرماد السجائر. كانت هذه هي نفس الغرفة، هي نفسها، التي كن يعزفن فيها حينما كن صغيرات؛ هذه الغرفة الكئيبة الموحشة الطراز (كانت الباقة المنسقة من زهور الفاوانيا والاسبيريا المتساقطة منها البتلات فوق البيانو هي لمسة الآنسة مارسيللا الشخصية والخالية من البهجة) كانت لا تبعث على الراحة لكنها في الوقت نفسه تبعث على الطمأنينة. هنا وجدن أنفسهن - عاما تلو الآخر - مجموعة من النساء الشابات المشغولات اللائي قدن سياراتهن على مضض عبر شوارع روسدل المهملة، وظللن يتذمرن لأسبوع قبل الحفلة بسبب الوقت الذي سيضيع، والجلبة التي ستصحب تنسيق ملابس الصغار، وفوق هذا كله، الملل الذي سيلاقينه، لكنهن اجتمعن معا بدافع من الولاء الزائف نوعا ما، لا للآنسة مارسيللا نفسها بقدر ما هو لطقوس طفولتهن، لنمط حياة أكثر انضباطا كان يتفكك حتى في ذلك الوقت لكنه ظل باقيا، باقيا على نحو غير مفهوم، في غرفة معيشة الآنسة مارسيللا. أخذت البنات الصغيرات في فساتينهن ذات التنانير اليابسة كالأجراس يتحركن أمام الجدران الداكنة التي عليها أرفف الكتب، وبداخلهن إدراك طبيعي لقواعد هذا الطقس الاحتفالي، بينما تطل من وجوه أمهاتهن نظرة ضجرة مزعجة توحي بالإذعان، وشيء من الحنين الأحمق والمتصنع نوعا ما الذي يعينهن على اجتياز أي طقس عائلي طويل المدة. كن يتبادلن ابتسامات تبدي أنهن لا تعدمن لياقة السلوك، لكنها تعبر عن دهشة هزلية مألوفة من تكرار الأمور على نفس النحو، بما في ذلك حتى: مجموعة المقطوعات المختارة التي ستعزف على البيانو، ونوعية الحشو داخل الشطائر؛ وهكذا، فإنهن يدركن ما تعيشه الآنسة مارسيللا وأختها وما تنطوي عليه حياتهما من ثبات غير معقول وتكرار غير واقعي بالمرة.
بعد عزف المقطوعات على البيانو، يأتي وقت طقس قصير دائما ما يشيع شيئا من الحرج. فقبل أن يسمح للأطفال بأن يفروا إلى الحديقة - الضيقة جدا، حديقة منزل ببلدة، لكنها تظل حديقة، لها سور شجري وظلال ولها حد من زهور السوسن الصفراء - توضع طاولة طويلة مغطاة بورق الكوريشة بلوني هدايا الأطفال حديثي الولادة، الوردي والسماوي، وتبدأ المرأة المسئولة عن المطبخ في رص أطباق الشطائر، والآيس كريم، وبعض مشروبات معلبة عديمة الطعم أنيقة التعليب؛ كان الأطفال يضطرون، واحدا واحدا، إلى قبول هدايا نهاية العام، الملفوفة كلها والمربوطة بشرائط، من الآنسة مارسيللا. لم تكن هذه الهدية تحرك أي حماسة لدى الأطفال عدا الجديد الساذج منهم الذي لا دراية له بما تحوي هذه الهدايا. كانت عادة ما تحوي كتبا، وكان السؤال الذي يطرأ على الذهن هو: أين عثرت على هذه الكتب؟ كانت تأتي بها من حصيلة الكتب العتيقة التي توجد في مكتبات مدارس الأحد، وفي عليات متاجر الأشياء المستعملة وأقبيتها، لكنها كانت جميعها متيبسة التغليف، لم تقرأ قط من قبل، جديدة كليا، ذات عناوين من نوعية: «البحيرات والأنهار الشمالية»، «معرفة الطيور»، «حكايات أخرى من جراي آول»، «أصدقاء الإرسالية الصغار». كانت أيضا تقدم صورا مثل: «كيوبيد نائما ومستيقظا»، «بعد الحمام»، «حراس الأمن الصغار»، معظمها كان يمثل ذلك العري الطفولي اللطيف الذي كان اهتمامنا المتشدد بالاحتشام واللياقة يجعلنا نجده في منتهى السخف وإثارة الاشمئزاز. حتى اللعب الموضوعة داخل صناديق صغيرة كان يتبين أنها مملة ولا يمكن اللعب بها؛ حافلة بالقواعد المعقدة وتتيح للجميع الفوز.
لم يكن الحرج الذي تستشعره الأمهات في تلك اللحظة ناجما عن نوعية الهدايا بقدر ما كان ناجما عن معرفتهن برقة حال الآنسة مارسيللا المادية وتشككهن حيال قدرتها على تحمل كلفة هذه الهدايا. وتذكر أن أجرتها لم تشهد زيادة خلال عشر سنوات إلا مرة واحدة فقط لم تحدث فارقا (رغم ذلك، سحبت اثنتان أو ثلاث من الأمهات أبناءهن من دروسها). كانت الأمهات دائما ما يستنتجن أنها لا بد وأن لها مصادر دخل أخرى. كان ذلك واضحا، وإلا لما عاشت في منزل كهذا. ثم إن أختها كانت مدرسة، أو لم تعد تدرس، بل يعتقد أنها تقاعدت لكنها تعطي دروسا خاصة في اللغتين الفرنسية والألمانية. لا بد أن لديهما ما يكفيهما هما الاثنتين. فامرأة مثل الآنسة مارسيللا وأختها ستكون احتياجاتهما بسيطة بالضرورة ولن تحتاجا كثيرا من النقود للإنفاق على معيشتهما.
لكن بعد زوال منزل روسدل، وانتقالهما إلى الكوخ المبني بالقرميد والخشب في شارع بانك، لم تعد تدور هذه الأحاديث حول مصادر الآنسة مارسيللا المادية، وصار هذا الجانب من حياتها يشكل موضوعا جارحا، من الفظاظة وعدم التهذب التحدث بشأنه. •••
قالت أمي: «سأموت إن أمطرت، سأموت من الإحباط إن أمطرت في هذه المناسبة.» لكنها لا تمطر يوم الحفلة، بل إن الطقس يكون حارا للغاية. وجدنا اليوم صيفيا حارا مغبرا ونحن نسير بالسيارة عبر شوارع المدينة وضللنا الطريق بحثا عن شارع بالا.
نامعلوم صفحہ